الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: دعم سبيل الارتقاء إلى مقام الاجتهاد
ليسَ وصولُ المرءِ إلى درجةِ الاجتهادِ المطلقِ في الشريعةِ أمرًا ميسورًا، وإذا أرادَ أحدٌ الوصولَ إلى هذه المرتبة، فلا بُدَّ له مِنْ سلوكِ طريقٍ يوصله إليها، ويُحَبّذُ له سلوك أقصرِ الطرق، وأيسرها.
ولا يصادمُ التمذهبُ الوصولَ إلى درجةِ الاجتهادِ في الشريعةِ، بلْ بإمكانِ المتمذهبِ إذا كان ذا أهليةٍ وتهيُؤ، وجعلَ مِنْ تمذهبِه درجةً يَعْبُر بها إلى ما فوقها، أنْ يكونَ مِن المجتهدين في الشريعةِ.
وقد يصلُ المتمذهبُ إلى درجةِ الاجتهادِ المطلقِ، وقد لا يوصف به، لكن يتحققُ له الاجتهادُ الجزئيُّ في عددٍ مِن المسائل.
ولا يَسَعُ المتمذهبُ الذي تحقق له الاجتهادُ الجزئي، فَأَنِسَ مِنْ نفسِه فقهًا، وسَعَة في العلمِ، ومعرفةً بالأصولِ: أنْ يلتزمَ مذهبَ إمامِه في كلِّ أقوالِه؛ لأنَّه قد يترجحُ عنده بالدليلِ مذهبٌ آخر، فعليه العملُ حينئذٍ بما ترجّحَ عنده
(1)
.
وإذا أجلنا النظرَ في عددٍ مِن العلماءِ المحققين الذين قيل عنهم: إنَّهم بلغوا رتبةَ الاجتهادِ في الشريعة، وجدنا أنَّ غالبَهم قد تخرّجوا في مذاهب فقهيةٍ، وتَرَقَّوا فيها إلى أنْ بلغوا رتبةَ الاجتهادِ في الشريعةِ.
وهذا الأمرُ يدلُّ على أنَّ الترقيَ في دراسةِ الفقهِ وأصولِه عن طريق التمذهبِ، مع العنايةِ بالدليلِ والتعليلِ: مِنْ شَأنِ العلماءِ والمحققين منذ
(1)
انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 93 - 94).
تدوين المذاهبِ واستقرارِها
(1)
؛ إذ كان سبيلُ وصولِ كثيرٍ منهم إلى درجةِ الاجتهادِ في الشريعةِ هو الترقي في سُلّمِ المذهبِ
(2)
.
ويمكنُ القولُ: إنَّه إذا سارَ المتمذهبُ في مذهبِه متدرجًا مترقيًا فيه، متعلّمًا منه
(3)
، مع اهتمامِه وعنايتِه ببقيةِ أوصافِ الاجتهادِ وشروطِه: كالعلمِ بالعربيةِ ونحوها، وكان مع ذلك مهتمًا بتحقيقِ المسائلِ بأقوالِها وأدلتِها، مع عنايته بالأصولِ، والسيرِ عليها، وكانت لديه قريحةٌ جيدةٌ، وعلوٌّ في الهمةِ: فالغالبُ وصولُه إلى مرتبةِ المجتهدين والتحاقُه بهم
(4)
.
يقولُ القاضي عياض بعدما حثَّ الطالبَ على سلوكِ المذهب في طلب العلمِ: "فسبيلُه أنْ يُقلِّد مَنْ يُعَرِّفه أنَّ هذا هو الحقّ، حتى إذا أَدْرَكَ مِن العلَمِ ما قُيّض له، وحَصَلَ منه ما قَسَمَ اللهُ له، وأفلح، وكان فيه محلٌّ للنظرِ والاجتهادِ: انتقل إلى ذلك - أي: إلى درجة المجتهدين - وأدركه"
(5)
.
ويقولُ أكملُ الدين البابرتي: "إنَّما يحصلُ منصبُ الاجتهادِ بممارسةِ تفاريعِ
(6)
في زمانِنا، ولم يكنْ ذلك طريقًا في زمنِ الصحابةِ"
(7)
.
ويقولُ ابنُ مَلَك
(8)
في الموضوعِ ذاتِه: "منصبُ الاجتهادِ في زمانِنا إنَّما
(1)
انظر: مراعاة الخلاف لعبد الرحمن السنوسي (ص/ 115).
(2)
انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 63)، ورسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين (2/ 115).
(3)
انظر: المعيار المعرب للونشريسي (6/ 353).
(4)
انظر: المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 39)، والاجتهاد ومدى حاجتنا إليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 544).
(5)
ترتيب المدارك (1/ 63).
(6)
يظهر أنَّ في الكلام كلمةً ساقطة، ولعل الصواب:"تفاريع الفقه".
(7)
التقرير لأصول فخر الإسلام البزدوي (6/ 263).
(8)
هو: عبد اللطيف بن عبد العزيز بن أمين الدين بن فرشتا، الملقب بعز الدين، المعروف بابن ملك - المشهور بابن فرشتا أي: ابن الملك - كان فقيهًا حنفيا، وأصوليًّا متمكنًا، وعالمًا فاضلًا، مبرزًا في حلِّ عويصات العلوم، متصوفًا محبوبًا عند العامة والخاصة، من مؤلفاته: مبارق الأنوار شرح مشارق الأنوار، وشرح المنار، ورسالة في علم التصوف، وشرح مجمع =
يحصلُ بممارستِه - أي: الفقه - الآن، فهو طريقٌ إليه"
(1)
، أيْ: إلى الاجتهادِ.
ويظهرُ أنَّ مرادَهما بالفقهِ والتفاريعِ الفقهُ المذهبيُّ مع معرفةِ الخلافِ بين الأئمةِ، وأدلةِ أقوالِهم.
ويقولُ شاه ولي الله الدهلوي عن حالِ المشتغل بالفقهِ الذي يريدُ معرفةَ أحكامِ المسائلِ مِنْ أدلتِها: "هذا أمرٌ جليلٌ، لا يتمّ له إلا بإمامِ يتأسى به، قد كُفِيَ معرفةَ فرشِ
(2)
المسائلِ، وإيرادِ الدلائلِ في كلِّ باب بابٍ، فيستعين به في ذلك، ثمَّ يستقلّ بالنقدِ والترجيح، ولولا هذا الإمامُ صَعُبَ عليه، ولا معنى لارتكابِ أمرٍ صعبٍ مع إمكانِ الأمرِ السهلِ"
(3)
.
ويقولُ الشيخُ محمد العثيمين: "العلماءُ المحققون، كشيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية وغيرِه هم مِنْ هذا النوعِ - أي: دَرَسَ مذهبًا، وانتفع بقواعدِه وضوابطِه، مع ردِّه إلى الكتاب والسنةِ - هم محققون، ولهم مذهبٌ معيَّنٌ، ولكنَّهم لا يخالفون الدليلَ إذا تبيّنَ لهم"
(4)
.
وليس مِنْ لازمِ التمذهبِ الوصولُ إلى درجةِ الاجتهادِ المطلقِ في الشريعةِ، بلْ لا يبعد القولُ: إنَّ كثيرًا مِن المتمذهبين في عقودٍ خلتْ لم يخطرْ بِبَالِ أحدِهم الوصولُ إلى درجةِ الاجتهادِ، فضلًا عن بلوغِ درجتِه.
يقولُ الحافظ ابنُ عبد البر: "مَن اقتصرَ على علمِ إمامٍ واحدٍ، وحَفِظَ ما كان عنده مِن السننِ، ووَقَفَ على غرضِه ومقصِده في الفتوى: حَصَلَ على
= البحرين، توفي سنة 885 هـ تقريبًا، وقيل: 801 هـ ورجحه الزركلي. انظر ترجمته في: الضوء اللامع للسخاوي (4/ 329)، وشذرات الذهب لابن العماد (9/ 512)، والفوائد البهية للكنوي (ص / 138)، والفتح المبين للمراغي (3/ 50)، والأعلام للزركلي (4/ 59).
(1)
شرح ابن ملك على المنار (ص/ 824).
(2)
الفَرْش: البسط. انظر: القاموس المحيط، مادة:(فرش)، (ص/ 775).
(3)
الإنصاف في بيان سبب الخلاف (ص/29).
(4)
العلم (ص/158).
نصيبٍ من العلمِ وافر، وحظٍّ منه حسن صالح، فمَنْ قَنعَ بهذا اكتفى، والكفايةُ غيرُ الغنى"
(1)
.
وبإمكاننا أنْ نعرفَ بلوغَ العالمِ درجة الاجتهاد المطلق في الشريعةِ بأحدِ طريقين:
الطريق الأول: إخبارُ العالم عن نفسِه، إنْ كان عدلًا أنَّه بَلَغَ درجةَ الاجتهادِ
(2)
.
الطريق الثاني: أنْ يصفَ أحدُ العلماءِ المعتبرين العالمَ بالاجتهادِ في الشريعةِ.
وسأورِدُ أمثلةً لبعضِ العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد في الشريعة
(3)
:
ممَّن بَلَغَ درجةَ الاجتهاد: القاضي عبدُ الوهاب المالكي
(4)
، والقاضي أبو يعلى
(5)
، وأبو نصرٍ الصباغ الشافعي
(6)
،
(1)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 1134).
(2)
انظر: تيسير الاجتهاد للسيوطي (ص/ 43).
(3)
قد ينازع منازعٌ في بلوغ أحد هؤلاء الأعلام درجة الاجتهاد، وليس المقام مناسبًا لتحقيق القول في كلِّ واحدٍ منهم، بل المقام تمثيل فحسب، وكلُّ مَنْ ذكرتهم قد نصَّ على اجتهاده أحدُ العلماء.
(4)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 123)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/194).
(5)
انظر: المصدرين السابقين.
(6)
انظر: المصدرين السابقين. وأبو نصر الصباغ هو: عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد البغدادي، أبو نصر المعروف بابن الصباغ، ولد سنة 400 هـ كان شافعي المذهب، علامةً محققًا بارعًا في الأصول والفقه، ثبتًا حجة دينًا تقيًا صالحًا، انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي، وقد درَّس بالمدرسة النظامية مدةً، من مؤلفاته: العدة في الأصول، والكامل في الخلاف، وكفاية السائل، والشامل، توفي سنة 477 هـ. انظر ترجمته في: تهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 299)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 217)، وسير أعلام النبلاء (18/ 464)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 122)، وطبقات الشافعية للإسنوي (2/ 130).
والحسينُ البغوي
(1)
، وأبو عبد الله المازري
(2)
، وأبو بكرٍ بن العربي
(3)
، وأبو القاسم الرافعي
(4)
، والعزُّ بن عبد السلام
(5)
، وأبو شامةَ المقدسي
(6)
، ومحيي الدين النووي
(7)
، وابنُ دقيقِ العيد
(8)
، وتقيُّ الدين بنُ تيمية
(9)
، وتقيُّ الدين السبكي
(10)
،
(1)
انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 1257)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 193).
(2)
انظر: الغنية للقاضي عياض (ص/ 65)، والوافي بالوفيات للصفدي (3/ 151)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 195)، ومواهب الجليل للحطاب (6/ 89).
(3)
انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 1296)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 195).
(4)
انظر: تيسير الاجتهاد للسيوطي (ص/ 54).
(5)
انظر: العبر في خبر من غبر للذهبي (3/ 299)، والبحر المحيط (6/ 209)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 195)، وتيسير الاجتهاد له (ص/ 55)، والمعيار المعرب للونشريسي (9/ 310)، وإرشاد الفحول (2/ 1039)، وحصول المأمول للقنوجي (ص/ 369)، وأصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1073).
(6)
انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 1460)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (8/ 156)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 196).
(7)
انظر: تيسير الاجتهاد للسيوطي (ص/ 55)، وإرشاد الفحول (2/ 1039).
(8)
انظر: الطالع السعيد للإدفوي (ص/ 581)، وأعيان العصر للصفدي (4/ 581)، والبحر المحيط (6/ 209)، وتغليق التعليق لابن حجر (2/ 7)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 198)، وتيسير الاجتهاد له (ص/ 54)، والمعيار المعرب للونشريسي (9/ 310)، وحصول المأمول للقنوجي (ص/ 369)، وأصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1073).
(9)
يقول الصفدي في: أعيان العصر (1/ 234) عن تقي الدين بن تيمية: "تمذهب للإمام أحمد بن حنبل، فلم يكن أحدٌ في مذهبه أنبه منه". وانظر في وصفه بالاجتهاد: التحبير (8/ 4069)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 200)، وتيسير الاجتهاد له (ص/ 56)، وشرح الكوكب المنير (4/ 570)، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص/ 386)، وإمام الحرمين للدكتور عبد العظيم الديب (ص/ 524)، وأصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1073).
(10)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (10/ 140)، والغيث الهامع للعراقي (3/ 902)، والتحبير (8/ 4069)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 160)، وتيسير الاجتهاد له (ص/ 47، 56)، وشرح الكوكب المنير (4/ 570).
وتاجُ الدين بن السبكي
(1)
، وسراجُ الدين البلقيني
(2)
، ووليُّ الدين العراقي
(3)
، وكمالُ الدين بن الهمام
(4)
، وجلالُ الدين السيوطي
(5)
.
بقي أنْ أقولَ: إنَّ حديثي في هذا المقامِ وإنْ كان عن الاجتهادِ المطلقِ في الشريعةِ الإسلاميةِ، فإنَّ أدنى درجاتِ التمذهب - وهي: التقليد المذهبي - تعدُّ لبنةً في الترقي إلى الاجتهادِ المذهبي
(6)
.
* * *
* * *
(1)
انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 201)، وتيسير الاجتهاد له (ص/ 56)، وحسن المحاضرة له (1/ 304).
(2)
انظر: الغيث الهامع للعراقي (3/ 902)، والتحبير (8/ 4070)، والرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 201)، وتيسير الاجتهاد له (ص/ 54)، وحسن المحاضرة له (1/ 304)، وشرح الكوكب المنير (4/ 570).
يقول ابنُ خَلدون في: مقدمته (3/ 1054) عن سراج الدين البلقيني: "هو أكبر الشافعية بمصر الآن، غير العلماء، بلْ أكبر العلماء من أهل العصر".
(3)
انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 201)، وتيسير الاجتهاد له (ص/ 57)، وإرشاد الفحول (2/ 1040)، وحصول المأمول للقنوجي (ص/ 369)، وأصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1073).
(4)
انظر: تيسير الاجتهاد للسيوطي (ص/ 57).
(5)
انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 98)، وتيسير الاجتهاد له (ص/ 61)، وفيض القدير للمناوي (1/ 11)، وإرشاد الفحول (2/ 1040)، وحصول المأمول للقنوجي (ص/ 370)، وإمام الحرمين للدكتور عبد العظيم الديب (ص/ 524)، وأصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1073).
(6)
انظر: الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 542 - 543).