الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: تجنب الآراء الشاذة
ليس كلّ قولٍ صدَرَ مِنْ أحدِ أهلِ العلمِ يكون قولًا معتبرًا؛ إذ مِن الأقوالِ المنقولةِ عن بعضِهم ما يكون موصوفًا بالشذوذِ.
ولا أقصدُ بالرأي الشاذِّ في هذا المقامِ ما تقدم تقريرُه في مسألةِ: (مصطلحات نقل المذهب)، وإنَّما أعني: القول الذي انفرد به قائلُه، وليس له دليلٌ معتبرٌ، أو القول المخالف للدليلِ
(1)
.
إنَّ اهتمامَ العلماءِ والمتمذهبين بمذاهبِهم أضفى على الأقوالِ المذهبيةِ الأصوليةِ منها، والفقهية مزيدًا مِن العنايةِ والتحقيقِ، ولا يعني كلامي آنف الذّكرِ خلوَّ المذاهب المتبوعةِ مِن الأقوالِ الشاذَّةِ، كلا، بلْ لا يكادُ يخلو مذهبٌ مِنْ قولٍ شاذٍّ، وإنَّما أعني أنَّ الأقوالَ الشاذةَ الصادرةَ عن علماءِ هذه المذاهبِ أقلُّ مِن الأقوالِ الشاذةِ المنقولةِ عن بعضِ علماءِ السلف ممَّنْ لم يُكْتَبْ لهَم وجودُ أتباعٍ يسيرون على أقوالِهم ويخدمونها.
ويؤكّد هذا الأمر: عنايةُ أربابِ المذاهبِ بمصطلحاتِ نقلِ مذاهبهم، وفيها مصطلحاتٌ لتضعيفِ القولِ، هذا مِنْ جهةٍ.
ومِنْ جهةٍ أخرى: فإنَّ لمحققي المذاهبِ الفقهيةِ عنايةً بالتنبيهِ على
(1)
انظر: المغرب في ترتيب المعرب للمطرزي، مادة:(شذذ)، (1/ 435)، والمصباح المنير للفيومي، مادة:(شذذ)، (ص/ 252)، ومنهج البحث في الفقه للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان (ص/ 203).
وللتوسع في تعريف القول الشاذ عند الأصوليين انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (5/ 89 - 86)، والكافية في الجدل لإمام الحرمين (ص/ 58)، والبحر المحيط (4/ 518)، والقول الشاذ للدكتور أحمد المباركي (ص/ 75).
الأقوالِ الشاذّةِ الصادرةِ مِنْ بعضِ أتباعِ مذاهبِهم
(1)
.
وجُمْلةُ القولِ: إنَّ المتمذهبَ بمذهبٍ فقهي متبوعٍ سيتجنبُ في مُجْمَلِ أحوالِه وأقوالِه الأقوالَ الشاذّةَ التي قام الدليلُ على ردِّها.
وإذا كان غيرُ المتمذهب بأحدِ المذاهبِ المتبوعةِ قد استقلَّ بنفسِه، وألمَّ بعلومِ الاجتهادِ، فسيكونَ عرضةً لاختيارِ الأقوالِ المهجورةِ والشاذة، وقد يقعُ في مخالفةِ الإجماعِ في بعضِ أقوالِه.
ويرى الناظرُ في أحوالِ بعضِ الخارجين عن المذاهب الفقهيةِ اختياراتٍ في الفقهِ ليس لها مستندٌ وجيةٌ، بلْ وصفها بالشذوذِ ليَس ببعيدٍ، سواءٌ أكانت اختياراتُهم في المسائلِ التي تكلّمَ فيها العلماءُ مِنْ قبلُ، أم كانتْ في المسائلِ النازلةِ
(2)
.
ولابنِ وهب المصري كلمةٌ جليلةُ القدرِ تبيّنُ مكانةَ أقوالِ الأئمةِ، يقولُ فيها:"كلُّ صاحب حديثٍ ليس له إمامٌ في الفقهِ، فهو ضالٌّ! ولولا أنَّ الله أنقذنا بمالكٍ والليثِ لضللنا! "
(3)
.
وقد بيَّنَ تقيُّ الدين بنُ تيميةَ أنَّ لابنِ حزمٍ - مع سعةِ علمِه وتبحره - أقوالًا منكرةً وشاذةً يعجبُ منها الناظرُ
(4)
.
ولعلَّ سببَ وقوعِ ابنِ حزمٍ في مثلِ هذه الأقوال هو سيرُه على أصولِ الظاهريةِ التي لا تخلو مِنْ ضعفٍ.
(1)
انظر على سبيل المثال: بداية المجتهد لابن رشد (2/ 611)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 58)، و (7/ 77).
(2)
انظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة للدكتور فهد الرومي (ص/ 752)، والعصرانيون لمحمد الناصر (ص/ 257 وما بعدها).
(3)
نقل كلمةَ ابن وهب ابنُ أبي زيد القيرواني في: الجامع في السنن والآداب (ص/ 151).
وانظر: بلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ 128).
(4)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (4/ 396).
ويقول الحافظ ابنُ رجبٍ: "ليكن الإنسانُ على حَذَرٍ ممَّا وَقَعَ بعدهم - أي: أئمة السلف -
…
وحَدَثَ مَن انتسبَ إلى متابعةٍ السنةِ والحديثِ مِن الظاهريةِ، ونحوِهم، وهو أشدُّ مخالفةً لها؛ لشذوذِه عن الأئمةِ، وانفرادِه عنهم بفهمٍ يفهمه، أو يأخذ ما لم يأخذْ به الأئمةُ مِنْ قبله"
(1)
.
ويقولُ الشيخُ محمدٌ العثيمين: "نَجِدُ أولئك القوم الذين لم يتفقهوا على أيدي العلماءِ، نجد أنَّ عندهم مِن الزَّلاتِ شيئًا كثيرًا؛ لأنَّهم صاروا ينظرون بنظرٍ أقل ممَّا ينبغي أنْ ينظروا فيه، يأخذون مثلًا: (صحيحَ البخاري)، فيذهبون إلى ما فيه مِن الأحاديثِ، مع أنَّ في الأحاديثِ ما هو عامٌّ ومخصصٌ، ومطلقٌ ومقيّدٌ، وشيءٌ منسوخ، لكنَّهم لا يهتدون إلى ذلك، فيحصلُ بهذا ضلالٌ كبيرٌ"
(2)
.
ويقولُ - أيضًا -: "لا شكَّ أنَّ الإنسانَ ينبغي له أنْ يُرَكّزَ على مذهبٍ معيّنٍ يحفظه، ويحفظ أصولَه وقواعدَه، لكن لا يعني ذلك أنْ نلتزمَ التزامًا بما قاله الإمامُ
…
أرى أنَّ الذين أخذوا بالحديثِ، دونَ أنْ يرجعوا إلى ما كتبه العلماءُ في الأحكامِ الشرعيةِ، عندهم شطحاتٌ كبيرةٌ! وإنْ كانوا أقوياءَ في الحديثِ وفي فهمِه؛ لأنَّهم بعيدون عمَّا يتكلمُ به الفقهاءُ، فتَجِدُ عندهم مِن المسائلِ الغريبةِ ما تكادُ تجزمُ بأنَّها مخالفةٌ للإجماعِ، أو يغلبُ على ظنِّك أنَّها مخالفةٌ للإجماعِ"
(3)
.
وسأذكرُ بعضَ الأمثلةِ للأقوالِ الشاذةِ التي يكادُ ينعقدُ الإجماعُ على خلافِها:
المثال الأول: القولُ بعدمِ اشتراطِ الطهارةِ في صلاةِ الجنازةِ.
ذَهَبَ الشعبيُّ إلى عدمِ اشتراطِ الطهارةِ في صلاةِ الجنازةِ
(4)
.
وهذا القولُ قولٌ شاذٌّ. يقول ابنُ عبد البر عن اشتراطِ الطهارةِ لصلاةِ
(1)
بيان فضل علم السلف (ص/169).
(2)
كتاب العلم (ص/ 49 - 50).
(3)
المصدر السابق (ص/ 114).
(4)
انظر: بداية المجتهد لابن رشد (1/ 84).
الجنازةِ: "وهو إجماعُ العلماءِ والسلفِ والخَلَفِ، إلا الشعبي، فإنَّه أجازَ الصلاةَ عليها على غيرِ وضوءٍ، فشذَّ عن الجميعِ، ولم يقلْ بقولِه أحدٌ مِنْ أئمةِ الفتوى بالأمصارِ، ولا مِنْ حملةِ الآثارِ"
(1)
.
المثال الثاني: القولُ بجوازِ إمامةِ المرأةِ للرجالِ في صلاةِ الفرضِ والنفلِ.
ذَهَبَ بعضُ أهل العلمِ إلى القولِ بجوازِ إمامةِ المرأةِ للرجالِ في صلواتِهم، وممَّنْ نُسِبَ إليه هذا القول: أبو ثورٍ
(2)
، وابنُ جريرٍ الطبري
(3)
.
يقول ابنُ رشدٍ: "شذَّ أبو ثورٍ والطبريُّ، فأجازا إمامتها على الإطلاقِ"
(4)
.
المثال الثالث: القولُ بعدمِ وجوبِ زكاةِ الفطرِ على أهلِ العمودِ مِن الباديةِ.
ذهَبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى عدمِ وجوبِ زكاةِ الفطرِ على البدوِ، وممَّنْ قال بهذا القول: الليثُ بنُ سعدٍ
(5)
، وعطاءُ بنُ أبي رباح
(6)
.
يقولُ أبو الحسن الماوردي عن القائلين بهذا القولِ: "شذّوا بهذا عن الإجماعِ، وخالفوا النصوصَ الصحيحةَ العامة
…
"
(7)
.
ويقولُ ابنُ رشدٍ: "أجمعوا على أنَّ المسلمين مخاطبون بها - أي: بزكاةِ الفطرِ -
…
إلا ما شذَّ فيه الليثُ، فقال: ليس على أهلِ العمودِ زكاةُ الفطر"
(8)
.
(1)
الاستذكار (8/ 283).
(2)
انظر: المغني لابن قدامة (3/ 33).
(3)
انظر: المجموع شرح المهذب للنووي (4/ 151).
(4)
بداية المجتهد (1/ 280).
(5)
انظر: الاستذكار (8/ 576) ضمن موسوعة شروح الموطأ، وشرح النووي على صحيح مسلم (7/ 59).
(6)
انظر: المغني لابن قدامة (4/ 289)، وشرح النووي على صحيح مسلم (7/ 59).
(7)
نقل كلامَ الماوردي النوويُّ في: المجموع شرح المهذب (6/ 110).
(8)
بداية المجتهد (2/ 548).
المثال الرابع: القولُ بجوازِ الوضوءِ بماءِ العطور الحديثة (الكولونيا).
ذَهَبَ الأستاذُ محمد عبده
(1)
إلى القولِ بأنَّ ماءِ الكولونيا أحسنُ شيءٍ للوضوءِ؛ لأنَّه يمنعُ آثارَ المرضِ
(2)
.
ولا يخفى أنَّ القولَ بجوازِ الوضوءِ بماء الكولونيا قولٌ غريبٌ، فكيفَ بالقولِ بأنَّ الوضوءَ به أحسن شيءٍ؟ !
المثال الخامس: القولُ بتأخيرِ أداءِ صلاةِ الجمعةِ للمقيمين في الدولِ الغربيةِ إلى يوم الأحدِ.
اقترحَ بعضُ المقيمين في البلادِ الغربية تأخيرَ أداءِ صلاةِ الجمعةِ إلى يوم الأحد؛ لأنَّه يومُ عطلةٍ وإجازةٍ، وفي تأخيرِ الصلاة إليه تشجيعٌ للمسلمين على الحضور
(3)
.
وهذا قولٌ غريبٌ، لم يقلْ به أحدٌ مِن العلماءِ المعتبرين
(4)
.
* * *
(1)
هو: محمد بن عبده بن حسن بن خير الله، ولد بمصر سنة 1266 هـ طلب العلم في الأزهر، وعين مدرسًا للتاريخ في دار العلوم، كان من المتأثرين بدعوة جمال الدين الأفغاني ومنهجه، واشتغل بالشأن السياسي بمصر، وله مشاركة في الكتابة الصحفية، ومن دعواته الدعوة إلى التقريب بين الأديان، من مؤلفاته: رسالة في وحدة الوجود، وتاريخ إسماعيل باشا، وشرح نهج البلاغة، وفلسفة الاجتماع والتاريخ، توفي سنة 1323 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ الأستاذ الإمام لرشيد رضا (1/ 16)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (4/ 200)، والأعلام الشرقية لزكي مجاهد (2/ 512)، والأعلام للزركلي (6/ 252)، والمعاصرون لمحمد كرد علي (ص/ 343)، وحاضر العالم الإسلامي (1/ 283)، ومنهج المدرسة العقلية الحديثة للدكتور فهد الرومي (ص/ 124).
(2)
انظر: تاريخ الأستاذ الإمام لرشيد رضا (1/ 944).
(3)
انظر: المناسبة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة للدكتور نور الدين الخادمي (ص/ 338).
(4)
انظر: المصدر السابق (ص/ 339). وللاطلاع على مزيد من الأمثلة انظر: القول الشاذ للدكتور أحمد المباركي (ص/ 105 وما بعدها).