الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: التوصل إِلى حكم النازلة بتخريجها على أصول المذهب
كانَ لأتباعِ المذاهبِ الفقهيةِ إِسهامٌ قويٌّ في إِبرازِ الأصولِ والقواعدِ الَّتي سارَ عليها أئمتهم وأتباعُهم
(1)
، وكان لجهودِهم أثرٌ في بيانِ حكمِ النوازلِ بتخريجها على أصولِ مذاهبِ الأئمةِ وقواعدِهم
(2)
.
(1)
يقول محمد الخشني في مقدمة كتابه: أصول الفتيا (ص/ 44): "فإني جمعت في هذا الكتاب أصولَ الفتيا على مذهب مالك بن أنس والرواة من أصحابه جمعًا محكمًا، فقيدت فيه المعاني المكررة
…
ولم أدعْ أصلًا يتفرع منه جياد المعاني، ولا عقدة يستنبط منها حسان المسائل
…
إِلَّا أودعتها كتابي".
ويقول الكاساني في مقدمة كتابه: بدائع الصنائع (1/ 2): "ولا يلتئم هذا المراد - أي: تيسير سبيل الوصول إِلى المطلوب وتقريبه إِلى الأفهام - إِلَّا بترتيب تقتضيه الصناعة
…
وهو التصفح عن أقسام المسائل وفصولها، وتخريجها على قواعدها وأصولها؛ ليكون أسرع فهمًا، وأسهل ضبطًا
…
".
ويقول بدرُ الدين الزركشيُّ في مقدمة كتابه: المنثور في القواعد (1/ 66): "هذه قواعد تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه من مآخذ الفقه على نهاية المطلب".
ويقول - أيضًا - عن أنواع الفقه في: المصدر السابق (1/ 71): "العاشر: معرفة الضوابط الَّتي تجمع جموعًا، والقواعد الَّتي تَرُدُّ إِليها أصولًا وفروعًا. وهذا أنفعها وأعمها وأكملها وأتمها، وبه يرتقي الفقيه إِلى الاستعداد لمراتب الاجتهاد، وهو أصول الفقه على الحقيقةِ".
ويقول ابنُ رجب في مقدمة كتابه: تقرير القواعد (1/ 4): "فهذه قواعد مهمّةٌ، وفوائد جمّة، تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه من مآخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيَّب".
(2)
انظر: تخريج الفروع على الأصول لعثمان شوشان (1/ 192).
ونقل بدرُ الدين الزركشيّ في: البحر المحيط (6/ 205 - 256) عن ابنِ دقيق العيد كلامًا مهمًا في التفريق بين القواعد المذهبية، والقواعد الأصولية العامة، يقول ابن دقيق: "مَنْ عَرَفَ مأخذَ إِمام، واستقل بإجراء المسائل على قواعده ينقسم إِلى قسمين:
أحدَهما: أنْ تكون تلك القواعد مما يختص بها ذلك الإِمام وبعض المجتهدين معه: فهذا يمكن فيه الاجتهاد المقيَّد.
وأمَّا القواعد العامة الَّتي لا تختص ببعض المجتهدين - ككون خبر الواحد، حجة والقياس، =
ولعلَّ مِنْ أهمِّ الأسبابِ الَّتي ساعدتْ بعضَ المذاهب على البقاءِ والاستمرارِ على مرِّ القرون عنايةَ مجتهديها ومحققيها ببيانِ أَصولِ أئمتِهم وقواعدِهم، وتخريجهم أحكام النوازلِ عليها
(1)
.
والمقصودُ بتخريجِ حكمِ النازلةِ على الأصولِ: أنْ يُبيّنَ المتمذهبُ حكمَ النازلةِ الَّتي لم يَنُصّ إِمامُ مذهبِه عليها بإِلحاقِها بقاعدةٍ أو بأصلٍ مِنْ أصولِه
(2)
.
يقولُ صدرُ الدّينِ السلمي: "إِذا لم يكنْ للشافعي رضي الله عنه في المسألةِ بعينِها نصٌّ، فالأصحابُ يخرِّجونها على أصولِه"
(3)
.
ويقولُ جمالُ الدّينِ الإِسنويُّ في فاتحةِ كتابِه: (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول)
(4)
عن الفروعِ المخرَّجةِ إِنْ لم يقفْ فيها على حكمٍ في مذهبِه: "ما لم أقفْ فيه على نقلٍ بالكُليّةِ، فاذكرُ فيه ما تقضيه قاعدتُنا الأصوليةُ، ملاحظًا أيضًا للقاعدةِ المذهبيةِ، والنظائرِ الفروعية".
ولم يقتصر اهتمامُ مجتهدي المذهبِ ومحققيه على تخريجِ حكمِ النازلةِ على أصولِ مذهبِهم، بلْ تحدثوا عن صفاتِ المخرِّجِ وشروطِه،
= وغير ذلك من القواعد -: فهو محتاج إِلى ما يحتاج إِليه المجتهد المطلق. فتنبه لهذا، وقد استقل قومٌ من المقلِّدين ببناء أحكامٍ على أحاديث غيرِ صحيحةٍ، مع أنَّ تلك الأحكام غير منصوصةٍ لأمامهم، وهم يحتاجون في هذا إِلى ما يحتاج إِليه المجتهد المطلق، فإذا قصروا عنه لم يكن لهم ذلك، ولم يجز أنْ تنسب تلك الأحكام إِلى ذلك الإِمام".
وعلَّق بدر الدين الزركشي في: البحر المحيط (6/ 206) على كلام ابن دقيق السابق قائلًا: "وهذا موضعٌ نفيسٌ ينبغي التفطن له".
(1)
انظر: أبو حنيفة - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 397)، ومالك - حياته وعصره له (ص/ 200)، وتخريج الفروع على الأصول لعثمان شوشان (1/ 90).
(2)
انظر: أبو حنيفة - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 395)، والتخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 51)، والمدخل المفضل إِلى فقه الإِمام أحمد (1/ 280)، والقواعد والضوابط الفقهية القرافيه للدكتور عادل قوته (1/ 220)، والفتوى في الشريعة الإِسلامية لعبد الله آل خنين (1/ 354 - 355)، والتكييف الفقهي للدكتور محمد شبير (ص/ 21)، والمعين في تفسير كلام الأصوليين للدكتور عبد الله ربيع (ص/ 131).
(3)
فرائد الفوائد (ص/ 104).
(4)
(ص/ 46).
وشروطِ تخريجِه، وقد سَبَقَ في طبقاتِ المتمذهبين بيانُ شروطِ المخرِّجِ.
ويفتقرُ تخريج حكمِ النازلةِ على أصولِ المذهبِ وقواعدِه إِلى وجودِ أمرين مهمّين:
الأمر الأول: صحةُ نسبةِ الأصلِ والقاعدةِ إِلى إِمامِ المذهبِ، أو إِلى مذهبِه.
الأمر الثاني: أنْ يُوْجَدَ في مذهب الإِمامِ مجتهدون مقيَّدون بمذهبِه، يسيرون على طريقتِه، ولديهم قدرةٌ على التخريجِ والإِلحاقِ.
الأمر الأول: صحةُ نسبةِ الأصل والقاعدةِ إِلى إِمام المذهب أو إِلى مذهبِه
(1)
.
لا شكَّ في صحةِ نسبةِ كثيرٍ مِن الأصولِ والقواعدِ المذهبيةِ إِلى إِمامِ المذهبِ، لكنْ على المتمذهبِ الانتباه إِلى أنَّ مِن الأصولِ والقواعدِ المنسوبةِ إِلى إِمامِه ما يحتاجُ إِلى مزيدِ نظرٍ وتأمّلٍ؛ لأنَّ طريقَ إِثباتِها استقراءُ فروعٍ قليلةٍ منقولةٍ عن إِمامِه
(2)
، وهذا يجعلُ تطرُّق الخطأِ وتوجُّه النقدِ إِليها قويًّا
(3)
.
يقولُ أبو إِسحاقَ الشاطبي: "إِذا ثَبَتَت الأصولُ سَهُلَ - إِنْ شاء الله - المَخْرَجُ مِن النازلةِ"
(4)
.
الأمر الثاني: أنْ يُوْجَدَ في مذهب الإِمامِ مجتهدون مقيَّدون بمذهبِه، يسيرون على طريقتِه، ولديهم قدرةٌ على التخريجِ والإِلحاقِ
(5)
.
(1)
انظر: الشافعي - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 320)، والتخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 103).
(2)
انظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 44).
(3)
انظر: الاستقراء وأثره في القواعد الأصولية للطيب السنوسي (ص/ 504).
(4)
نقل الونشريسيُّ في: المعيار المعرب (8/ 385) قولَ أبي إِسحاق الشاطبي. وانظر: فتاوى الإِمام الشاطبي (ص/ 164).
(5)
انظر: الشَّافعي - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 320).
وقد اجتمعَ هذانِ الأمرانِ في المذاهبِ الأربعةِ المتبوعةِ؛ إِذ أسهمَ متمذهبوها بتخريجِ أحكامِ النوازلِ على أصولِ مذاهبِهم، ومِن المعلومِ أنَّ الفروعَ الَّتي تتخرَّج على أصولِ المذهبِ وضوابطِه كثيرةٌ غيرُ متناهيةٍ
(1)
.
ومقامُ تخريجِ النازلةِ على أصولِ المذهبِ مقامٌ رفيعٌ، يحتاجُ المتمذهبُ فيه إِلى استيعابِ أصولِ مذهبِه وقواعدِه، والتشبّعِ منهما، ومِنْ المتعيّنِ عليه أنْ يكونَ شديدَ الاستحضارِ لهما؛ ليخرِّجَ النازلة على الأصلِ الَّذي يناسبها
(2)
.
ولا بُدَّ مِن انتباه المتمذهب حين يخرِّجُ حكمَ النازلةِ إِلى صحّةِ إِلحاقِها بالأصلِ أو بالقاعدةِ المذهبيةِ
(3)
، وأنْ لا يكون هناك ما يوجبُ انقداحَ فرقٍ بين الصورةِ المخرَّجةِ، والأصلِ المخرَّجِ عليه
(4)
، وهذا يجرُّ إِلى ضرورةِ مراعاةِ المتمذهبِ للمستثنيات مِن القاعدةِ؛ لئلا يُلْحِقَ النازلةَ بقاعدةٍ أو أصلٍ لا يستقيمُ إِلحاقها به.
يقولُ شهابُ الدين القرافي: "على الفقيهِ أنْ ينظرَ في ردِّ الفروعِ إِلى أقربِ الأصولِ إِليها، فيعتمد عليه"
(5)
.
ويقولُ أيضًا: "ينبغي للمفتي إِذا وقعتْ له مسألةٌ غيرُ منصوصةٍ، وأراد تخريجها على قواعدِ مذهبِه: أنْ يمعنَ النظرَ في القواعدِ الإِجماعيةِ والمذهبيةِ، هل فيها ما يوجبُ انقداح فرقِ بين الصورة المخرجةِ، والأصلِ المخرّجِ عليه أم لا؟ فمتى توهَّم الفرقَ وأنَّ ثَمَّ معنى في الأصل مفقود في
(1)
انظر: الفروق للقرافي (1/ 184).
(2)
انظر: الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي (ص/ 243)، ومنار أصول الفتوى للقاني (ص/328).
(3)
انظر: الفروق للقرافي (2/ 254).
(4)
انظر: الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي (ص/ 243)، ومقدمة ابن خلدون (3/ 1556)، ومنار أصول الفتوى للقاني (ص/328).
(5)
الذخيرة (1/ 369).
الصورةِ المخرَّجةِ، أمكنَ أنْ يلاحظَ إِمامُه المقرِّرُ لتلك القاعدةِ في مذهبِه: امتنع التخريجُ؛ فإِنَّ القياسَ مع الفرقِ باطلٌ
…
"
(1)
.
وفي المعنى السابقِ نفسِه يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيميةَ: "ثُمَّ النظرُ في دخولِ الأعيانِ تحتَ الكليات أو دخولِ نوعٍ خاصٍّ تحت أعمّ منه: لا بُّدَ فيه منِ نظرٍ واجتهادٍ، وقد يصيبُ تارة ويخطئُ أخرى"
(2)
.
وكما هو معلومٌ، فإِنَّ لتحقيقِ أصولِ المذهب وتمييزِها أهميةً كبرى في معرفةِ أحكامِ الفروعِ والنوازل، يقولُ أبو بكرِ السرخسي:"مَنْ أَحْكَمَ الأصولَ فَهْمًا ودِرَايَةً، تيسّرَ عليه تخريجها"
(3)
.
ويقولُ شهابُ الدين القرافي: "مَنْ كان أَعْلَمَ بالأصلِ كان أَعْلَمَ بالفرعِ"
(4)
.
ويقولُ بدرُ الدين الزركشيُّ: "أمَّا المجتهدُ المقيَّدُ الَّذي لا يَعْدُو مذهبَ إِمامٍ خاصٍّ، فليس عليه غيرُ معرفةِ قواعدِ إِمامِه، وليراعِ فيها ما يراعيه المطلقُ في قوانينِ الشرعِ"
(5)
.
ويتعيَّنُ على المخرِّجِ على قاعدةِ المذهبِ أنْ يكونَ ذا أهليةٍ للتخريجِ
(6)
، ومِنْ أهمِّ الشروطِ الَّتي تؤهلُه إِليه: معرفةُ أصولِ الفقهِ
(7)
.
يقولُ شهابُ الدين القرافي: "يتعيَّن على مَنْ لا يشتغلُ بأصولِ الفقهِ أنْ
(1)
الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص/243).
(2)
منهاج السنة (6/ 414) بتصرف يسير. وانظر: الاستقراء وأثره في القواعد الأصولية للطيب السنوسي (ص/ 220 - 222).
(3)
المبسوط (3/ 187).
(4)
الذخيرة (1/ 34).
(5)
البحر المحيط (6/ 205).
(6)
انظر: الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي (ص/ 243)، ومنار أصول الفتوى للقاني (ص/328).
(7)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 95)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 43)، وصفة الفتوى (ص/ 21)، ومنار أصول الفتوى للقاني (ص/ 328)، ومنهج الخلاف للدكتور عبد الحميد عشاق (1/ 381).
لا يخرِّج فرعًا أو نازلةً على أصولِ مذهبِه ومنقولاتِه"
(1)
.
وقد بيَّنَ إِمامُ الحرمين الجويني أن مجتهدَ المذهبِ أقدرُ على الإِلحاقِ بأصولِ مذهبِه الَّذي ينتسبُ إِليه مِن المجتهدِ المستقلِّ في محاولتِه الإِلحاق بأصولِ الشريعة؛ لأنَّ المتمذهبَ يجدُ في أصولِ مذهبِه، وفروعِه مِن التهذيب والترتيبِ والتمهيدِ ما لا يجده المجتهدُ المستقلُّ مع أصولِ الشرعِ
(2)
.
ومَعَ أنَّ تخريجَ مجتهدِ المذهبِ لحكم النازلةِ أيسرُ - كما قاله إِمامُ الحرمين - إِلَّا أن هذا لا يمنعُ وقوعَ الخطأِ وَالوهمِ في تخريجِ حكمِها على غيرِ الأصلِ الَّذي يناسبها، كما لو نَظَرَ في النازلةِ دون مراعاةٍ للقرائن والصوارف المحيطةِ بها
(3)
.
وقد أشارَ شهابُ الدين القرافي إِلى أنَّ بعضَ المخرِّجين في مذهبِ الإِمامِ مالكِ وغيرِه مِن المذاهبِ لم يسلموا مِن الوقوعِ في الخطأِ في التخريجِ؛ نتيجةَ لما سَبَقَ
(4)
.
وقد نصَّ ابنُ الصلاحِ على أنَّ مِنْ صورِ تخريجِ النازلةِ على أصولِ المذهب: أنْ يجدَ المتمذهبُ دليلًا مِنْ جنسِ ما يحتجُّ به إِمامُه، وعلى شرطِه، فيفتي بموجبِه
(5)
.
وقد استبعدَ ابنُ حمدان نسبةَ الحكمِ المخرَّج في الصورةِ آنفة الذكرِ إِلى إِمامِ المذهبِ، فقالَ:"جَعْلُ هذا مذهبًا لإِمامِه بعيدٌ"
(6)
.
(1)
الفروق (2/ 203).
(2)
انظر: الغياثي للجويني (ص/ 426)، وأدب المفتي والمستفتي (ص/ 96)، وصفة الفتوى (ص / 19 - 20)، والمسودة (2/ 967)، والإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي (ص/243).
(3)
انظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 103).
(4)
انظر: الفروق (1/ 316).
(5)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 97)، وصفة الفتوى (ص / 20)، والمسودة (2/ 968).
(6)
صفة الفتوى (ص/ 20).
ولم يبيّنْ ابنُ حمدان وجهَ البُعْدِ.
وإذا أَشْبَهَت النازلةُ أكثرَ مِنْ أصلٍ، وكانَ لكلِّ أصلٍ حكمُه المخالفُ للأصل الآخر، فعلى المتمذهبِ أن يجتهدَ في إِلحاقِها بأكثرِ الأصولِ شَبَهًا
(1)
.
يقولُ أبو عبد الله المقّري: "إِذا اختصَّ الفرعُ بأصل أُجْرِي عليه إِجماعًا، فإِنْ دار بينَ أصلين فأكثر، حُمِلَ على الأَوْلى منهما"
(2)
.
فإِنْ لم يتمكن المتمذهبُ مِنْ معرفةِ الأصلِ المناسبِ للتخريجِ توقفْ إِلى أنْ يتبينَ له الأمرُ
(3)
.
وقد كان لبعضِ المذاهبِ اصطلاحُها الخاصُّ في تسميةِ الحكمِ الَّذي توصَّلَ إِليه المتمذهبُ عن طريقِ تخريجِ حكمِ النازلةِ على أصولِ المذهبِ، وقد تقدَّمَ في حديثي عن مصطلحات المذاهب بيانُ هذا الأمرِ.
أمثلة تخريج النازلة على أصول المذهب
(4)
:
المثال الأول: إِذا قالَ الزوجُ لوكيلِه: لا تُطَلّقْ زوجتي الأُوْلى، ثمَّ قالَ له بعد هذا طلّقْ زوجاتي، فهل للوكيلِ أنْ يوقعَ الطلاقَ على الزوجةِ الأُوْلى؟
بيَّن جمالُ الدين الإِسنويُّ أنَّه ليس للوكيلِ طلاقُ الزوجةِ الأُوْلى،
(1)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (21/ 547)، والأشباه والنظائر لابن السبكي (2/ 304)، وتخريج الفروع على الأصول لعثمان شوشان (1/ 518)، وأصول الفقه الإِسلامي للدكتور محمد شلبي (ص / 47)، والفتوى في الشريعة الإسلامية لعبد الله آل خنين (1/ 371).
(2)
القواعد (2/ 497 - 498).
(3)
انظر: الأشباه والنظائر لابن السبكي (2/ 354)، وتخريج الفروع على الأصول لعثمان شوشان (1/ 518).
(4)
الأمثلة الَّتي ذكرتها في مصطلحات نقل المذهب ممَّا خرِّج على أصوله كان النظرُ فيها منصبًّا إِلى ورود المصطلح بلفظه في المثال، أمَّا هنا فأذكر ما يصح أو يمكن جعله تخريجًا للنازلة على أصول المذهب بغض النظر عن تسمية الحكم الَّذي توصَّل إِليه المتمذهب في مذهبه، وورود المصطلح.
مخرِّجًا الحكمَ على قاعدة: إِذا عارضَ الخاصُّ العامَّ، فيؤخذ بالخاصِّ، تقدَّم أو تأخّر
(1)
.
المثال الثاني: عقوبةُ مَنْ سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، أهي القتلُ وحده، أم حدّ القذف والقتل؟
بيَّن تقيُّ الدين السبكي أنَّه يمكنُ تخريجُ حكمِ المسألةِ على إِحدى القاعدتين:
القاعدة الأولى: ما أوجبَ أعظمَ الأثرين بخصوصِه، هلْ يوجبُ أهونَهما بعمومِه؟
(2)
.
القاعدة الثانية: إِذا اجتمعَ أمرانِ مِنْ جنسٍ واحدٍ، هل يدخلُ أحدُهما في الآخرِ؟
(3)
.
يقولُ تقيُّ الدين السبكي: "مسألتُنا يمكنُ تخريجها على القاعدتين، فيقالُ: يجبُ القتلُ وحدَه، ويسقطُ الحدُّ؛ إِمَّا للقاعدة الأُوْلى: فإِنَّ هذا القذفَ الخاص أوجب القتلَ، وهو أعظمُ الأثرين بخصوصِ كونِه في هذا المحلِّ الخاصّ، فلا يوجب أهونَهما - وهو الجلد - بعمومِ كونِه قذفًا. أو يُقال: إِنَّهما وَجَبَا، ولكن دَخَلَ الأصغرُ في الأكبرِ، كما دخل الوضوءُ في الغُسلِ"
(4)
.
المثال الثالث: الأصلُ عند محمد بن الحسن فيما إِذا اجتمعت الإِشارةُ والتسميةُ في العقدِ التفصيل الآتي:
- إِنْ كان المسمَّى مِنْ جنسِ المشارِ إِليه: تعلقَ العقدُ بالمشارِ إِليه؛ لأنَّ المسمَّى موجودٌ فيه ذاتًا، والوصفُ يتبعُه.
(1)
انظر: التمهيد في تخريج الفروع على الأصول (ص/ 409).
(2)
انظر قاعدة: (ما أوجب أعظم الأثرين بخصوصه، هل يوجب أهونهما بعمومه؟ ) في: الأشباه والنظائر لابن الوكيل (1/ 318)، والأشباه والنظائر لتاج الدين بن السبكي (1/ 94)، والمنثور في القواعد للزركشي (3/ 131)، والأشباه والنظائر لابن الملقن (1/ 216).
(3)
انظر: السيف المسلول (ص/ 158). وانظر قاعدة: (إذا اجتمع أمران من جنس واحد، هل يدخل أحدهما في الآخر؟ ) في: الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/ 95).
(4)
السيف المسلول (ص/ 159).
- إِنْ كان المسمَّى خلافَ جنسِ المشارِ إِليه: تعلقَ العقدُ بالمسمَّى؛ لأنَّه مثلُ المشارِ إِليه، وليس بتابعٍ له، والتسميةُ أبلغُ في التعريفِ
(1)
.
ويمكنُ أنْ يخرِّج المتمذهبُ على هذا الأصلِ نوازل عدَّة، يقولُ الدكتورُ يعقوب الباحسين معلِّقًا على أصلِ محمد بن الحسن: "وعلى هذا الأصل يمكنُنا تخريج كثيرٍ مِن المسائلِ، فلو باعه دَنًّا
(2)
على أنَّه خلٌّ، فإِذا هو دِبْسٌ
(3)
؛ أو باعه فصًّا على أنَّه ياقوت، فإِذا هو زجاجٌ
…
: بَطَلَ البيعُ؛ لاختلافِ الجنسِ باختلافِ الأغراضِ.
ولو باعه فصًّا على أنَّه ياقوت أحمر، فإِذا هو ياقوت أصفر؛ أو هذا الثوب المصري، فإِذا هو مغربي: لم يبطل البيعُ، وخُيِّر المشتري؛ لفواتِ الوصفِ"
(4)
.
المثال الرابع: حكمُ معاملةِ الدِّلالة؟
(5)
.
بيَّن الدكتورُ عمر الجيدي أنَّ أصولَ مذهبِ الإِمامِ مالكٍ تقتضي منعَ هذه المعاملةِ
(6)
، ثُمَّ نَقَلَ عن بعضِ فقهاءِ المالكيةِ قولَهم بإِباحتِها؛ للضرورةِ، بسبب قلّةِ الأماناتِ، ومِنْ أصولِ مذهبِ الإِمامِ مالكٍ مراعاةُ الأماناتِ
(7)
.
(1)
انظر: تبيين الحقائق للزيلعي (2/ 151 - 152).
(2)
الدَّنّ: الجرّة الضخمة. انظر: المصباح المنير للفيومي، مادة:(دنن)، (ص/ 169).
(3)
الدِّبْس: عصارة الرطب، وعسل التمر. انظر: المصدر السابق، مادة:(دبس)، (ص/ 159)، والقاموس المحيط، مادة:(دبس)، (ص/ 700).
(4)
التخريج عند الفقهاء والأصوليين (ص/ 104).
(5)
يقول الدكتور عمر الجيدي في كتابه: العرف والعمل (ص/ 486) مبينًا معنى الدَّلالة: "الدَّلالة في العرف - وهي: السمسرة - والعمل الشائع فيها عند الناس - قديمًا وحديثًا -: أنْ يعطي المرءُ سلعتَه (بضاعته) للسمسار؛ ليصيحَ بها، ويعرضَها للبيع في أسواق عمومية".
وجاء في: الموسوعه الفقهية الكويتية (10/ 152): "السمسرة اصطلاحًا: هي التوسط بين البائع والمشتري. والسمسار هو: الَّذي يدخل بين البائع والمشتري متوسطًا؛ لإِمضاء البيع، وهو المسمَّى الدَّلال؛ لأنَّه يَدلُّ المشتري على السلع، ويَدلُّ البائع على الأثمان".
(6)
انظر: العرف والعمل (ص/ 487).
(7)
انظر: المصدر السابق.