الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: ردُّ دلالة الآيات والأحاديث الثابتة، والتكلف في ذلك
لا شكَّ في أنَّ عمادَ الأحكامِ الشرعيةِ هو اتباع الدليلِ، ويأتي على رأسِ الأدلةِ دليلُ الكتابِ، ودليلُ السنةِ النبويةِ المطهرةِ.
ومهما أوتي المجتهدُ مِنْ حفظٍ للسنةِ النبويةِ ومعرفةٍ بها، فإنَّ احتمالَ مخالفتِه لدليلٍ منها لم يطلعْ عليه احتمالٌ قوي.
وأيضًا: فقد لا يأخذ المجتهدُ بما دلَّ عليه الحديث؛ لعدم وقوفِه على إسنادٍ صحيحٍ له، في حين أنَّ الحديثَ ثابتٌ مِنْ طريقٍ آخر.
إذا تقرَّرَ أنَّ احتمالَ مخالفةِ إمامِ المذهبِ لدليلٍ مِن الكتاب والسنةِ - على وجهِ الخصوصِ - احتمالٌ قائمٌ، فإنَّ هذا الأمرَ يجعل العذرَ قائمًا لدى أتباعِه في مخالفةِ إمامِهم فيما ذَهَبَ إليه، واتِّباع مجتهدٍ آخر أَخَذَ بالدليلِ.
لكنَّ الأمرَ لم يقعْ على هذا النحوِ عند بعضِ المتمذهبين؛ إذ تمسّكَ بعضُهم بما جاءَ عن إمامِهم، وردّوا حُكْمَ الكتاب والحديثِ النبوي بالتكلّفِ في أوجهِ الجوابِ عنهما، كلُّ ذلك؛ لئلا يخالفوَا إمامَهم ومذهبَهم، فجعلوا قولَ إمامِهم ومذهبَهم أصلًا، فما جاءَ به الكتابُ والسنة موافقًا لأصلِهم قبلوه، وما خالفه ردّوه
(1)
.
وأنبّه إلى أنَّ حكايةَ الأثرِ السلبي للتمذهب وبيانَه لا يعني بالضرورةِ وقوعَ كافّة المتمذهبين فيه، وتلبّسهم به، بل المقصودُ أنَّ مِنْ المتمذهبين مَنْ وَقَعَ في هذا الأمر، وتلبَّس به في عصرٍ مِن العصورِ.
(1)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (10/ 367)، وإعلام الموقعين (6/ 127).
لقد كان مِنْ أسوأِ آثارِ التمذهبِ السلبيةِ، إنْ لم يكن أسوأها، وقوعُ بعضِ المتمذهبين في مخالفةِ نصوصِ الكتاب والسنةِ، بُغْيَةَ البقاءِ على المذهبِ، ولزومِه وعدمِ مفارقتِه
(1)
، فردّوا الأدلَّةَ الشرعيةَ، لمجرّدِ مخالفتِها المذهب
(2)
.
ولقد بَرَزَ الأثرُ السلبيُّ بصورةٍ أوضح في السنةِ النبويةِ؛ لوقوعِ بعضِ أئمةِ المذاهب في مخالفةِ دليلٍ منها، لأي سببٍ من الأسباب التي يُعذر بها الإمامُ.
يقولُ أبو الوفاءِ بنُ عقيل: "المذاهب تُؤْخَذُ مِن الأدلةِ، فأمَّا أنْ تُؤْخَذَ الأدلةُ أو تُصَحّح مِن المذاهبِ، فكلا، وهذا يكثرُ مِن الفقهاءِ"
(3)
.
ويقولُ ابنُ أبي العزِّ الحنفي عن بعضِ متعصبةِ مذهبِه: "إنْ أُورِدَ عليهم نصٌّ مخالفٌ قوله - أي: قول الإمام أبي حنيفة - تأوّلوه على غيرِ تأويلِه؛ ليدفعوه عنهم"
(4)
.
وقد أشارَ الشوكانيُّ إلى أنَّ المحاماةَ والمدافعةَ عن المذهب، وإيثارَه على السنةِ النبويةِ الصحيحةِ مِنْ "ثمراتِ التمذهباتِ، وتقليدِ الَرجالِ في مسائلِ الحلالِ والحرامِ"
(5)
.
ولا يخفى أنَّ اللومَ في هذه الحالةِ يقعُ على مَنْ تلبَّسَ بالأثرِ السيئِ، ولا يشملُ جميعَ المتمذهبين ممَّن لم يتلبسْ به.
وقد بيَّنَ تقيُّ الدين بنُ تيمية أنَّ تأويلَ النصوصِ - الصحيحة أو
(1)
انظر: بدعة التعصب المذهبي لمحمد عباسي (ص/ 139)، وزوابع في وجه السنة لصلاح الدين مقبول (ص/ 381).
(2)
انظر: المتأخرون بين التجريد والتدليل للدكتور الصادق الغرياني، بحوث الملتقى الأول: القاضي عبد الوهاب المالكي (6/ 528).
(3)
الواضح في أصول الفقه (1/ 358).
(4)
الاتباع (ص/ 30).
(5)
نيل الأوطار (6/ 596).
الضعيفة - تأويلًا غيرَ صحيحٍ، خطأٌ وقعتْ فيه طوائفُ مِن المقلّدين والمتفقهين
(1)
.
ومِن الخطأِ الواضحِ ردُّ الأحاديثِ النبويةِ إلى المذاهبِ وآرائِها، إذ الواجبُ أنْ تُردَّ المذاهبُ إليها؛ لأنَّ الأحاديثَ النبويةَ حجةٌ على مَنْ خالفها
(2)
.
ويحكي ابنُ حزمٍ حالَ بعضِ المتعصبين، فيقول: "يَضْرِبُون عن كل حجةٍ خالفتْ قولَهم، فإنْ كانت آيةً أو حديثًا تأولوا فيهما التأويلاتِ البعيدة، وحرَّفوهما عن مواضعِهما، فدخلوا في قولِه تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}
(3)
، فإنْ أعياهم ذلك قالوا: هذا خصوصٌ، وهذا متروكٌ، وليس عليه العملُ"
(4)
.
ويقولُ العزُّ بنُ عبد السلام عن تصرفاتِ بعض المتمذهبين: "يتحيَّلُ لدفِعِ ظواهرِ الكتاب والسنةِ، ويتأولها بالتأويلاتِ البعيدةِ الباطلةِ؛ نضالًا عن مقلَّدِه! "
(5)
.
ويقولُ - أيضًا -: "إنَّ أحدَهم يتَبع إمامَه مع بُعْدِ مذهبه عن الأدلةِ؛ مقلّدًا له فيما قالَ، كأنَّه نبي أُرسلَ إليه! "
(6)
.
لقدْ أضحى التمسكُ بالمذهبِ عند بعضِ المتمذهبين الأصلَ الذي يسيرُ عليه، وصارَ مِن المألوفِ عندهم ردُّ نصوصِ الكتابِ والسنةِ إذا خالفها
(1)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (19/ 74)، و (24/ 154).
(2)
انظر: القواعد للمقري (2/ 396).
(3)
وردت هذه الآية في موضعين: الأول: من الآية (46) من سورة النساء، الثاني: من الآية (13) من سورة المائدة.
(4)
الإحكام في أصول الأحكام (6/ 117).
(5)
القواعد الكبرى (2/ 275). وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (24/ 154)، وإرشاد النقاد للصنعاني (ص / 163، 166)، وتعليل الأحكام للدكتور محمد شلبي (ص / 54).
(6)
القواعد الكبرى (2/ 371).
قولُ إمامِهم
(1)
.
ولم يكنْ مِن السهلِ على نفوسِ كثيرٍ مِن المتمذهبين أنْ يرى التعصبَ المذهبيَّ المقيتَ بين أربابِ المذاهبِ، فتأسى بعضُ العلماءِ على حالِ أولئك القومِ، وحذَّروا مِنْ صنيعِهم.
يقولُ أبو شامةَ المقدسي: "آلَ بهم - أيْ: بكثيرٍ مِن المقلِّدين للمذاهبِ - التعصّبُ إلى أنْ صارَ أحدُهم إذا أُورِدَ عليه شيءٌ مِن الكتابِ والسنةِ الثابتةِ على خلافِ مذهبِه، يجتهد في دفعِه بكلِّ سبيلٍ مِن التأويلِ البعيدِ؛ نصرةً لقولِه، وإعراضًا عمَّا يجبُ عليه الأخذُ به"
(2)
.
ويقولُ في موضعٍ آخر: "والأمرُ عند المقلِّدين، أو أكثرِهم بخلافِ هذا - أي: تأويل كلام إمام المذهب؛ ليوافقَ الحديث - إنَّما هم يُؤَوّلون الخبرَ؛ تنزيلًا له على نصِّ إمامِهم"
(3)
.
ولابنِ القيمِ كلماتٌ تُؤكِّدُ ما حكاه أبو شامةَ عن حالِ بعضِ المتمذهبين، فيقول:"كيفَ يكونُ مِنْ ورثةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم مَنْ يجهدُ ويكدحُ في ردِّ ما جاءَ به إلى قولِ مقلَّدِه ومتبوعِه، ويضَيّعُ ساعاتِ عمرِه في التعصّبِ والهوى، ولا يشعرُ بتضييعه؟ ! "
(4)
.
ويقولُ - أيضًا - في السياقِ ذاته: "أمَّا المتعصبون
…
فنظروا في السنةِ، فما وافقَ أقوالهم منها قَبِلُوه، وما خالفها تحيَّلوا في ردِّه، أو ردِّ دلالته"
(5)
.
(1)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 117 - 118)، ونيل الابتهاج للتنبكي (ص/ 294)، ورسالة في الاجتهاد والتقليد لحمد بن معمر (ص/ 89)، والدرر السنية لابن قاسم (4/ 55)، وإمام الكلام للكنوي (ص/ 36 - 37).
(2)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (ص/ 100).
(3)
المصدر السابق (ص/ 127)، وانظر منه:(ص / 130 - 131، 143).
(4)
إعلام الموقعين (1/ 11 - 12).
(5)
المصدر السابق (2/ 143)، وانظر منه:(3/ 523).
ويقولُ في موضعٍ آخر حاكيًا حالَ متعصبي المذاهب: "فإذا خالفَ قولُ متبوعِهم نصًّا عن الله ورسولِه، فالواجبُ التمحّلُ والتكلّفُ في إخراجِ ذلك النصِّ عن دلالتِه، والتحيّلُ لدفعِه بكلِّ طريقٍ؛ حتى يصحَّ قولُ متبوعِهم"
(1)
.
وجعلَ المتعصبون - كما نبّه إليه ابنُ القيّمِ - مذهبَهم وقولَ إمامهم عيارًا على الكتاب والسنةِ، فهو المحكمُ، ونصوصُ الكتابِ والسنةِ مِن المتشابهِ، فما وافقَ قولَ إمامِهم منهما احتجوا به وقرروه، وما خالفه تأولوه أو فوضوه
(2)
، فأمسى ضابطُ تأويلِ النصوصِ عندهم هو مخالفةُ المذهبِ
(3)
.
وقد صدَّر ابنُ دقيق العيد كتابَه: (شرح الإلمام بأحاديث الأحكام)
(4)
ببيانِ المنهجِ القويمِ مع النصوصِ الشرعيةِ، فقالَ: "يُجعل الرأيُ هو المؤتمّ، والنصُّ هو الإمام، وتُرَدُّ المذاهبُ إليه، وتُضمُّ الآراءُ المنتشرةُ حتى تقف بين يديه.
وأمَّا أنْ يُجعلَ الفرعُ أصلًا، بردِّ النصِّ إليه بالتكلّفِ والتحيّلِ، ويُحْمَل على أَبْعَدِ المحاملِ، بلطافةِ الوهم، وسعةِ التخيّلِ، ويرْكَب في تقريرِ الآراءِ الصعب والذَّلول، ويعملُ مِن التأويلاتِ ما تَنْفُر عنه النفوسُ، وتستنكره العقولُ: فذلك عندنا مِنْ أردأِ مذهبٍ، وأسوأِ طريقةٍ
…
ومتى يُنْصِفُ حاكمٌ مَلَكَتْه العصبيةُ؟ ! ".
وإذا كان صدورُ التعصبِ بردِّ الكتاب والسنةِ مِن المتمذهبين الذين لم يتمكنوا مِن العلمِ، غيرَ مقبولٍ ولا سَائغٍ، فكيفَ إذا صَدَرَ مِن بعضِ المتمكنين في علومِ الشريعةِ؟ !
(1)
المصدر السابق (3/ 490)، وانظر منه:(3/ 522).
(2)
انظر: الفروسية المحمدية (ص/ 284 - 285)، والصواعق المرسلة (1/ 230 - 231).
وراجع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (24/ 154)، والاتباع لابن أبي العز (ص/ 30)، وبدعة التعصب المذهبي لمحمد عباسي (ص/ 127).
(3)
انظر: الصواعق المرسلة (1/ 232 - 233)، ومدارج السالكين (3/ 182).
(4)
(1/ 6). وانظر: أضواء البيان للشنقيطي (7/ 572).
يقولُ أبو عبد الله المقّري: "تَرَى الرجلَ يبذلُ جهدَه في استقصاءِ المسائلِ، ويستفرغُ وسعَه في تقديرِ الطُرقِ، وتحريرِ الدلائلِ، ثم لا يختارُ إلا مذهبَ مَن انتصرَ له وحدَه؛ لمحضِ التعصّب له، مع ظهورِ الحجةِ الدامغةِ، ثم يَنْكّفُ عن محجّتِها إلى الطرقِ الرائغةِ"
(1)
ومِن الحيلِ في ردِّ النصوصِ الشرعيةِ التي يصنعها بعضُ المتمذهبين إذا خالفَ مذهبُهم الدليلَ: ادِّعاءُ نسخِ النصِّ بغيرِ دليلٍ يدل عليه؛ يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية: "نَجِدُ كثيرًا مِن الناسِ، ممَّنْ يخالفُ الحديثَ الصحيحَ - مِنْ أصحابِ أبي حنيفةَ أو غيرِهم - يقول: هذا منسوخٌ.
وقد اتخذوا هذا محنةً
(2)
؛ كلُّ حديثٍ لا يوافقُ مذهبَهم يقولون: هو منسوخٌ، مِنْ غيرِ أنْ يعلموا أنَّه منسوخٌ، ولا يُثْبِتُوا ما الذي نَسَخَه؟ "
(3)
.
ويقولُ شمسُ الدِّين بنُ القيمِ: "وكثيرٌ من المقلدةِ المتعصبين إذا رأوا حديثًا يخالفُ مذهبَهم يتلقونه بالتأويلِ وحملِه على خلافِ ظاهرِه ما وجدوا إليه سبيلًا، فإذا جاءهم مِنْ ذلك ما يغلبهم فزِعوا إلى دعوى الإجماعِ على خلافِه، فإنْ رأوا مِن الخلافِ ما لا يمكنهم معه دعوى الإجماع، فزِعوا إلى القولِ بأنَّه منسوخٌ"
(4)
.
ولقد جرَّتْ صورُ التعصب هذه إلى الجمودِ المذهبي، وعدمِ التزحزح عن المذهبِ مهما كان ضعيفًا
(5)
.
يقولُ العزُّ بنُ عبد السلام حاكيًا حالَ بعضِ المتمذهبين الذين جمدوا
(1)
نقل كلامَ أبي عبد الله المقّري الونشريسيُّ في: المعيار العرب (2/ 483).
(2)
هكذا وردت اللفظة في: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (21/ 155)، ويظهر أنها محرفةٌ من:"مهنة".
(3)
المصدر السابق. وانظر: إعلام الموقعين (3/ 522)، وأدب الطلب للشوكاني (ص/ 235 - 236).
(4)
كتاب الصلاة (ص/ 221 - 222) ط/ دار عالم الفوائد، وانظر: منه (ص/ 397).
(5)
انظر: منهج ابن تيمية في الفقه للدكتور سعود العطيشان (ص/ 150).
على مذهبِهم: "مِن العجبِ العجيبِ أنَّ الفقهاءَ المقلِّدين يقفُ أحدُهم على ضعفِ مأخذِ إمامِه، بحيثُ لا يجدُ لضعفِه مدفعًا، وهو مع ذلك يقلِّده فيه، ويتركُ مَنْ شَهِدَ الكتابُ والسنةُ والأقيسةُ الصحيحةُ لمذهبِه؛ جمودًا على تقليدِ إمامِه
…
وقد رأيناهم يجتمعون في المجالسِ، فإذا ذُكِرَ لأحدِهم خلافُ ما وطَّن نفسَه عليه، تعجّبَ منه غايةَ العجبِ، مِنْ غيرِ استرواحٍ إلى دليلٍ، بلْ لما أَلِفَه مِنْ تقليدِ إمامِه"
(1)
.
ويحكي أبو شامةَ المقدسي عن حالِ بعضِ الشافعيةِ بعد التفاتِهم إلى مؤلفاتِ أبي إسحاق الشيرازي، وأبي حامد الغزالي، فيقول:"كَثُرَ المتعصبون لهما، حتى صار المتبحّر المرتفعُ عند نفسِه يرى أنَّ نصوصَهما كنصوصِ الكتابِ والسنةِ"
(2)
.
وَيرَى بعضُ المتمذهبين أنَّ كلَّ ما في مذهبِهم مِن الأقوالِ والأصولِ صوابٌ، وأن ما خالفه خطأٌ
(3)
، وأدَّى هذا الأمرُ إلى ركونِ كلِّ أرباب مذهبٍ إلى مذهبِهم، دون تفكيرٍ في تركِ ما في مذهبِهم مِنْ أقوالٍ.
ويلحقُ بهذا اللون مِن التعصّبِ: ما يصنعه بعضُ المتمذهبين بالاختلافِ في استعمالِ القواعدِ الأصوليةِ بناءً على ما فيها مِن الأقوالِ، فإن كانت القاعدةُ الأصوليةُ بناءً على أحدِ الأقوالِ فيها تخدمُ مذهبَهم أخذوا بها، وإنْ كانت القاعدةُ نفسُها تخدمُ المذهبَ بناءً على قولٍ آخر فيها أخذوا بها على القولِ الآخرِ وخالفوا ما صنعوه أولًا.
يقولُ ابنُ القيّم في هذا الصددِ: "وممَّا يُقضى منه العجب: أنَّهم - أي: بعض الفقهاء - إذا رأوا الروايةَ عن صاحبٍ مِنْ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو غيرِه بخلافِ ما روى توافقُ قولَ مَنْ قلّدوه، قالوا: ما كانَ ليتركَ ما روى
(1)
القواعد الكبرى (2/ 274 - 275).
(2)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (ص/ 140).
(3)
انظر: إمام الكلام للكنوي (ص/ 36)، وتأريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ 306).
عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو عنده منسوخٌ، أو لأمرٍ اطلع عليه خفي علينا، وإلا قَدَحَ ذلك في عدالتِه وسقطتْ روايتُه رأسًا، ويبطلُ جميعُ ما رواه. فإذا كانت الروايةُ عنه بفتواه بخلافِ ما روى تخالفُ قولَ مَنْ قلّدوه والحديثُ يوافقُ قولَه، قالوا: الحجةُ فيما روى، ولعله نسي أو تأولَ تأويلًا ظنَّه موجِبًا لترك ما رواه، وليس الأمرُ كذلك في نفسِ الأمرِ
…
والميزانُ عندهم هو قولُ مَنْ قلدوه"
(1)
.
مثال للتكلف في ردِّ الدليل: تأويلُ حديثِ عائشةَ رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيّما امرأة نكحتْ بغيرِ إذن وليها، فنكاحُها باطلٌ باطلٌ باطلٌ)
(2)
.
(1)
رفع اليدين في الصلاة لابن القيم (ص/187).
(2)
أخرج حديث عائشة رضي الله عنها: أبو داود في: سننه، كتاب: النكاح، باب: في الولي (ص / 316)، برقم (2083)؛ والترمذي في: جامعه، كتاب: النكاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب:(دون ترجمة)، (ص/ 259)، برقم (1102)، وقال:"هذا حديث حسن". والنسائي في: السنن الكبرى، كتاب: النكاح، باب: الثيب تجعل أمرها لغير وليها (5/ 179)، برقم (5373)؛ وابن ماجه في: السنن، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي (ص/ 327)، برقم (1879)؛ وسعيد بن منصور في: السنن (ط/ الأعظمي)، باب: من قال لا نكاح إلا بولي (1/ 175)، بالرقمين (528 - 529)؛ وعبد الرزاق في: المصنف، كتاب: النكاح (6/ 195)، برقم (10472)؛ والحميدي في: المسند (1/ 272)، برقم (230)؛ وابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: النكاح، باب: من قال: لا نكاح إلا بولي وسلطان (9/ 33)، برقم (16716)؛ وأحمد في: المسند (40/ 243)، برقم (24205)؛ والدارمي في: المسند، كتاب: النكاح، باب: النهي عن النكاح بغير ولي (3/ 1397)، برقم (2230)؛ وأبو يعلى في: المسند (4/ 387)، برقم (2508)؛ والطحاوي في: شرح معاني الآثار، كتاب: النكاح، باب: النكاح بغير ولي عصبة (3/ 7)؛ وابن حبان في: الصحيح، كتاب: النكاح، باب: الولي (9/ 384)، برقم (4074)، وقال: "هذا خبرٌ أوهم مَنْ لم يُحكم صناعة الحديث أنه منقطع أولا أصل له؛ بحكاية حكاها ابنُ علية عن ابن جريج في عقب هذا الخبر
…
وليس هذا مما يَهِي الخبرُ بمثله
…
". والدارقطني في: السنن، كتاب: النكاح (4/ 313)، برقم (3520)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: النكاح (2/ 209)، برقم (2706)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرّجاه". وأبو نعيم في: حلية الأولياء (6/ 188)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي (7/ 105)؛ وفي: معرفة السنن والآثار، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي (10/ 29)، برقم (13506)، وقال:"هذا حديث رواه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، وكلهم ثقات". والبغوي في: شرح السنة، كتاب: النكاح، باب: رد النكاح بغير =
دلالةُ الحديثِ على اشتراطِ الولي في عقدِ النكاح دلالةٌ واضحةٌ، ولأنَّ مذهبَ الحنفيةِ لا يتفق مع ما دلَّ عليه الحديثُ، فإن بعضَهم لم يُسلّم بدلالته، وراح يتأوّله بعدّةِ تأويلات.
يقولُ الطوفي: "إنَّ الحنفيةَ لما اعتقدوا أنَّ المرأةَ لها أنْ تُزوِّجَ نفسَها بغيرِ أذنِ وليها؛ لأنَّه عقدٌ على بعضِ منافعِها، فاستقلّتْ به، كإجارةِ نفسِها، وكان الحديثُ المذكورُ صريحًا في اشتراطِ أذنِ وليّها، وأنَّه لا يصُّح بدونِه: احتاجوا إلى دفعِه عنهم بالتأويلِ"
(1)
.
فأوَّل عددٌ مِنْ الحنفيةِ الحديثَ بعدة تأويلات، منها
(2)
:
التأويل الأول: يُحْمَل الحديثُ على الصغيرةِ.
التأويل الثاني: يُحْمَلُ الحديث على الأَمَةِ.
التأويل الثالث: يُحْمَلُ الحديثُ على المكاتبة
(3)
.
= ولي (9/ 39)، برقم (2262)، ونقل تحسين الترمذي.
وقال ابنُ الجوزي في: التحقيق في أحاديث التعليق (4/ 286) عن إسناد الترمذي: "رجاله رجال الصحيح".
وتعقب ابن عبد الهادي في: تنقيح التحقيق (4/ 287) قول ابن الجوزي؛ لأن في الإسناد سليمان بن موسى، وليس من رجال الصحيح.
وصحح الحديثَ: ابنُ معين في: التاريخ (3/ 232)، رقم (1089)، وأبو عوانة وابن خزيمة - كما نقل الحافظ ابنُ حجر تصحيحهما في: فتح الباري (9/ 191) - وابنُ الملقن في: البدر المنير (7/ 553)، والألبانيُّ في: إرواء الغليل (6/ 243).
وللتوسع في الحديث انظر: نصب الراية للزيلعي (3/ 183 - 190)، والبدر المنير لابن الملقن (7/ 553 - 562)، والتلخيص الحبير لابن حجر (5/ 2276 - 2279)، وإرواء الغليل للألباني (6/ 243 - 247).
(1)
شرخ مختصر الروضة (1/ 574).
(2)
ذكر السرخسي في: أصوله (2/ 3) أنَّ الإمام أبا حنيفة، وأبا يوسف لم يعملا بحديث عائشة رضي الله عنهما لأن أحدَ رواته أنكر روايته. وانظر: شرح معاني الآثار للطحاوي (3/ 8 وما بعدها)، وأحكام القرآن للجصاص (2/ 103)، وتقويم أصول الفقه لأبي زيد الدبوسي (2/ 295)، والتقرير لأصول فخر الإسلام للبابرتي (4/ 388).
(3)
انظر: البرهان (1/ 339)، وقواطع الأدلة (3/ 46)، والمستصفى (2/ 56)، وإيضاح المحصول للمازري (ص/ 378).
ويعلّقُ الطوفيُّ على التأويل الثالثِ، فيقولُ:"هذا التأويلُ تعسفٌ، وهو سلوكُ غيرِ الطريقِ المعروفِ؛ لأنَّ النصَّ عامٌّ في غايةِ القوةِ"
(1)
.
* * *
= والمكاتبة: الأمة التي تشتري نفسها من سيدها على مالٍ منجم على أوقات معلومة. انظر: الزاهر في غريب ألفاظ الإمام الشافعي للأزهري (ص/ 561)، والمصباح المنير للفيومي، مادة:(كتب)، (ص/ 427).
(1)
شرح مختصر الروضة (1/ 575). وانظر: البرهان (1/ 339 وما بعدها)، وقواطع الأدلة (3/ 46 وما بعدها)، والمستصفى (2/ 56)، وإيضاح المحصول للمازري (ص/ 378 وما بعدها)، والعقد المنظوم للقرافي (2/ 126).
وانظر مثالًا آخر للتكلف في رد الأحاديث المخالفة للمذهب في: رفع اليدين لابن القيم (ص/ 207 وما بعدها).