الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توطئة
تُعدُّ أقوالُ إمامِ المذهبِ مِنْ أهمِّ الأمورِ التي تقومُ عليها حقيقةُ التمذهبِ، والأصلُ أن يكونَ قولُ إمامِ المذهبِ معلومًا عند أربابِ مذهبِه؛ ليصحَّ منهم الالتزامُ به، لكن قد يقفُ المتمذهبُ في بعضِ المسائلِ الفقهيةِ، أو الأصوليةِ على أكثر مِنْ قولٍ لإمامِه في المسألةِ الواحدةِ، فما الذي يصنعه المتمذهبُ في هذه الحالةِ؟ وقبلَ هذا، ما حكمُ تعدد أقوالِ إمامِ المذهبِ في المسألةِ الواحدةِ؟
لقد اهتمَّ الأصوليون منذ وقتٍ مبكرٍ بالحديثِ عن مسألةِ: (تعدد الأقوال لإمامِ المذهبِ)، فأوضحوا حكمَها، وما المرجَّح منها الذي تصحُّ نسبة القول به إليه، وقد نظمت عقد هذا المبحث في مطلبين:
المطلب الأول: حكم تعدد أقوال إمام المذهب
إنَّ اختلافَ أقوالِ إمام المذهبِ في المسألةِ الواحدةِ دليلٌ على إخلاصِه في طلبِ الصوابِ
(1)
، ويحسنُ التمهيد لهذا المطلبِ ببيانِ بعضِ الأمورِ التي هي محلُّ اتفاقٍ بين الأصوليين:
أولًا: لا خلافَ بين العلماء في صحةِ اعتقادِ إمامِ المذهبِ الوجوب والتحريم معًا في مسألتين مختلفتين، كاعتقادِ وجوبِ الصلاةِ، واعتقادِ تحريمِ الخمرِ
(2)
.
(1)
انظر: أبو حنيفة - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 392).
(2)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 200)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3633).
ثانيًا: لا خلافَ بين العلماءِ في صحةِ اعتقادِ إمامِ المذهبِ الوجوب والتحريم معًا في مسألةٍ واحدةٍ، لكنْ بالنسبةِ إلى حكمينِ مختلفينِ لا منافاةَ بينهما، كاعتقادِ تحريمِ الخمرِ، واعتقادِ وجوبِ إقامةِ الحدِّ فيها
(1)
.
ثالثًا: لا خلافَ بين العلماءِ في صحةِ اعتقادِ وجوبِ فعلين متضادين على سبيلِ البدلِ، كوجوبِ غسلِ الرجلين، ووجوبِ مسحهما
(2)
.
رابعًا: لا خلافَ بين العلماء في صحةِ اعتقادِ وجوبِ فعلين غير متضادين، كخصالِ كفارةِ اليمين
(3)
.
لكنْ ما حكمُ تعدد أقوالِ إمامِ المذهبِ، بحيثُ يكون له قولانِ أو أكثر، متنافيان في المسألةِ الواحدةِ؟
سأوضح حكمَ هذه المسألة في ضوءِ الآتي:
لا يخلو حالُ إمامِ المذهبِ الذي نُقِلَ عنه قولانِ متنافيانِ في مسألةٍ واحدةٍ من القسمين الآتيين:
القسم الأول: أنْ يقولَ إمامُ المذهبِ بقولين مختلفين في مسألةٍ واحدةٍ، في وقتٍ واحدٍ.
القسم الثاني: أنْ يقولَ إمامُ المذهب بقولين مختلفين في مسألةٍ واحدةٍ، في وقتين.
القسم الأول: أنْ يقولَ إمامُ المذهبِ بقولين مختلفين في مسألةٍ واحدةٍ، في وقتٍ واحدٍ.
إذا نُقِل عن إمامِ المذهب قولانِ متنافيانِ في مسألةٍ واحدةٍ، كأنْ يقولَ: في المسألةِ قولانِ؟ أو يذكر قولينِ متنافيينِ مِنْ غيرِ ترجيحٍ بينهما
(4)
، فما الحكم في هذا القسم؟
(1)
انظر: المصدرين السابقين.
(2)
انظر: المصدرين السابقين.
(3)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 200).
(4)
انظر: المصدر السابق، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3633).
لا يجوزُ عقلًا أنْ يعتقدَ أمامُ المذهبِ قولينِ مختلفينِ في وقتٍ واحدٍ، فلا يصحُّ أنْ يعتقدَ أنَّ حكمَ الفعلِ التحريم في وقتٍ معيّنٍ، ومكانٍ معيّنٍ، على وجهٍ معيّنٍ، ويعتقدَ أيضًا أنَّ هذا الفعلَ مباحٌ
(1)
.
يقولُ القاضي أبو يعلى: "لا يجوزُ أنْ يُقْالَ في الحادثةِ الواحدةِ بقولين في وقتٍ واحدٍ"
(2)
.
وقد نَسَبَ أبو الخطاب
(3)
، وابنُ مفلحٍ
(4)
، وابنُ أمير الحاج
(5)
القولَ بعدمِ الجوازِ إلى عامّةِ العلماءِ.
ونَسَبَه محمد الأسمندي
(6)
، والموفقُ بنُ قدامة
(7)
إلى عامّةِ الفقهاءِ.
بل الظاهر أنَّ هذا الأمرَ محلُّ اتفاقٍ بين الأصوليين القائلين بأنَّ المصيبَ مِن المجتهدين واحد
(8)
؛ إذ حكى الإجماعَ عليه أبو إسحاقَ الشيرازي، فقالَ:"إنْ أردتم أنَّه لا يجوزُ أنْ يعتقدَ قولين متضادين على سبيلِ الجمعِ، مثل: أنْ يقولَ: هذا الشيءُ حلالٌ وحرامٌ، فهذا لا يجوزُ بالإجماعِ، ولا يقولُ به أحدٌ"
(9)
.
وتبع صدرُ الدين السلمي أبا إسحاقَ الشيرازي في حكايةِ الإجماعِ
(10)
.
لكنْ جاءَ عن الإمامِ الشافعي ذكرُ قولين مختلفين في مسألةٍ واحدةٍ -
(1)
انظر: المعتمد (2/ 860)، والتبصرة (ص/ 511)، وقواطع الأدلة (5/ 61)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (2/ 1227)، وشرح العضد على مختصر المنتهى (2/ 299).
(2)
العدة (5/ 1610). وانظر: شرح اللمع (2/ 1079)، والمسودة (2/ 829).
(3)
انظر: التمهيد في أصول الفقه (4/ 357).
(4)
انظر: أصول الفقه (4/ 1505).
(5)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 333).
(6)
انظر: بذل النظر (ص / 661).
(7)
انظر: روضة الناظر (3/ 1004).
(8)
انظر: التبصرة (ص/ 511)، وفرائد الفوائد للسلمي (ص/ 50، 76).
(9)
شرح اللمع (2/ 1076).
(10)
انظر: فرائد الفوائد (ص/ 57).
كما سيأتي التمثيل له بعدَ قليلٍ
(1)
- فهلْ يُعكرُ ما جاءَ عن الإمامِ الشافعي على الإجماعِ المحكي؟ وهلْ يمكن أنْ يكونَ قصدُ الإمامِ الشافعي أنَّ له في المسألةِ قولينِ مختلفينِ؟
الظاهرُ لي أنَّ الإمامَ الشافعي لا يقصدُ بذلك أنَّ له في المسألةِ قولين مختلفينِ، وبناءً عليه تصفو حكايةُ الإجماعِ التي أشرتُ إليها آنفًا؛ ويدلُّ على هذا الأمورُ الآتيةُ:
الأمر الأول: تواردُ كلمةِ الأصوليين على المنعِ مِنْ قولِ المجتهدِ بقولين مختلفين في مسألةٍ واحدةٍ في وقتٍ واحدٍ
(2)
.
الأمر الثاني: أنَّ قولَ إمامِ المذهبِ بقولين مختلفين في وقتٍ واحدٍ ممتنعٌ عقلًا؛ لأنَّه تناقض
(3)
، فكيفَ يعتقدُ الشيءَ حلالًا حرامًا؟ !
(4)
، ويستحيل أنْ يكونَ القولان مرادين للقائلِ
(5)
.
يقولُ الآمديُّ: "أنْ يكون ذلك - أيْ: ما نقل عن الإمام الشافعي مِنْ
(1)
يقول أبو المظفر السمعاني في: قواطع الأدلة (5/ 62) عن قول الإمام الشافعي بقولين مختلفين: "فأما قول العالم الواحد فيه - أي: في الضرب الذي يسوغ فيه الخلاف - بقولين مختلفين، فلم يُعْلَمْ قبل الشافعي - رحمه الله تعالى - من قال بذلك تصريحًا، وهو رحمه الله قد ابتكر هذه العبارة، وذكرها في كتبه".
(2)
انظر على سبيل المثال: شرح العمد (2/ 319)، والمعتمد (2/ 860)، ومسائل الخلاف للصيمري (ص/ 496)، والعدة (5/ 1610)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 357)، روضة الناظر (3/ 1004)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 419)، وشرح مختصر الروضة (3/ 621)، والتقرير والتحبير (3/ 333)، وتيسير التحير (4/ 234)، وفواتح الرحموت (2/ 394).
(3)
انظر: تيسير التحبير (4/ 234)، وفواتح الرحموت (2/ 394).
(4)
انظر: التلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 411)، وقواطع الأدلة (5/ 64)، ورفع الحاجب (4/ 560)، ونهاية السول (4/ 439)، والبحر المحيط (6/ 119)، والتقرير والتحبير (3/ 333).
(5)
انظر: التقرير والتحبير (3/ 334)، والتحبير (8/ 3955)، ورفع النقاب للشوشاوي (5/ 482 - 481)، وشرح الكوكب المنير (4/ 492).
قولِه: فيه قولان - بمعنى: اعتقادِه للقولينِ، وهو محالٌ"
(1)
.
ويقولُ شهابُ الدّينِ القرافي: "أمَّا أنَّه - قول الإمام الشافعي: فيه قولان - جازمٌ بهما، فمحالٌ ضرورةً"
(2)
.
الأمر الثالث: تأويلُ علماءِ الشافعيةِ لما جاءَ عن الإمامِ الشافعي مِنْ قولِه في مسألةٍ واحدةٍ: فيها قولان، ولولا قناعتُهم بامتناعِ قولِ إمامِهم في مسألةٍ واحدةٍ بقولين مختلفين، لما سارعوا إلى تأويلِ ما جاءَ عن إمامِهم، وبيانِ مرادِه به
(3)
.
وقد نَقَلَ بدرُ الدّينِ الزركشيُّ عن ابنِ كجٍّ
(4)
، وابنِ فورك
(5)
قولَهما أنَّ
(1)
الإحكام في أصول الأحكام (4/ 201).
(2)
شرح تنقيح الفصول (ص/ 419).
(3)
للاطلاع على أجوبة علماء الشافعية عما ورد عن إمامهم انظر مثلًا: أدب القاضي للماوردي (1/ 665 وما بعدها)، والتبصرة (ص / 511 - 513)، وشرح اللمع (2/ 1077)، والتلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 416 وما بعدها)، وقواطع الأدلة (5/ 64 وما بعدها)، والوصول إلى الأصول لابن برهان (2/ 357)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (5/ 391)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 201)، والحاصل من المحصول (2/ 966)، والتحصيل من المحصول (2/ 255)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3633 وما بعدها)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2706 وما بعدها)، ورفع الحاجب (4/ 560)، وتشنيف المسامع (3/ 480)، ولمع اللوامع لابن رسلان، القسم الثاني (2/ 467 وما بعدها).
(4)
هو: يوسف بن أحمد بن كَجّ، أبو القاسم الدينوري، كان علامةً إمامًا من أئمة الشافعية، فقيهًا أصوليًا، وقد انتهت إليه الرئاسة في المذهب ببلده، يضرب به المثل في الحفظ، وكان قاضيًا جمع بين الرياسة في الفقه والدنيا، ارتحل إليه الناسُ من الآفاق للاشتغال عليه بالدينور؛ رغبةً في علمه، وجودة نظره، تتلمذ لأبي الحسن ابن القطان، وحضر مجلس الداركي، من مؤلفاته: التجريد - وهو كتاب مطول - توفي سنة 405 هـ مقتولًا. انظر ترجمته في: طبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 113)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (7/ 65)، وسير أعلام النبلاء (17/ 183)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 359)، وطبقات الشافعية للإسنوي (2/ 340)، وطبقات الشافعية لابن هداية الله (ص/ 126)، وشذرات الذهب لابن العماد (5/ 35).
(5)
هو: محمد بن الحسن بن فُوْرَك، أبو بكر الأصبهاني، كان علامةً إمامًا متكلمًا أصوليًا، أديبًا نحويًا، شافعي المذهب، أشعري المعتقد، درّس بالعراق مدة وبنيسابور، وانتفع به الطلاب وتخرجوا به، من مؤلفاته: الحدود في الأصول، ومقدمة في نكت من أصول الفقه، وأوائل =
المستَنْكَرَ اعتقادُ القولين معًا في حالة واحدة، كما يستحيلُ كون الشيءِ على ضدين مِن الحدوثِ والقِدَمِ؛ ومعلومٌ أنَّ الإمامَ الشافعي لا يريدُ هذا، ولقولِه مخارج، ثمَّ ساقوا عددًا منها
(1)
.
الأمر الرابع: لم يقل الإمامُ الشافعي، ولم يُنقلْ عنه أنَّه قال في مسألةٍ واحدةٍ: لي فيها قولانِ، بل الثابتُ عنه أنَّه يقولُ: في المسألةِ قولانِ، ونحو هذه العبارة
(2)
، وفرقٌ بين العبارتين.
وقد نَسَبَ مجدُ الدين بنُ تيمية وغيرُه إلى الإمامِ الشافعي القولَ بجوازِ أنْ يقولَ المجتهدُ في شيءٍ واحدٍ ووقتٍ واحدٍ بقولين مختلفين
(3)
.
ويظهرُ لي أنَّ نسبةَ هذا القول إلى الإمامِ الشافعي لا تخلو مِنْ نظرٍ ظاهرٍ؛ إذ لم يصرِّح الإمامُ الشافعي بجوازِ قولِ المجتهدِ في مسألةٍ واحدةٍ بقولين مختلفين، وإنَّما قال في بعض المسائل: إنَّ فيها قولين، وهذه العبارةُ محتملةٌ، فلا يصحُّ أنْ يُنسبَ إلى الشافعي أمرٌ محالٌ.
وقد ذَكَرَ بعضُ الأصوليين أدلةً دالةً على منعِ قولِ إمامِ المذهبِ بقولين مختلفين في مسألةٍ واحدةٍ في وقتٍ واحدٍ، منها:
الدليل الأول: أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم تكلموا في الفقهِ، وكثرت المسائلُ المنقولةُ عنهم، ولم يُحكَ عن واحدٍ منهم أنَّه قالَ في مسألةٍ واحدةٍ: فيها قولانِ.
= الأدلة في أصول الكلام، ومشكل الحديث وبيانه، وتفسير القرآن العظيم، توفي سنة 406 هـ.
انظر ترجمته في: تبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص/ 232)، وإنباه الرواة للقفطي (3/ 110)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 272)، وسير أعلام النبلاء (17/ 214)، والوافي بالوفيات للصفدي (2/ 344)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (4/ 127)، وطبقات الشافعية للإسنوي (2/ 266)، وطبقات المفسرين للداوودي (2/ 132).
(1)
انظر: البحر المحيط (6/ 119).
(2)
انظر: حقيقة القولين للغزالي، منشور في: مجلة الجمعية الفقهية السعودية، العدد: الثالث (ص/ 282)، والمحصول في أصول الفقه للرازي (5/ 393).
(3)
انظر: المسودة (2/ 829).
فمَنْ قال في مسألةٍ واحدةٍ: فيها قولانِ، فقد خالفَ الإجماعَ
(1)
.
مناقشة الدليل الأول: لا نُسلّمُ انعقادَ إجماعِ الصحابةِ رضي الله عنهم على المنعِ مِنْ قولِ: فيها قولان، في مسألةٍ واحدةٍ؛ إذ اتفاقهم على تركِ العبارةِ السابقةِ، لا يدلُّ على منعِها؛ إذ هم لم يصرحوا بالمنعِ
(2)
.
الدليل الثاني: أنَّ قولَ القائلِ بقولين متنافيين محالٌ عقلًا، وقد سبقت الإشارةُ إلى هذا قبل قليلٍ.
الدليل الثالث: لا يخلو أمرُ القولين اللذين قالهما إمامُ المذهبِ في وقتٍ واحدٍ مِنْ ثلاثةِ أحوال: إمَّا أنْ يكونا صحيحين، وإمَّا أنْ يكونا فاسدين، وإمَّا أنْ يكون أحدُهما صحيحًا والآخرُ فاسدًا.
فالأول - أن يكون القولانِ صحيحينِ -: غيرُ جائزٍ؛ لأنَّ الشيءَ الواحدَ لا يجوزُ أنْ يكونَ حلالًا حرامًا؛ لأنَّ الحقَّ واحدٌ، والضدانِ لا يجتمعانِ.
والثاني - أنْ يكونَ القولانِ فاسدين -: غيرُ جائزٍ أيضًا؛ لأنَّهما لو كانا عند القائلِ فاسدين لما حكاهما، ولَوَجَبَ عليه أنْ يبيّنَ وجه فسادِهما، فالقولُ بهما حرامٌ.
والثالث - أنْ يكونَ أحدُ القولين صحيحًا والآخر فاسدًا -: غيرُ جائرٍ؛ لأنَّه لو كانَ الأمرُ كذلك لبيَّنَ إمامُ المذهبِ أمرَه، أو رجّحه بنوعٍ مِنْ أنواعِ الترجيحِ
(3)
، ثمَّ لا يخلو حال المتكلمِ مِنْ أحدِ أمرين: إمَّا أنْ يعلمَ أنَّ أحدَ القولين صحيحٌ، وإمَّا أنْ لا يعلمَ ذلك.
(1)
انظر: العدة (5/ 1611)، والتلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 415)، وقواطع الأدلة (5/ 63)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 358 - 359)، وفرائد الفوائد للسلمي (ص/50).
(2)
انظر: التلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 415).
(3)
انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 359)، والتحبير (8/ 3955 - 3956)، وشرح الكوكب المنير (4/ 492 - 492).
فإنْ عَلِمَ أنَّ أحدَ القولين صحيحٌ، فلا يحلُّ له أنْ يكتمَه؛ للوعيدِ الشديدِ على كتمِ العلمِ؛ كما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ سُئِلَ عن علمْ، فكتمه، ألجمه الله بلجامٍ
(1)
من نارٍ يومَ القيامةِ)
(2)
.
(1)
اللِّجَام - ككِتَاب -: فارسي معرَّب، وهو ما تشدُّ به الدابة من السيور والحديدة التي توضع في فمها. انظر: الصحاح، مادة:(لجم)، (5/ 2027)، والقاموس المحيط، مادة:(لجم)، (ص / 1493)، وتاج العروس، مادة:(لجم)، (33/ 399).
(2)
أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أبو داود في: سننه، كتاب: العلم، باب: كراهية منع العلم (ص / 554)، برقم (3658)، وحسّن المنذري في: مختصر سنن أبي داود (5/ 251 - 251) إسنادَ رواية أبي داود. والترمذي في: جامعه، كتاب: العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في كتمان العلم (ص/ 597)، برقم (2649)، وقال:"وفي الباب عن جابر، وعبد الله بن عمرو، حديثُ أبي هرير حديثٌ حسنٌ". وابن ماجه في: سننه، في المقدمة، باب: من سئل عن علم فكتمه (ص/63)، برقم (261)، وقال ابنُ القيم في: تهذيب السنن (4/ 1784) عن رجال إسناد رواية ابن ماجه: "كلهم ثقات". والطيالسي في: المسند (4/ 266)، برقم (2657)؛ وابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: الأدب، باب: في الرجل يكتم العلم (13/ 467)، برقم (26983)؛ وأحمد في: المسند (13/ 18)، برقم (7571)؛ وأبو يعلى في: المسند (11/ 268)، برقم (6383)؛ والعقيلي في: الضعفاء (1/ 218 - 219) بعدة أسانيد، وقال عن أحدها:"إسناد صالح". وابن حبان في: صحيحه، كتاب: العلم، باب: ذكر إيجاب العقوبة في القيامة على الكاتم العلم (1/ 297)، برقم (95)؛ والطبراني في: المعجم الأوسط (3/ 335)، برقم (3322)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: العلم (1/ 132 - 133)، برقم (344)، وقال:"هذا حديث تداوله الناس بأسانيد كثيرةٍ، تجمع ويُذاكر بها، وهذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ثم نقل عن شيخه أبي علي الحافظ إعلاله لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، ثم أجاب الحاكمُ عن إعلال شيخه أبي علي، وبيَّن الحاكمُ أنَّ شيخَه قد تراجع عن إعلال الحديث، ثم ذكر الحاكمُ بعده حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقال عنه:"ووجدنا الحديث بإسناد صحيح لا غبار عليه عن عبد الله بن عمرو". والبيهقي في: الجامع لشعب الإيمان، باب: في شح المرء بدينه حتى يكون القذف في النار أحب إليه من الكفر (4/ 373)، برقم (1613 - 1614)؛ وابن عبد البر في: جامع بيان العلم (1/ 2 - 3)، برقم (1)؛ والبغوي في: شرح السنة، كتاب: العلم، باب: وعيد من كتم علمًا يعلمه (1/ 301)، برقم (140)، وقال:"هذا حديث حسن".
وللحديث شواهد عن عددٍ من الصحابة رضي الله عنهم، كما أشار إليها الترمذيُّ في كلامه السابق.
ويقول المنذري في: مختصر سنن أبي داود (5/ 252 - 253): "وقد روي هذا الحديث أيضًا من رواية عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعلي بن طلق، وفي كلٍّ منها مقالٌ". =
وكيفَ يقولُ قولًا فاسدًا يلبِّس فيه على الناسِ؟ !
وإنْ كان يجهلُ صحةَ القولينِ، فلا يحلُّ له أنْ يحكيَهما؛ لقولِه تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
(1)
.
وهو في هذه الحالِ غيرُ عالمٍ بحكمِ المسألةِ، فليسَ له قولٌ أصلًا، فكيفَ يُقالُ: له فيها قولانِ؟ !
فلم يبقَ إلا أنَّ القولَ بالقولينِ باطلٌ
(2)
.
الدليل الرابع: قياسُ أقوالِ إمامِ المذهبِ على نصوصِ الشارعِ، فكما أنَّه لا يمكنُ للشارعِ أنْ يقولَ في مسألةٍ واحدةٍ في وقتٍ واحدٍ قولين متنافيين، فكذلك إمامُ المذهبِ لا يجوزُ له ذلك؛ لأنَّه تناقضٌ
(3)
.
ويتصلُ بالقسمِ الأول (أنْ يقولَ إمامُ المذهبِ بقولين مختلفين في مسألةٍ واحدةٍ، في وقتٍ واحدٍ) الإشارةُ إلى ما ذَكَرَه علماءُ الشافعيةِ في الجوابِ عمَّا نُقِلَ عن الإمام الشافعي مِنْ قولِه في بعضِ المسائل: فيها قولانِ، فقد ذكروا أجوبةً متعددةً، وأفاضوا في ذكرِها، وردُّوا الاعتراضات الواردة عليهم
(4)
، ولم يخلُ الحديثُ في المسألةِ من الوقيعةِ في بعضِ
= وقد صحح الحديثَ: الذهبيُّ في: الكبائر (ص/ 287)، والزبيديُّ في: إتحاف السادة المتقين (1/ 109)، والألبانيُّ في تعليقه على السنن في المواضع السابقة.
وقال ابنُ كثير في: تفسيره (1/ 476) عن الحديث: "وقد وَرَدَ الحديثُ في: المسند، مِنْ طُرُقٍ يَشدُّ بعضها بعضًا".
وقال عنه ابنُ حجر في: القول المسدد (ص/ 45): "إنْ لم يكن في نهاية الصحة فهو صالح للحجة".
(1)
من الآية (36) من سورة الإسراء.
(2)
انظر: العدة (5/ 1613 - 1614)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 360)، وروضة الناظر (3/ 1005 - 1006)، وشرح مختصر الروضة (3/ 622)، والاختلاف الفقهي لعبد العزيز الخليفي (ص/ 242).
(3)
انظر: تحرير المقال للدكتور عياض السلمي (ص/73).
(4)
لعلماء الشافعية في الدفاع عن الإمام الشافعي عدة مؤلفات، منها:
1 -
رسالة بعنوان: (نصرة القولين) لأبي العباس بن القاص. =
الأئمةِ، وكان الواجبُ عدمَ الوقوعِ في مثلِ هذا المزلق
(1)
.
وسأشيرُ إلى بعضِ الأجوبةِ دونَ توسّعٍ، وسأقتصرُ على أجوبتِهم عمَّا قال عنه الإمامُ الشافعي: فيها قولان
(2)
، ولنْ أذكرَ أجوبتَهم عما نُقِل فيه
= 2 - رسالة بعنوان: (حقيقة القولين) لأبي حامد الغزالي. وقال تاج الدين السبكي في: رفع الحاجب (4/ 560) عما صنعه ابن القاص والغزالي وغيرهما ممن صنف في المسألة: "فيه ما تقرّ عين ناظره".
3 -
كتاب بعنوان: (فرائد الفوائد وتعارض القولين لمجتهد واحد) لمحمد بن إبراهيم السلمي المناوي.
(1)
انظر مثلًا: التبصرة (ص/ 511)، والبرهان (2/ 894)، والوصول إلى الأصول لابن برهان (2/ 356)، وفرائد الفوائد للسلمي (ص/ 55)، والدرر اللوامع للكوراني (ص/ 570)، والشافعي - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 156).
(2)
ذكر القاضي الباقلاني - كما في: التلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 418) - أنَّ ما وقع للإمام الشافعي منقوله في مسألة واحدة: فيها قولان، لا يكاد يبلغ عشر مسائل. وانظر: رفع الحاجب (4/ 560).
وذكر القاضي أبو حامد المروزي - كما نقله عنه أبو إسحاق الشيرازي في: التبصرة (ص/ 512)، وفي: شرح اللمع (2/ 1079) - أنَّه لم يقع للإمام الشافعي أنَّه قال في مسألةٍ واحدةٍ: فيها قولان، إلا في بضعة عشر موضعًا: ستة عشر، أو سبعة عشر.
وأكثر الأصوليين على ما ذكره القا ضي أبو حامد المروزي، انظر مثلًا: البرهان (2/ 892)، وقواطع الأدلة (5/ 82 - 83)، وحقيقة القولين للغزالي، منشور في: مجلة الجمعية الفقهية السعودية، العدد: الثالث (ص/ 289)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 358)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (5/ 394)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 201)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (2/ 1228)، والتحصيل من المحصول (2/ 256)، وشرح مختصر الروضة (3/ 621)، وشرح العضد على مختصر المنتهى (2/ 299)، وأصول الفقه لابن مفلح (4/ 1506)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2706)، ورفع الحاجب (4/ 560)، وتحفة المسؤول للرهوني (4/ 271)، وتشنيف المسامع (3/ 481)، والبحر المحيط (6/ 120)، وفرائد الفوائد للسلمي (ص/ 50)، ولمع اللوامع لابن رسلان، القسم الثاني (2/ 470)، والتقرير والتحبير (3/ 334)، والتحبير (8/ 3957 - 3958)، والدرر اللوامع للكوراني (ص/ 569)، وشرح الكوكب الساطع للسيوطي (4/ 60)، وشرح الكوكب المنير (4/ 493)، وتيسير التحبير (4/ 235)، وفواتح الرحموت (2/ 395).
ويقول تاجُ الدين السبكي في: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2707): "وقد وقع في: (المحصول) بدل القاضي أبي حامد المروزي الشيخُ أبو حامد الإسفراييني؛ وكأنه اشتبه أبو حامد بأبي حامد، ووقع فيه الجزم بأنَّ المواضع سبعة عشر، وهو وهَمٌ".
وانظر: البحر المحيط (6/ 121).
عن الإمام الشافعي جوابانِ في وقتين؛ لأنَّه خارجٌ عن القسمِ الذي أتحدثُ عنه، هذا من جهةٍ، ولعدمِ الإشكالِ فيه مِن جهةٍ أخرى.
ويحسنُ قبلَ ذكرِ أجوبةِ علماءِ المذهبِ الشافعي إيرادُ مثالينِ لما جاءَ عن الإمامِ الشافعي:
المثال الأول: يقولُ الإمامُ الشافعي: "وإذا غَسَلَهنَّ - أيْ: نجاسة الكلب والخنزير - سبعًا جَعَلَ أولهن، أو آخرهن ترابًا، لا يَطْهُر إلا بذلك، فإنْ كانَ في بحرٍ لا يَجدُ فيه ترابًا، فغسله بما يقومُ مقامَ الترابِ في التنظيفِ من أُشْنَانٍ، أو نُخَالةٍ
(1)
، أو بما أشبهه: ففيه قولان: أحدهما، لا يطْهُرُ إلا بأنْ يماسّه الترابُ. والآخر: يطهرُ بما يكون خَلَفًا مِن الترابِ، وأنظف منه، ممَّا وَصَفْتُ"
(2)
.
المثال الثاني: يقولُ الإمامُ الشافعي: "فإنْ خَطَبَ - أيْ: خطبة الجمعة - بأربعين، ثمَّ كبَّر بهم، ثمَّ انفضوا مِنْ حولِه، ففيها قولان: أحدهما: إنْ بقي معه اثنان حتى تكون صلاتُه صلاةَ جماعةٍ تامّةٍ، فصلى الجمعةَ: أجزأته
…
والقول الآخر: أنَّها لا تجزؤه بحالٍ حتى يكون معه أربعون
(3)
حين يدخل، ويكمل بهم الصلاة
…
"
(4)
.
أجوبة علماء الشافعية عمَّا جاءَ عن الإمامِ الشافعي:
مِن الأجوبةِ التي ذكرها علماءُ الشافعيةِ:
الجواب الأول: أنْ يكونَ ذكرُ الإمامِ الشافعيّ للقولين المختلفين على
(1)
النُخَالة: قشر حبِّ الدقيق، وما يبقى في المُنْخُل بعد نخله، والنَّخْل: التصفية والاختيار.
انظر: الصحاح، مادة:(نخل)، (5/ 1827)، ومقاييس اللغة، مادة:(نخل)، (5/ 407)، والمصباح المنير للفيومي، مادة:(نخل)، (ص/ 488)، والقاموس المحيط، مادة:(نخل)، (ص/ 1371).
(2)
الأم (2/ 13 - 14).
(3)
جاء في النسخة التي رجعت إليها: "أربعين"، وقد صححتها من طبعة أخرى.
(4)
المصدر السابق (2/ 380).
سبيلِ التخييرِ بينهما، دونَ الجمعِ، لا أنَّه
(1)
اعتقدَ كلَّ واحدٍ منهما كما اعتقدَ الآخرَ، وثَبَتَ عنده أحدُهما كما ثَبَتَ عنده الآخرُ
(2)
.
وممَّنْ أيَّدَ هذا الجوابَ: القاضي عبد الجبار المعتزلي
(3)
، والقاضي أبو بكرٍ الباقلاني
(4)
، وأبو حامدٍ الغزالي
(5)
، وشهابُ الدينِ القرافي
(6)
، وأبو علي الشوشاوي
(7)
.
وقد اعترضَ إمامُ الحرمين على هذا الجواب، فقالَ:"هذا الذي قاله - أي: القاضي الباقلاني - غيرُ سديدٍ؛ فإنَّ الصحيحَ مِنْ مذهبِ الشافعي أنَّ المصيبَ واحدٌ"
(8)
.
(1)
في: شرح العمد (1/ 322): "لأنه" بدلًا عن: "لا أنه"، ولعل الأقرب ما أثبته.
(2)
انظر: نصرة القولين لابن القاص (ص/ 115)، والمعتمد (2/ 861)، وقواطع الأدلة (5/ 82).
(3)
انظر: شرح العمد (1/ 322). والقاضي عبد الجبار هو: عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن عبد الجبار بن خليل الهمذاني، أبو الحسن الأسداباذي، الملقب بقاضي القضاة، ولد سنة 359 هـ من مشاهير غلاة المعتزلة، وأحد علماء المذهب الشافعي، كان علامةً متكلمًا بارعًا في الأصول والفروع والتفسير، متميزًا بالذكاء، وقد ولي قضاء القضاة بالري، يقول شمس الدين الذهبي:"تخرج به خلق في الرأي الممقوت"، من مؤلفاته: العمد، والنهاية، والمغني، وتفسير القرآن، توفي بالري سنة 415 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (12/ 414)، وسير أعلام النبلاء (17/ 244)، وميزان الاعتدال للذهبي (2/ 533)، والوافي بالوفيات للصفدي (18/ 31)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 97)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 183)، وطبقات المعتزلة للمرتضى (ص/ 112)، ولسان الميزان لابن حجر (5/ 54)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 262).
(4)
انظر: التقريب والإرشاد للباقلاني (ص/ 35) تحقيق/ الدكتور محمد الدويش، والتلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 418).
(5)
انظر: المستصفى (2/ 452).
(6)
انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 419).
(7)
انظر: رفع النقاب (5/ 481).
(8)
التلخيص في أصول الفقه (3/ 419). وانظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (5/ 391)، والحاصل من المحصول (2/ 965)، والتحصيل من المحصول (2/ 255)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2706)، ونهاية السول (4/ 440)، وتحفة المسؤول للرهوني (4/ 271)، والبحر المحيط (6/ 120).
ومِنْ جهةٍ أخرى: لو صحَّ ما ذكروه في الجوابِ الأولِ لما كانَ للإمامِ الشافعي قولانِ، بلْ قولٌ واحدٌ، وهو التخييرُ
(1)
.
الجواب الثاني: أنَّ الإمامَ الشافعيَّ نَظَرَ في المسألةِ، ثمَّ توصَّلَ إلى أنَّ الحكمَ فيها أحدُ هذين القولين، وقَطَعَ بفسادِ ما عداهما مِن الأقوالِ، لكنَّه لا يعلم أيَّ القولين هو الراجح؛ لتعارضِ الأدلةِ مثلًا، فيجوزُ أنْ يكونَ كلُّ واحدٍ مِن القولين هو حُكم المسألةِ
(2)
.
ولم يرتضِ إمامُ الحرمين الجويني هذا الجواب؛ لأنَّ مَنْ تدبَّر أصولَ الإمامِ الشافعي عَرَفَ أنَّه لا يقطعُ بتخطئة غيرِه مِن العلماءِ في المسائلِ الاجتهاديةِ
(3)
،
الجواب الثالث: أنْ يكونَ قصدُ الإمامِ الشافعي مِن القولين الدلالةَ على أنَّ لكلِّ منهما وجهًا في الاجتهادِ، لكنَّه لا يقطعُ بواحدٍ منهما
(4)
، فهو متوقفٌ ومترددٌ في المسألةِ
(5)
.
(1)
انظر: بذل النظر للأسمندي (ص/ 662)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (5/ 391)، وروضة الناظر (3/ 1006)، والتحصيل من المحصول (2/ 255)، وشرح الكوكب المنير (4/ 493).
(2)
انظر: شرح العمد (1/ 322 - 323)، والمعتمد (2/ 861)، وأدب القاضي للماوردي (1/ 675)، والتبصرة (ص/ 513)، وقواطع الأدلة (5/ 71)، وحقيقة القولين للغزالي، منشور في: مجلة الجمعية الفقهية السعودية، العدد: الثالث (ص/ 286)، والوصول إلى الأصول لابن برهان (2/ 355)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3635)، والبحر المحيط (6/ 119)، وفرائد الفوائد للسلمي (ص/ 72)، والتحبير (8/ 3958)، ورفع النقاب للشوشاوي (5/ 482).
(3)
انظر: التلخيص في أصول الفقه (3/ 417).
(4)
انظر: أدب القاضي للماوردي (1/ 677)، والمستصفى (2/ 452).
(5)
انظر: شرح اللمع (2/ 1079)، وقواطع الأدلة (5/ 81)، وحقيقة القولين للغزالي، منشور في: مجلة الجمعية الفقهية السعودية، العدد: الثالث (ص/ 287)، والوصول إلى الأصول لابن برهان (2/ 355)، والحاصل من المحصول (2/ 966)، ونهاية السول (4/ 439)، وفواتح الرحموت (2/ 395).
يقولُ أبو إسحاقَ الشيرازي: "وهذا - أيْ: ما جاءَ عن الإمامِ الشافعي - لا يدلُّ إلا على غزارةِ العلم وقوةِ الفقهِ، وأنَّ الأصولَ تزاحمتْ عنده، والأشباه ترادفتْ حتى أَوْجَبَ ذلَك توقُّفًا في حكمِ الحادثةِ"
(1)
.
ويقولُ إمامُ الحرمين الجويني: "فالسديدُ إذًا أنْ نقولَ في القسمِ الأخيرِ الذي ختمنا الكلامَ به، وهو أنْ ينصَّ على قولينِ في الجديد، ولا يختارُ أحدَهما: إنَّه ليس له في المسألةِ قولٌ ولا مذهبٌ، وإنَّما ذَكَرَ القولين؛ ليُتَرَدَّد فيهما، وعدمُ اختيارِه لأحدِهما لا يكون ذلك خطأٌ منه، بلْ علو رتبةِ الرجلِ، وتوسعِه في العلمِ"
(2)
.
ورجَّحَ الجوابَ الثالثَ جمعٌ مِنْ علماءِ الشافعيةِ ومحققيهم، منهم: أبو المظفرِ السمعاني
(3)
، والفخرُ الرازي
(4)
، وتاجُ الدين الأرموي
(5)
، وسراجُ الدين الأرموي
(6)
، والقاضي البيضاوي
(7)
، وصفيُّ الدين الهندي
(8)
، وتاجُ الدين بن السبكي
(9)
، وبدرُ الدين الزركشي
(10)
.
فإنْ قالَ قائلٌ: لا يصحُّ القولُ بناءً على هذا الجوابِ: إنَّ للإمامِ الشافعي في المسألةِ قولين، فليس له قولٌ أصلًا
(11)
.
فالجوابُ: ما ذكره إمامُ الحرمين الجويني، فقالَ: "هكذا نقولُ - أيْ:
(1)
شرح اللمع (2/ 1079).
(2)
التلخيص في أصول الفقه (3/ 420 - 421). وانظر: البرهان (2/ 892).
(3)
انظر: قواطع الأدلة (5/ 84 - 85).
(4)
انظر: المحصول في علم أصول الفقه (5/ 391).
(5)
انظر: الحاصل من المحصول (2/ 966).
(6)
انظر: التحصيل من المحصول (2/ 255).
(7)
انظر: منهاج الوصول (7/ 2705) مع شرحه الإبهاج.
(8)
انظر: نهاية الوصول (8/ 3635).
(9)
انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2705).
(10)
انظر: تشنيف المسامع (3/ 480).
(11)
انظر: التلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 421)، وحقيقة القولين للغزالي، منشور في: مجلة الجمعية الفقهية السعودية، العدد: الثالث (ص/ 294).
ليس للشافعي قولٌ - ولا نتحاشى منه، وإنَّما وَجْه الإضافةِ إلى الشافعي ذِكْرُه لهما، واستقصاؤه وجوهَ الأشباه فيهما"
(1)
.
ومنهم مَنْ علَّلَ إضافةَ القولين إليه بأنَّ المسألةَ تحتملُ قولين عنده
(2)
.
الجواب الرابع: أنْ يكونَ مقصدُ الإمامِ الشافعي بذكرِ القولينِ حكايتَهما عن غيرِه مِن المجتهدين
(3)
، ولا تُوجبُ الحكايةُ أنْ يكونا قولين له؛ لأنَّ الحاكي مخبرٌ عن معتقدِ غيرِه، كحالِ مَنْ حكى الكفرَ لا يصيرُ كافرًا
(4)
.
وضعَّفَ الجوابَ الرابعَ بعضُ الأصوليين، كأبي الحسين البصري
(5)
، وإمامِ الحرمين الجويني
(6)
؛ لأنَّ الإمامَ الشافعي أضافَ القولين إلى اجتهادِه، ولا تسوغُ معه حكايةُ القولين
(7)
.
ومِنْ جهةٍ أخرى: فقد يجعلُ الإمامُ الشافعي المسألةَ على قولين في صورةٍ لا يُؤْثَر فيها عن العلماءِ قبله قولٌ على التنصيصِ
(8)
.
ويظهرُ لي أنَّ أقربَ هذه الأجوبة هو الجواب الثالث، مع كونِ بعضِها متجهةٌ أيضًا، وقد يكون لكلِّ مسألةٍ أجابَ فيها الإمامُ الشافعيَّ جوابُها الذي يناسبُها، وذلك بالنظرِ إلى القرائنِ والسياقِ.
(1)
التلخيص في أصول الفقه (3/ 421).
(2)
انظر: البحر المحيط (6/ 123).
(3)
انظر: نصرة القولين لابن القاص (ص/ 109)، والعدة (5/ 1611)، والتلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 416)، وقواطع الأدلة (5/ 77)، وحقيقة القولين للغزالي، منشور في: مجلة الجمعية الفقهية السعودية، العدد: الثالث (ص/ 282)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 201)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (2/ 1228)، والحاصل من المحصول (2/ 966)، والتحصيل من المحصول (2/ 256)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3635)، ونهاية السول (4/ 439)، وتحفة المسؤول للرهوني (4/ 271)، وفرائد الفوائد للسلمي (ص/ 76)، والتقرير والتحبير (3/ 334).
(4)
انظر: قواطع الأدلة (5/ 77 - 78).
(5)
انظر: شرح العمد (2/ 321).
(6)
انظر: التلخيص في أصول الفقه (3/ 416).
(7)
انظر: المصدر السابق.
(8)
انظر: شرح العمد (2/ 321)، والتلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 416).
ولمَّا اعترضَ بعضُ علماءِ الحنابلةِ على علماءِ الشافعيةِ فيما جاءَ عن الإمامِ الشافعي مِن حكايةِ القولينِ، أورد بعضُ الشافعيةِ على الحنابلةِ إيرادًا، وهو أنَّ الإمامَ أحمدَ صنَعَ مثلما صنَعَ الإمامُ الشافعي، فحكى قولينِ مختلفين في مسألةٍ واحدةٍ
(1)
، وأمر آخر، وهو: أنَّ تعددَ الرواياتِ عن الإمامِ أحمدَ كتعددِ القولينِ عن الإمامِ الشافعي
(2)
.
فهلْ يتوجه هذا الإيرادُ على الحنابلةِ؟
قبلَ ذكرِ أجوبةِ الحنابلة عمَّا نسبه الشافعيةُ إلى الإمامِ أحمدَ، سأورد مثالين لما جاءَ عن الإمامِ أحمدَ:
المثال الأول: جاءَ في: (مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح)
(3)
أنَّ صالحًا سألَ الإمامَ أحمدَ عن رجلٍ ماتتْ امرأتُه: "هل يجوزُ له أنْ ينظرَ إلى شيءٍ مِنْ محاسنِها، ويدخلها القبر؟ فأجابَ: الناسُ يختلفون في هذا، وقد رُوي عن عمر أنَّه قال في امرأتِه لما توفيتْ فقال لأوليائها: أنتم أحقُّ بها
(4)
، وروي عن أبي بكرة أنَّه وَاثبَ إخوة امرأتِه حتى أدخلها القبرَ"
(5)
.
المثال الثاني: جاءَ في: (مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود)
(6)
: "قلتُ لأحمدَ: البكرُ إذا استحيضت؟ قال: عندنا فيه قولان: قولٌ أنْ تقعدَ أدنى الحيضِ، ثمَّ تغتسل وتصوم وتصلي، أو تقعد أكثر حِيَض النساءِ ستًا أو سبعًا، فإذا عَرَفَتْ أيامَها، واستقامتْ عليه، قضتْ ما كانتْ صامتْ في هذه الأيامِ، دونَ أيامِ حيضِها".
(1)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 453).
(2)
انظر: المصدر السابق.
(3)
(1/ 272 - 271).
(4)
تقدم تخريج أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في: (ص/278).
(5)
تقدم تخريج أثر أبي بكر رضي الله عنه في: (ص/279).
(6)
(ص/ 33). وقد نقل هذه المسألة: أبو يعلى في: العدة (5/ 1621)، وأبو الخطاب في: التمهيد في أصول الفقه (4/ 366) وذكرا لها تتمةً في آخرها: "قلت لأحمد: فما تختار أنت؟ قال: من قال يومًا فهو احتياط". وراجع تعليق محقق العدة (5/ 1621).
أجوبة علماء الحنابلة عمَّا نسبه الشافعيةُ إلى الإمام أحمدِ:
أجابَ الحنابلةُ عمَّا نَسَبَه الشافعيةُ إلى الإمامِ أحمدِ بعدّةِ أجوبةٍ، منها:
الجواب الأول: أنَّ إجابةَ الإمامِ أحمدَ بالاختلافِ تَخْرُجُ حسبَ ما تحتمله مسألةُ السائلِ، فكلُّ جواباته واردةٌ على سؤالٍ، ولم يقعْ منه جوابٌ بالاختلافِ ابتداءً مِنْ أجلِ قصدِ بيانِ مذهبِه
(1)
.
الجواب الثاني: أنَّ عامّةَ أجوبةِ الإمام أحمد التي أجابَ فيها بالاختلافِ تجدُ أنَّها إذا اقتضى السؤالُ جوابًا بالبيانِ عن الإصابةِ، فإنَّ الإمامَ أحمدَ يبيّنُ ويرجِّحُ، بلْ يحتجُّ أيضًا
(2)
.
يقولُ القاضي أبو يعلى: "أحمدُ رحمه الله لم يُطلق القولين حتى يُنْبِئ عن اختيارِه، والصحيحِ منهما"
(3)
.
الجواب الثالث: أنَّ لجواب الإمام أحمدَ باختلافِ الصحابةِ رضي الله عنهم فائدةً لا غُنْيَةَ عنها؛ إذ لأقوالِ الصَحابةِ رضي الله عنهم مِن الفقهِ الذي لا يَسَعُ عالمًا جهلُه به، وهذا يختلفُ عن الجواب بالقولينِ؛ فليس فيه فقهُ الصحابةِ رضي الله عنهم
(4)
.
الجواب الرابع: أنَّ جوابَ الإمامِ أحمدَ باختلافِ الصحابةِ رضي الله عنهم يختلفُ عن الجوابِ بالقولينِ؛ إذ الصوابُ حتمًا في القولينِ أو الأقوالِ المنقولةِ عن الصحابَةِ رضي الله عنهم، بخلافِ الجواب بالقولين دونَ إشارةٍ إلى أنَّها أقوالُ الصحابةِ رضي الله عنهم
(5)
.
أمَّا الجوابُ عن الأمر الثاني، (وهو الاعتراضُ بكثرةِ الرواياتِ عن
(1)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 453 - 454).
(2)
انظر: المصدر السابق (1/ 454).
(3)
العدة (5/ 1622). وانظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 365).
(4)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 457 - 458).
(5)
انظر: المصدر السابق (1/ 458).
الإمامِ أحمدَ في المذهبِ الحنبلي، فيُنْقَل عنه في المسألةِ الواحدةِ عدّةُ رواياتٍ): فهناك فرقٌ بين ما صَنَعَه الإمامُ الشافعي، وما جاءَ عن الإمامِ أحمدَ مِن تعددِ الروياتِ، فإنَّ تعددَ الرواياتِ يَقَعُ لكثيرٍ مِن الأئمةِ المجتهدين، فليس مختصًا بالإمامِ أحمدَ وحده
(1)
.
ومِنْ جهةٍ أخرى: فإنَّ الإمامَ أحمدَ لم يقلْ بما جاءَ عنه مِن الرواياتِ في وقتٍ واحدٍ، وإنما قالها في أوقات مختلفةٍ
(2)
، وهذا لا تناقضَ فيه
(3)
.
وأيضًا: فإنَّا نقطعُ بأنَّ القولينِ اللذينِ ذكرهما الإمامُ الشافعي قد نصَّ عليهما، أمَّا في اختلافِ الرواياتِ، فقد يكون مردُّ اختلافِها عن الإمامِ إلى الناقلِ لها؛ فقد يغلطُ في سماعِه، أو يخطئُ في فهمِه، وقد يقولُ الإمامُ بقولٍ، ثم يرجعُ عنه إلى قولٍ آخر، ولا يعلمُ الناقلُ رجوعَ إمامِه
(4)
.
فنظيرُ اختلافِ الروياتِ عن الإمامِ أحمدَ - في الجملةِ - هو اختلافُ القولِ القديمِ والقولِ الجديدِ عن الإمامِ الشافعي.
القسم الثاني: أنْ يقولَ إمامُ المذهب بقولين مختلفين في مسألة واحدة، في وقتين.
إذا نُقِلَ عن أحدِ الأئمةِ قولانِ أو أكثر في وقتينِ مختلفينِ، فهذا أمرٌ سائغٌ
(5)
- ومحلُّ الحديثِ عن الترجيحِ بين القولين في المطلبِ القادمِ -
(1)
انظر: العدة (5/ 1616).
(2)
انظر: المصدر السابق (5/ 1616 - 1617)، والتقرير والتحبير (3/ 334).
(3)
انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 624).
(4)
انظر: البحر المحيط (6/ 129)، والتقرير والتحبير (3/ 334)، وتيسير التحير (4/ 235)، وفواتح الرحموت (2/ 394)، وشرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 74 - 75)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير (1/ 26)، وسلم الوصول لمحمد المطيعي (4/ 441)، وأبو حنيفة - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 390)، وأصول الفقه للدكتور بدران أبو العينين (ص/ 485)، والاجتهاد للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 427)، ونظرية الأخذ بما جرى به العمل لعبد السلام العسري (ص/ 32 - 33).
(5)
انظر: فرائد الفوائد للسلمي (ص/ 45).