الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: عمل المتمذهب فيما توقف فيه إمامه
قد يجدُ المتمذهبُ إمامَه متوقفًا في بعضِ المسائلِ غيرَ مفصحٍ بحكمٍ فيها - وأسبابُ التوقف متعددةٌ ليس المقامُ متسعًا لذكرها
(1)
- وقد سَبَقَ الحديثُ عن نسبةِ القول بالتوقفِ إلى إمامِ المذهب، وذكرتُ فيما سَبَقَ عددًا مِن الطُرُقِ الدَّالةِ على توقّفِ إمامِ المذهبِ في المسَألةِ.
وحديثي هنا عن عملِ المتمذهب فيما توقفَ فيه إمامُه، أيتوقف عن الحكمِ كما توقفَ إمامُه، أم يخرِّجُ حُكمَ المسألةِ على الأشبهِ بأصولِ مذهبِه وقواعده؟
يتَعيّنُ على المتمذهبِ أولًا البحثُ فيما جاءَ عن إمامِه - من مؤلفات أو فتاوى ونحوهما - لعلّه يَجِدُ حُكْمَ ما توقفَ فيه إمامُه منصوصًا عليه؛ إذ العالمُ قد يتوقفُ في المسألةِ؛ لسببٍ ما، ثم يَذْهَبُ بعد ذلك إلى قولٍ فيها
(2)
.
وكما هو معلومٌ ليس مِنْ ضرورةِ المتوقِّف عن الحُكْمِ أنْ يبقى دائمًا متوقفًا، بلْ ذهابه إلى قولٍ محدَّدٍ احتمالٌ قوي؛ فقد يَقِفُ على دليلٍ في المسألةِ، أو مرجِّحٍ، ونحو ذلك.
يقولُ الحسنُ بنُ حامد: "المذهبُ في جوابِه - أيْ: الإمام أحمد - بـ
(1)
للاطلاع على بعض أسباب التوقف انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 575 وما بعدها)، و (2/ 698 وما بعدها، 728 وما بعدها)، ولباب المحصول لابن رشيق (2/ 724).
ولمزيد من التوسع في ذكر الأسباب انظر: التوقف وأثره في اختلاف الفقهاء لمحمود شعبان (ص/ 75 - 88)، والتوقف عند الفقهاء للدكتور قطب الريسوني (ص/ 41 - 52).
(2)
انظر: تهذيب الأجوبة (2/ 697).
لا أدري: [إنْ]
(1)
تأمَّل المتأمّل مذهبَه، وبَحَثَ عن مسطورِه، وَصَلَ إلى ما قاله في ذلك، وما ذكره من البيانِ فيها"
(2)
.
فإذا لم يجدْ المتمذهبُ لإمامِه في المسألة التي توقّفَ فيها قولًا محدّدًا، فما الذي يفعله في هذه الحالةِ؟
لا يبعدُ القولُ: إنَّ للمتمذهب أنْ يتوقفَ في المسألةِ التي توقّفَ فيها إمامُه، إنْ قلنا: إنَّ التوقفَ قولٌ، لكنْ نصَّ علماءُ الحنابلةِ - على وجهِ الخصوصِ - على عَمَلِ المتمذهبِ عندما يتوقف إمامُه، وتحصَّل لدي مِنْ كلامِهم أنَّهم اختلفوا في عملِه في هذه الحالةِ على ثلاثةِ أقوال:
القول الأول: على المتمذهبِ النظرُ في المسألةِ، وطلب الصواب فيها، وِفْقًا لأصولِ مذهبِ إمامِه وقواعدِه.
وهذا ما ذَهَبَ إليه الحسنُ بنُ حامدٍ؛ إذ يقولُ: "على مَنْ أرادَ الجوابَ اتّباعُ الاجتهادِ لنفسِه، والاعتبارُ بما يوجبُه دليلُ الحادثةِ على أصلِه"
(3)
.
القول الثاني: للمتمذهب إلحاقُ المسألةِ بما يشبهها من المسائلِ التي حُكمها أرجح.
وهذا قولُ ابنِ حمدان
(4)
، وابنِ مفلحٍ
(5)
، والمرداوي
(6)
.
وقد اختلفَ أربابُ القولِ الثاني فيما لو أَشْبَهَت المسألةُ مسالتين مختلفتين في الحُكمِ، فَبِمَ يلحقها؟ على ثلاثةِ آراء
(7)
:
(1)
أضاف محقق تهذيب الأجوبة هذه اللفظة.
(2)
تهذيب الأجوبة (2/ 717). وقد ساق الحسن بن حامد في: المصدر السابق (2/ 708 - 718) طَرَفًا من المسائل التي توقف فيها الإمام أحمد، ثم جاء عنه البتُّ فيها بقولٍ.
(3)
تهذيب الأجوبة (1/ 575).
(4)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 102).
(5)
انظر: الفروع (1/ 50).
(6)
انظر: الإنصاف (12/ 246)، وتصحيح الفروع (1/ 50 - 51).
(7)
أول من ذكر هذه الآراء على أنها أوجه في مذهب الحنابلة هو ابن حمدان في: صفة الفتوى (ص/ 102)، كما بيَّن هذا تقيُّ الدين بن تيمية في: المسودة (2/ 940).
الرأي الأول: يُلْحِقُ المتمذهبُ المسألةَ بالحُكْمِ الأخفِّ. وهذا الرأي وجهٌ عند الحنابلةِ
(1)
. واختاره المرداوي
(2)
.
الرأي الثاني: يُلْحِقُ المتمذهبُ المسألةَ بالحُكْمِ الأشدِّ. وهذا الرأي وجهٌ عند الحنابلةِ
(3)
.
الرأي الثالث: يتخيرُ المتمذهبُ في إلحاقِ المسألةِ بالحُكمِ الأخفِّ، أو الأشدِّ. وهذا الرأي وجهٌ عند الحنابلةِ
(4)
، وجعله ابنُ حمدان
(5)
، والمرداويُّ
(6)
الوجهَ الأظهرَ عندهم.
واختار ابنُ حمدان أنَّ الأَوْلى العملُ بكلّ مِن الحكمين: الأخف والأثقل لمَنْ هو أصلحُ له
(7)
.
القول الثالث: يخرِّجُ المتمذهبُ مِن المسألةِ التي توقّفَ فيها إمامُه وجهين.
وهذا ما يفعلُه بعضُ علماءِ الحنابلة، يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية:"مسائلُ الوقفِ يخرِّجها أصحابُه - أي: أصحاب الإمام أحمد - على وجهين"
(8)
.
وهذه المسألةُ شحيحةُ الأدلةِ، ولعل الأقوال المذكورة أشبه بوجهاتِ النظرِ مِنْ قائليها، ومِن الممكنِ قول الآتي:
(1)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 102)، والمسودة (2/ 940)، والفروع لابن مفلح (1/ 50)، والإنصاف (12/ 246)، وحاشية ابن قندس على الفروع (1/ 50).
(2)
انظر: تصحيح الفروع (1/ 51).
(3)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 102)، والمسودة (2/ 940)، والفروع لابن مفلح (1/ 50)، والإنصاف (12/ 246)، وحاشية ابن قندس على الفروع (1/ 50).
(4)
انظر: الفروع لابن مفلح (1/ 50)، والإنصاف (12/ 246)، وحاشية ابن قندس على الفروع (1/ 50).
(5)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 102)، والمسودة (2/ 940).
(6)
انظر: الإنصاف (12/ 246)، وتصحيح الفروع للمرداوي (1/ 51).
(7)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 102)، والمسودة (2/ 940)، والإنصاف (12/ 246)، وتصحيح الفروع للمرداوي (1/ 51).
(8)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (23/ 33).
أولًا: أنَّ القولين: الأول والثاني وجيهانِ؛ إذ أَخْذُ حُكْم المسألةِ مِنْ أصولِ المذهبِ أو مِنْ فروعِه، أقربُ طريقٍ إلى الوصولِ إلى حُكْمٍ قريبٍ مِنْ أحكامِ إمامِ المذهبِ.
ثانيًا: في القولين: الأول والثاني اجتهادٌ مقيَّدٌ مِنْ المتمذهبِ للوصولِ إلى الحُكْمِ، وهذا خيرٌ مِنْ تخريجِ قولين مِنْ توقّفِ الإمامِ دونَ نظرٍ وتأمّلٍ.
ثالثًا: إنْ كان المتمذهبُ أهلًا للتخريجِ على أصولِ إمامِه، أو على نصوصه، فله أَخْذُ الحكمِ مِنْ أحدِ هذينِ الطريقينِ، وإنْ كان عملُ كثيرٍ مِن الفقهاءِ على التخريجِ على نصوصِ الإمام.
رابعًا: إنْ لم يكن المتمذهبُ أهلًا للتخريجِ، أو لم يتمكن منه؛ لسببٍ مِن الأسباب، فله أَخْذُ الحُكْمِ اعتمادًا على ما يقرره محققو المذهبِ في تخريج حُكْمِ المسألةِ، وله تقليدُ غيرِ إمامِه مِنْ أئمةِ المذاهب الأخرى، إنْ اطمأنَّ إلى قولِه.
خامسًا: يُطَبّقُ على مَنْ أرادَ إلحاقَ المسألةِ بما يشبهها ما ذكرتُه في مسألةِ: (القياس على أقوال الإمام)، فإنَّ نصَّ الإمامُ على العلّةِ جازَ الإلحاقُ، وإنْ لم ينصَّ عليها جازُ الإلحاقُ، بشرطِ: نسبةِ القولِ إليه مقيَّدًا.
سادسًا: يظهرُ أنَّ أتباعَ المذاهب في الجملةِ لا يتوقفون عند توقّفِ إمامِهم، بلْ يخرِّجون حُكْمَ المسائل الَتي توقّف فيها، وقد تقدّمَ قبل قليل كلامُ تقي الدين بنِ تيمية.
سابعًا: لعلَّ السببَ في عدمِ ذكرِ بعضِ المذاهب حُكْمَ مسألةِ: (عمل المتمذهب فيما توقف فيه إمامُه)، أنَّهم قرروا طُرُقًا لمعرفةِ قولِ الإمامِ، كفعلِه أو القياس على قولِه والتخريج على أصلِه، بحيثُ لا يقع المتمذهبُ في حالة يُعْوِزُه فيها معرفة حكمِ المسألةِ داخل مدرسة مذهبِه.
ثامنًا: محلُّ الكلام فيما سبق في غيرِ المتمذهب الذي بلغ درجةَ الاجتهادِ، والمتمذهب الذي تحقق له وصفُ الاجتهادِ الجزئي في المسألةِ التي توقف فيها إمامُه؛ لانتفاءِ أثرِ توقّفِ إمامِهما فيما يرجحانِه مِنْ أقوال.