الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: نقد مشروع توحيد المذاهب الفقهية
إنَّ النقدَ الموجّهَ إلى أيِّ عملٍ ومشروعٍ علمي لا يعني توجُّهه إلى مَنْ كَتَبَه، ما دام النقدُ سالمًا مِن التجريحِ الشخصي، وفي هذا المبحثِ سأنتقدُ المشروعَ المقترحَ في ضوءِ المحورين الآتيين:
المحور الأول: نقدُ فكرةِ توحيدِ المذاهبِ.
المحور الثاني: نقدُ المشروعِ العملي المقترح لتوحيدِ المذاهبِ.
المحور الأول: نقدُ فكرةِ توحيدِ المذاهبِ.
إنَّ الدعوةَ إلى توحيدِ المذاهب بحيثُ نكوّن مذهبًا واحدًا مُلفّقًا مِن المذاهب الفقهيةِ المتبوعةِ، يُؤخَذُ منهَا القول الذي يشهدُ له الدليلُ، أمرٌ في غايةِ الصَعوبةِ؛ وذلك للآتي:
الأول: أنَّ غالبَ الفقهِ مِنْ قبيلِ المسائلِ الاجتهاديةِ التي لم يقمْ عليها دليل قاطعٌ، وهذه المسائلُ لا يُجْزَمُ فيها بخطإِ المخالفِ، فكيفَ يحصلُ الاختيار فيها؟ ! ولا سيما أنَّ بعفنصوصِ الكتاب والسنةِ تحتملُ أكثرَ مِنْ وجهٍ، فكلا الفريقينِ في المسألةِ يعتمدانِ على نصٍّ واحدٍ، كلٌّ منهما فَهِمَه في ضوءِ الأصولِ التي يسيرُ عليها، فمِثلُ هذه المسائلِ يصعبُ أنْ تَتَحّدَ فيها أقوالُ العلماءِ.
يقولُ أبو شامةَ المقدسي: "نصوصُ القرآنِ والسنةِ تحتمل وجوهًا مِن التأويلِ، وطُرُقُ العربيةِ ومجاريها واسعةٌ، فلكلِّ قولٍ منها دليلٌ"
(1)
.
(1)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (ص/ 99).
ويقولُ الشيخُ مصطفى الزرقا معلِّلًا عدمَ إمكانِ توحيدِ المذاهبِ: "قد يكون النصُّ نفسُه يحتملُ أنْ يُفهم على أكثرِ مِنْ وجهٍ، وتكون كلُّها مقبولةً رُغْم اختلافِها، فهذا مجالٌ واسعٌ في فهمِ النصوصِ وتفسيرِها، تختلفُ فيه آراءُ العلماءِ المتشرعين في ترجيحِ الفهمِ الذي يرى العالمُ الفقيهُ أنَّه هو الصحيحُ، أو الأصحُّ، أو الأقربُ إلى غرضِ الشارعِ، أو الأكثرُ انطباقًا على القواعدِ المقررةِ المستمدةِ مِنْ مجموعِ النصوصِ ذاتِ العلاقةِ في كلِّ موضوعٍ.
وكلُّ ذلك - أيضًا - هو فقهٌ يقومُ حولَ النصوصِ التشريعيةِ، فَهْمًا لها، وقياسًا عليها، وتفريعًا على قواعدِها
…
ونحو ذلك ممَّا لا يمكنُ أنْ تَتحدَ فيه فهومُ العلماءِ، فكيفَ يمكنُ توحيدُ الفقه إذًا؟ ! "
(1)
.
الثاني: أنَّ اختلافاتِ العلماءِ في المسائلِ لم تأْتِ دونَ سببٍ، لتُحلَّ بتوحيدِ المذاهبِ، بلْ هذه الأقوالُ والاختلافاتُ عائدةٌ إلى أصولٍ وقواعد سارَ عليها كلُّ عالمٍ.
وسيترتبُ على التوحيدِ خلطٌ في المسائلِ، وتلفيقٌ بينها، مِنْ جهةِ اعتمادِ بعضِ الأصولِ في مسائل، وإغفالِها وعدمِ العملِ بها في مسائل أخرى.
ثمَّ هل سيحجرُ على العلماءِ أنْ يختاروا، وأنْ يفتوا بخلافِ القولِ الذي قرره موحدو المذاهبِ الفقهيةِ؟ !
(2)
.
الثالث: لو فُرِضَ قيامُ مشروعِ توحيدِ المذاهب، فهل سَيُؤَسّسُ المشروعُ دونَ أصولٍ وقواعد يُرْجَعُ إليها؟
إنَّ سكوتَ الداعين إلى توحيدِ المذاهبِ عن الأصولِ والقواعدِ
(1)
فتاوى مصطفى الزرقا (ص/ 364).
(2)
يقول تقيُّ الدين بنُ تيمية في: مجموع الفتاوى (30/ 80): "فمن تبيّن له صحة أحد القولين تبعه، ومَنْ قلَّد أهل القول الآخر، فلا إنكار عليه".
والضوابطِ مِنْ أهمِّ الأمورِ التي تُضْعِفُ مِنْ شأنِ مشروعِهم، فإذا لم يكنْ ثمة أصولٌ، فكيفَ تُعالجُ النوازل؟ ! وكيفَ يسيرُ أربابُ هذا المذهبِ في استنباطِ الأحكامِ مِنْ نصوصِ الكتابِ والسنةِ؟ !
الرابع: أنَّ معالجةَ التعصبِ والتفرقِ وآثارِ التمذهب السلبيةِ الأخرى بالدعوةِ إلى توحيدِ المذاهب، معالجةٌ غيرُ ناجعةٍ. والدلَيل على هذا: أنَّ لهذه الدعوةِ عقودًا متطاولةً وَهي قائمةٌ وموجودةٌ، فمِن استجابَ لها؟ ! وهل أَخَذَ علماءُ المجامعِ والهيئاتِ العلمية بالمشروعِ، فأصدروا أحكامًا للمسائل التي وَرَدَت فيها نصوصٌ غيرُ قاطعةٍ؟ !
ولما دعا الشيخُ محمدٌ الحجوي إلى تعويدِ الطلاب على النظرِ في نصوصِ الكتاب والسنةِ - كما تقدّمَ نقلُ كلامِه حينَ تكلّمتُ عنْ طرقِ علاجِ الآثارِ السلبية - خَتَمَ دعوتَه قائلًا: "وهذا العملُ أنجحُ مِن السعي في توحيدِ المذاهبِ"
(1)
.
وقال - أيضًا -: "كنتُ لا أرتضي فكرةَ توحيدِ المذاهب؛ لأنَّها فكرةٌ لا نتيجةَ لها، ولا تفيدُ المجتمعَ الإسلاميَّ إلا شقاقًا آخر فقط! "
(2)
.
ثمَّ إنَّ إعراضَ علماءِ عصرِنا عن توحيدِ المذاهبِ دليلٌ على ضعفِ هذا العلاجِ لاجتثاثِ التعصبِ المذهبي المقيتِ.
الخامس: أنَّ في توحيدِ المذاهبِ الفقهيةِ في مذهبٍ واحدٍ، بحيثُ يسيرُ الناسُ كلُّهم على قولٍ واحدٍ، مشقةً عليهم؛ فليس بمقدورِهم أنْ يكونوا على قولٍ واحدٍ في جميعِ المسائلِ العَمَلية، فعدمُ توحيدِ المذاهبِ يدفعُ عن الناسِ مشقاتٍ عديدة يعرفُها أهلُ العلمِ الممارسون إفتاء الناسِ
(3)
.
بلْ إنَّ وجودَ الاختلافاتِ بين العلماءِ ممَّا يُمْكِنُ معه تحقيقُ اليُسْرِ على العلماءِ، بحيثُ لا يُضلَّل المخالفُ في المسائلِ الاجتهاديةِ.
(1)
الفكر السامي (4/ 394).
(2)
المصدر السابق (4/ 416).
(3)
انظر: فتاوى مصطفى الزرقا (ص/ 367).
يقولُ أبو شامة المقدسي: "اختلافُ الأئمةِ رحمةٌ"
(1)
.
ويقولُ جلالُ الدين السيوطي: "اعلمْ أنَّ اختلافَ المذاهب في هذه الملّةِ نعمةٌ كبيرةٌ، وفضيلةٌ عظيمةٌ
…
"
(2)
، ويقولُ أيضًا: "إنَّ اختلافَ المذاهبِ في هذه الملّة خِصّيصةٌ فاضلةٌ لهذه الأمةِ، وتوسيعٌ في هذه الشريعةِ السمحةِ السهلةِ
…
"
(3)
.
وقد وَصَفَ السيوطيُّ القائلين بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاءَ بشرع واحدٍ، فمِنْ أينَ جاءَت هذه المذاهب الأربعة؟ بالجُهالِ
(4)
.
وقد جاءَ عن بعضِ السلفِ أقوالٌ في هذا المعنى، دالةٌ على تخفيفِ وطأةِ اختلافاتِ العلماءِ فيما كان طريقُه الاجتهاد، فمِنْ هذا:
- قول عمر بن عبد العزيز
(5)
: "ما يَسُرّني باختلافِ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حُمْر النَّعَم
(6)
"
(7)
.
(1)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (ص/ 99).
(2)
جزيل المواهب في اختلاف المذاهب (ص/ 25).
(3)
المصدر السابق (ص/ 27).
(4)
انظر: المصدر السابق (ص/ 25).
(5)
هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، أبو حفص المدني ثم الدمشقي، ولد بالمدينة سنة 61 هـ وقيل: سنة 63 هـ وهو الخليفة الأموي الزاهد، والإمام العادل، والمجتهد الورع، والعامل العابد، روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وصلى أنس خلفه، كان تابعيًا جليلًا علامةً حافظًا ثقةً مأمونًا، له فقه وعلم وورع، تولى الخلافة سنة 99 هـ فأقام العدل بين الناس، توفي سنة 101 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 330)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (5/ 253)، وتهذيب الكمال للمزي (21/ 432)، وسير إعلام النبلاء (5/ 114)، والبداية والنهاية (12/ 676)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (3/ 240).
(6)
حُمْر النَّعَم: الحُمْر جمع أحمر، والنَّعَم: واحد الأنعام، وهي البهائم، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، فحُمْر النَّعَم: كرائمها، وهي مَثَل في كل نفيس. انظر: المغرب في ترتيب المعرب للمطرزي، مادة:(حمر)، (1/ 223)، والمصباح المنير للفيومي، مادة:(حمر)، (ص/131).
(7)
أخرج قول عمر بن عبد العزيز: ابنُ سعد في: الطبقات الكبرى (5/ 381)؛ والخطيب البغدادي في: الفقيه والمتفقه (2/ 117)، برقم (745)؛ وابن عبد البر معلّقًا في: جامع بيان =
- وقول الموفق بنِ قدامة في فاتحةِ كتابِه (المغني)
(1)
عن الأئمة المجتهدين: "اتفاقُهم حجةٌ قاطعةٌ، واختلافُهم رحمةٌ واسعةٌ".
السادس: ليس الاختلافُ في الفقهِ والفروعِ مِن الاختلافِ المنهيِّ عنه
(2)
، لنخرجَ عنه بتوحيدِ المذاهب، بل إنَّ الاختلافَ فيها موجود منذُ زمنِ الصحابةِ رضي الله عنهم
(3)
، ولم يدعُ أحدٌ مَنهم إلى توحيدِ الأقوالِ
(4)
.
ويدل على أنَّ الاختلافَ في الفروعِ ليس بمذموم حتى مع وجودِ النصِّ المحتمل: حديثُ عبدِ الله بنِ عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لصحابته رضي الله عنهم (لا يُصلينَّ أحَدٌ العصرَ إلا في بني قريظة). فادرك بعضُهم العصرَ في الطريقِ، وقال بعضُهم:"لا نصلي حتى نأتيها". وقال بعضُهم: "بلْ نصلي؛ لم يُرِد منَّا ذلك". فَذُكِرَ للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يُعَنّفْ واحدًا منهم
(5)
.
= العلم وفضله (2/ 901)، برقم (1698)، وقال عقيبه:"هذا فيما كان طريقه الاجتهاد".
والدارمي بنحوه في: المسند، في المقدمة، باب: اختلاف الفقهاء (1/ 489)، برقم (652).
وقال ابنُ حجر في: المطالب العالية (12/ 600) عن الأثر: "صحيح مقطوع".
وعلَّق تقيُّ الدين بنُ تيمية في: مجموع الفتاوى (30/ 80) على قول عمر بن عبد العزيز، فقال:"لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ، فخالفهم رجلٌ كان ضالًا، وإذا اختلفوا، فأخذ رجلٌ بقول هذا، ورجلٌ بقول هذا، كان في الأمر سعة".
وانظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 902)، وجزيل المواهب في اختلاف المذاهب للسيوطي (ص/ 21). وقارن بالعَلَم الشامخ للمقبلي (ص/ 485).
(1)
(1/ 4). وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (30/ 80).
(2)
انظر: الفقه الإسلامي ومدارسه لمصطفى الزرقا (ص/ 84 - 85)، ونقاط الالتقاء بين المذاهب الإسلامية للدكتور وهبة الزحيلي (4/ 170) ضمن موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر.
(3)
انظر: جزيل المواهب في اختلاف المذاهب للسيوطي (ص/ 25).
(4)
انظر: نقاط الالتقاء بين المذاهب الإسلامية للدكتور وهبة الزحيلي (4/ 171) ضمن موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر.
(5)
أخرج حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: البخاري في: صحيحه، كتاب: صلاة الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً (ص/ 189)، برقم (946)، واللفظ له؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: الجهاد والسير، باب: مَنْ لزمه أمرٌ، فدخل عليه أمر آخر (2/ 848)، برقم (1770). =
وكذلك الاختلافُ موجودٌ بين أربابِ العلومِ الأخرى - كالنحوِ والحديثِ والتفسيرِ وغيرِها - ولم يدعُ أحدٌ مِنْ أربابِ هذه العلومِ إلى توحيدِ الأقوالِ في علومِهم، ولم يعبْ أحدٌ منهم الاختلافَ الواقعَ بينهم
(1)
.
السابع: أنَّ في الدعوةِ إلى توحيدِ المذاهبِ عدةَ سلبيات:
منها: ظنُّ السامعِ للدعوةِ إلى توحيدِ المذاهب أنَّ المذاهبَ المتبوعةَ عيبٌ يجبُ التّخلّصُ منه، ومشكلةٌ يجب حلُّها
(2)
، ولَيس الأمرُ كذلك قطعًا.
ومنها: هدرُ الثروةِ العلميةِ التي خلفتها المذاهبُ الفقهيةُ المتبوعة وتضييعُها - من المؤلفات في الفقه وأصوله، والقواعد والضوابط الفقهية - وهذه الثروةُ محلُّ اعتزازِ وامتيازٍ للأمةِ وعلمائِها
(3)
.
ومنها: التسويةُ بين الاختلافِ في الفروع، والاختلافِ في العقائدِ، إذ الاختلافُ في العقائدِ مذمومٌ، وهو سببٌ للفُرْقَةِ والتفرّقِ، بخلافِ الاختلافِ في الفروعِ، فليس بسببٍ للفُرْقَةِ، إذا خلا عن التعصبِ المذهبي.
وختامًا لهذا المحورِ، أقول: لقد ذَكَرَ الشيخُ محمدٌ الحجوي كلمةً حسنةً في هذا المقامِ، فقالَ: "فالواجبُ علينا أنْ لا نسعى وراءَ توحيدِ المذاهبِ؛ لأنَّه أصعب شيءٍ يعانيه المصلحون، بلْ يجبُ أنْ نطّرحَ
= وقد علَّق ابن القيم في: إعلام الموقعين (2/ 355) على فعل الصحابة رضي الله عنهم، فقال:"اجتهد بعضُهم وصلّاها في الطريق، وقال: لم يُرِدْ منا التأخير، وإنَّما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون، وأخروها إلى بني قريضة، فصلوها ليلًا؛ نظروا إلى اللفظ. وأولئك سلف أهل الظاهر، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس".
وانظر: المصفى في أصول الفقه لأحمد الوزير (ص/ 22)، وأسباب اختلاف الفقهاء لعلي الخفيف (ص/ 187 - 188)، ومناهج الاجتهاد في الإسلام للدكتور محمد مدكور (ص/ 99 - 100).
(1)
انظر: نقاط الالتقاء بين المذاهب الإسلامية للدكتور وهبة الزحيلي (4/ 171) ضمن موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر.
(2)
انظر: الفقه الإسلامي ومدارسه لمصطفى الزرقا (ص/ 84).
(3)
انظر: المصدر السابق (ص/ 85).
التعصبَ، ونعتبرَ أنَّ كلَّ مذهب فيه صوابٌ وخطأ لم يتعمدْه قائلُه، ولكنْ أداه إليه اجتهادُه"
(1)
.
وقد وَصَفَ الشيخُ مصطفى الزرقا الدعوةَ إلى توحيدِ المذاهبِ بأنَّها تدعو إلى أمرٍ مستحيلٍ
(2)
.
وقسا الدكتورُ وهبة الزحيلي فوصف الداعين إلى توحيد المذاهب بـ: "الجهلةِ والعوامِّ"
(3)
.
المحور الثاني: نقد المشروع العملي المقترح لتوحيد المذاهب.
كما سَبَقَ في المبحثِ الأولِ، فقد اقترحَ بعضُ الداعين إلى توحيدِ المذاهبِ مشروعًا، يضمنُ للأمةِ أنْ تسيرَ على مذهب واحدٍ، ولكونِ المشروعِ الذي اقترحه الأستاذُ محمدٌ عباسي أنضجَ ممَّا ذَكَرَه الشيخُ محمد الباني، فسوفَ أقتصرُ في نقدي على المشروعِ الثاني، تاركًا ما قاله الشيخُ الباني؛ لأنَّ ما ذكرتُه في المحورِ الأولِ صالحٌ لنقدِه ومناقشتِه.
يمكن نقدُ المشروعِ المقترحِ في ضوءِ الآتي:
أولًا: لم يُبْدِ صاحبُ المشروعِ المقترحِ أصولًا يسيرُ عليها العلماءُ المنتسبون إليه، فلم يذكرْ أدلةً يُرْجَعُ إليها، ولا طُرُقًا للاستدلالِ.
وهذا ماخذ كبيرٌ؛ إذ كيفَ يقومُ مذهبٌ دونَ أصول يسيرُ أربابُهْ عليها؟ !
ثانيًا: دعا صاحبُ المشروعِ إلى إقامةِ لجنةٍ مؤلَّفةٍ مِنْ علماءِ العالم الإسلامي؛ لتنظرَ في المسائلِ المختلفِ فيها اختلافَ تضاد، وتقررُ اللجنةُ أقوى الآراءِ وأرجحِها مِنْ حيثُ الدليلُ، دونَ تعصبٍ لرأي على آخر.
(1)
الفكر السامي (4/ 449).
(2)
انظر: الفقه الإسلامي ومدارسه (ص/ 86).
(3)
نقاط الالتقاء بين المذاهب الإسلامية (4/ 170) ضمن موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر.
وهذا أمرٌ يسهلُ تقريره نظريًا، لكن ما العمل إذا اجتمعوا، واختلفوا؟ ! بل إنَّ احتمالَ اختلافِهم أقربُ مِن احتمالِ اتفاقِهم، كما هو الشأنُ عادةً بين علماءِ المسلمين في المسائلِ الاجتهاديةِ، إذا كانوا مِنْ مذاهب فقهيةٍ مختلفةٍ.
ثالثًا: دعا المشروعُ إلى تركِ كلِّ رأي ظَهَرَ ضعفُه وبطلانُه، وهذا أمرٌ حسنٌ، لا أظن أحدًا يخالفُ فيه، لكنْ لم يُحَدّدْ في المشروعِ ضابطُ ضعفِ القولِ وبطلانِه.
رابعًا: اقترح صاحبُ المشروعِ تسمية مشروعِه بمذهبِ الكتابِ والسنةِ وجميعِ الأئمةِ، وهنا عدة أمورٍ:
الأمر الأول: إذا نَظَرَ علماءُ اللجنةِ في مسألةٍ، ورجّحوا قولَ الإمامِ مالكٍ، وتركوا قولَ الإمامِ أحمدَ مثلًا، فكيفَ يسمي المشروعُ المذهبَ كلَّه بمذهبِ جميعِ الأئمةِ، وقد خالفوا الإمامَ أحمدَ؟ !
وإذا نُظِرَ في مسألةٍ لم يُنْقَلْ فيها عن أحدِ الأئمةِ قولٌ أصلًا، فكيف يُنْسَبُ إليه ما اختارته اللجنةُ؟ ! فمعنى نسبةِ المذهبِ إلى جميعِ الأئمةِ أنَّ الأقوالَ التي تختارها اللجنةُ قد قالها الأئمةُ كلُّهم، واختاروها.
الأمر الثاني: في تسميةِ المشروعِ للمذهبِ الموحَّدِ بمذهب الكتابِ والسنةِ إشارةٌ إلى أنَّ ما عداه مِن المذاهبِ ليس كذلك، وهذا قدحٌ خفيٌ في المذاهبِ المتبوعة، غير مطابقٍ لواقعِها؛ إذ من أصولِها الاعتمادُ على دليلي: الكتابِ والسنةِ.
الأمر الثالث: قرَّرَ المشروعُ في المسائلِ التي يصعبُ فيها الترجيحُ، وتتساوى أدلتُها في القوةِ، جوازَ الأخذِ بأيِّ رأي منها، ويحسن تقديمُ ما يرجح مِنْ ناحيةِ المصلحةِ للمسلمين.
فهل يسمى هذا الرأي بمذهبِ الكتابِ والسنةِ وجميعِ الأئمة؟ !
الأمر الرابع: لم يدّعِ أحدٌ مِن الأئمةِ المجتهدين أنَّ ما قرره واختاره
هو مذهبُ الكتابِ والسنةِ، وإنَّما لسانُ حالِهم أنَّ ما اختاروه هو الأقربُ إلى دلالةِ الكتابِ والسنةِ، ولا سيما في المسائل التي تتجاذبها الأدلةُ.
ويدلُّ على عدمِ جواز ادِّعاءِ المجتهدِ أنَّ قولَه ورأيَه هو حكم الشرعِ أو حكم الله تعالى أمورٌ، منها:
- كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أمّر على جيشٍ أوصى الأميرَ فيما إذا أرادَ الكفارُ منه أنْ ينزلَهم على حكمِ الله، فقال:(إذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ، فأرادوك أنْ تُنزِلَهم على حُكمِ الله، فلا تُنزِلْهم على حكمِ الله، ولكنْ أنزلهم على حكمِك؛ فإنَّك لا تدري أتصيبَ فيهم حكمَ الله، أم لا؟ )
(1)
.
- جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم عدمُ نسبةِ آرائِهم إلى الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك:
- لما كَتَبَ كاتبُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه (هذا ما أرى اللهُ أميرَ المؤمنين عمر)، فانتهره عمر رضي الله عنه، وقالَ:(لا، بلْ اكتبْ هذا ما رأى عمرُ؛ فإنْ يكن صوابًا فمِن الله، وانْ يكن خطأ فمِنْ عمرَ)
(2)
.
خامسًا: لم يبيّن المشروعُ المنهجَ المتبعَ في دراسةِ النوازلِ والحوادثِ، وما العملُ إذا نَظَرَ علماءُ اللجنةِ في النازلةِ، واختلفوا؟
سادسًا: نفى الأستاذُ محمدٌ عباسي عن نفسِه أنَّه يدعو إلى إنشاءِ مذهب خامسٍ
(3)
، وفي الحقيقةِ لا أرى المشروعَ المقترحَ منه إلا دعوةً إلى مذهبٍ خامسٍ؛ لأنَّ إلغاءَ المذاهبِ الأربعةِ أمرٌ غيرُ ممكنٌ، وقد دعا إلى توحيدها في مذهبٍ جديدٍ.
(1)
هذا قطعة من حديث بريدة رضي الله عنه، وأخرجه: مسلم في: صحيحه، كتاب: الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث (2/ 828)، برقم (1731).
(2)
أخرج أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: البيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي (10/ 116).
وقال ابن حجر في: التلخيص الحبير (6/ 3202) عن الأثر: "إسناده صحيح".
(3)
انظر: بدعة التعصب المذهبي (ص/ 62).
هذا ما بدا لي من نقدٍ على المشروعِ المقترحِ، وتجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ نقدَ المشروعِ لا يعني بحالٍ انتقادَ مَنْ يدعو إلى تعظيمِ الأدلةِ، والعملِ بها، فهذا شيءٌ، ونقد المشروعِ المقترحِ شيءٌ آخر.
* * *