الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: إِفتاء المتمذهب بغير مذهب إِمامه
قد يرى المتمذهبُ حين يُسأل عن مسألةٍ ما أنْ يفتي السائلَ بغيرِ مذهبِه، كانْ يستفتي العاميُّ عالمًا حنبليًا عن حكمِ مسألةٍ ما، فيفتيه بقولِ المالكيةِ مثلًا، فهلْ للمتمذهبِ ذلك؟
قبلَ الشروعِ في الحديثِ في هذه المطلب، أنبِّه إِلى أنَّه لا يختلفُ الحديثُ في هذه المسألةِ عمَّا قررتُه في مسألةِ:(الخروج عن المذهب)؛ إِذ حقيقةُ الإِفتاءِ بغيرِ المذهبِ أنَّها خروجٌ عنه، وقد تحدثَ جمعٌ مِن العلماءِ عن مسألةِ:(إفتاء المتمذهب بغير مذهبه) بخصوصها.
وأُحبُّ قبل الحديثِ عن مسألةِ: (إفتاء المتمذهب بغير مذهبه)، التنبيه إِلى عدّةِ أمورِ:
الأمر الأول: مَنْ قالَ في المطلبِ الأولِ: (إفتاء المتمذهب بمذهبه): لا يجوزُ إِفتاءُ المتمذهبِ بمذهبِ إِمامِه، فإنَّه يمنعُ إِفتاءَه بغيرِ مذهبِه.
ومقتضى قولِ مَنْ قالَ في المطلب الأولِ: يجوز إِفتاء المتمذهب إِن كان مجتهدًا في مذهب إِمامه، وإِنْ لم يَكن مجتهدًا في مذهب إِمامِه، فلا يجوز له الإِفتاءُ: أنَّه يمنعُ إِفتاءَ المتمذهبِ بغيرِ مذهبِه؛ لأنَّ المفتي غيرُ مجتهدٍ في المذهبِ الَّذي يريدُ الإِفتاءِ بقولهم، إِلَّا إِنْ تحققَ له الاجتهادُ المقيَّدُ في المذهبين، فيجوزُ له الإِفتاءُ حينئذٍ، وقد قيلَ عن بعضِ العلماءِ: إِنَّه يفتي على المذهبين
(1)
.
(1)
انظر: طبقات الشافعية للإِسنوي (2/ 228)، والفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (4/ 316)، ومنار أصول الفتوى للقاني (ص/ 343)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (4/ 392).
الأمر الثاني: مَنْ مَنَعَ مِنْ الإِفتاءِ بغيرِ المشهورِ مِن المذهبِ - كما ذَهَبَ إِليه بعضُ المالكيةِ كما تقدم - فإِنَّه يمنعُ مِن الإِفتاءِ بغيرِ مذهبِ إِمامِه؛ وذلك سدًّا للذريعةِ.
يقولُ أبو العبَّاسِ الونشريسيُّ: "قال بعضُ الشيوخِ: فتحُ البابِ بالفتيا في إِقليمنِا بغيرِ مذهبِ مالكٍ لا يسوغُ
…
"
(1)
.
والحديثُ في هذا المطلبِ عند غيرِ هؤلاءِ.
ويلحقُ بهؤلاءِ الذين يمنعونَ الخروجَ عن المذهب والأخذَ بغيرِه مِن المذاهب مطلقًا.
الأمر الثالث: محلُّ حديثي هنا عن القولِ الثابتِ في مذهبِ الإِمامِ الآخر، فلا يدخلُ في حديثي الأقوالُ المضعفةِ في المذاهبِ الأخرى.
الأمر الرابع: إِنْ سألَ المستفتي متمذهبًا عن قولِ إِمامِ مذهبٍ آخر - كانْ يُسأل الحنبليّ عن قولِ الشافعية - فالذي يظهرُ لي أن له الإِفتاءَ إِنْ علمَ - أو ظنَّ - مذهبَ الإِمامِ المسؤولِ عنه، وإِنْ لم يعلمْه، فليسُ له الإِفتاءُ
(2)
.
وبعدَ هذا: يمكنُ القولُ بأنَّ لإِفتاءِ المتمذهبِ بغيرِ مذهبِه ثلاثَ حالاتٍ:
الحالة الأولى: أنْ يفتي المتمذهبُ بغيرِ مذهبِه؛ لرجحانِه عنده.
الحالة الثانية: أنْ يفتي المتمذهبُ بفيرِ مذهبِه؛ لكونه الأسهل.
الحالة الثالثة: أنْ يفتي المتمذهبُ بفيرِ مذهبِه؛ احتياطًا.
الحالة الأولى: أنْ يفتي المتمذهبُ بغيرِ مذهبِه؛ لرجحانِه عنده.
إِذا سُئِلَ المتمذهبُ عن حكمِ مسألةٍ ما، وقد ترجَّحَ عنده غيرُ مذهبِه -
(1)
المعيار المعرب (12/ 26)، وانظر منه:(4/ 293).
(2)
انظر: إِعلام الموقعين (6/ 165)، والفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (4/ 316)، والفتوى - نشأتها وتطورها للدكتور حسين الملَّاح (ص/ 605).
بأي مرجّحٍ دلَّه على رجحانِه - فالذي يظهرُ لي في هذه الحالةِ هو جوازُ إِفتاءِ المتمذهبِ بغيرِ مذهبِه
(1)
؛ لأنَّه أتبعَ السائلَ اجتهادَه
(2)
.
وممَّا يلزمُ المتمذهب أنْ يُبَيّنه للمستفتي بيان مذهبِ إِمامِه، ثُمَّ يذكر له ما ترجَّحَ عنده
(3)
؛ ليكونَ السائلُ على بصيرةٍ مِنْ أمرِه
(4)
.
وأيضًا: فالسائلُ إِنَّما سألَ عن مذهبِ إِمامٍ بعينِه، ويحتملُ إِرادته تقليد إِمامِ المتمذهبِ - ولذا سألَ أربابَ مذهبِه - ومع وجودِ هذا الاحتمال كانَ مِن الأمورِ اللَّازمةِ بيانُ قولِ إِمامِه.
يقولُ ابنُ حمدان: "فإِنْ قويَ عنده - أي: عند المجتهد في مذهبِه - مذهبُ غيرِه، أفتى به، وأَعْلَمَ السائلَ مذهب إِمامِه وأنَّه ما أفتاه به.
فإِنْ كان غرضُ السائلِ مذهبَ إِمامِه لم يفته بغيرِه، وإِنْ قوي عنده"
(5)
.
ويظهرُ لي أنَّ في منعِ المتمذهبِ مِنْ بيانِ رأيه فيما سُئل عنه، مع إِلزامِه ببيانِ قولِ إِمامِه، تضييقًا دونَ ما يسوّغه، وفي إِفتائه بما يراه راجحًا عنده، وبيان قولِ إِمامِه توسُّطٌ جيّدٌ في هذه الحالةِ.
ولابنِ القيمِ كلامٌ سَبَقَ نقلُه - في المبحثِ الأولِ: (عملُ المتمذهبِ
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 122)، وصفة الفتوى (ص/ 39)، والمسودة (2/ 952)، والفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (4/ 316)، والدر النضيد للغزي (ص/ 199)، وكشاف القناع للبهوتي (15/ 48)، ومطالب أولي النهى للرحيباني (6/ 448)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (2/ 406)، والاختلاف الفقهي لعبد العزيز الخليفي (ص/ 191)، وأصول الإِفتاء للعثماني (ص/ 470) مع المصباح في رسم المفتي.
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 122)، وصفة الفتوى (ص/ 39)، والمسودة (2/ 952).
(3)
انظر: المصارد السابقة، وفتاوى قاضي الجماعة (ص/ 129)، والدر النضيد للغزي (ص/ 199)، وكشاف القناع للبهوتي (15/ 48).
(4)
انظر: كشاف القناع للبهوتي (15/ 48)، ومطالب أولي النهى للرحيباني (6/ 448).
(5)
نقل كلامَ ابن حمدان تقيُّ الدين بن تيمية في: المسودة (2/ 936)، وفي الطبعة سقط يسير استدركته من طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد (ص/ 523). وانظر: الفواكه العديدة لابن منقور (2/ 101).
إِذا خالفَ مذهبُه الدليلَ) - ومفاده: أنَّ القولَ الراجحَ لا بُدَّ أنْ يخرَّجَ على أصولِ مذهبِ الإِمامِ وقواعدِه؛ لأنَّ كلَّ قولٍ صحيحِ، فهو مخرَّجٌ على أصولِ الأئمةِ
(1)
.
وقد سَبَقَ أيضًا كلامُ تقي الدينِ بن تيمية في بيانِ أنَّ أكثرَ المستفتين لا يخطرُ ببالِهم السؤالُ عن مذهبِ إِمامٍ بعينِه.
الحالة الثانية: أنْ يفتي المتمذهبُ بغيرِ مذهبِه؛ لونِه الأسهل.
إِذا سُئِل المتمذهبُ عن حكمِ مسألةِ ما، ورأى إِفتاءَ السائل بمذهبٍ آخر؛ لكونِه أسهل مِنْ مذهبِه، فالذي يظهرُ لي في هذه الحالة أنَّ الأصلَ فيها عدمُ الجوازِ؛ لأنَّها كتتبعِ الرخصِ، وقد تقدمَ الحديثُ عن مسألةِ:(تتبع الرخص).
يقولُ ابنُ الصلاحِ: "أمَّا إِذا لم يكنْ ذلك - أيْ: إِفتاء المتمذهب بغيرِ مذهبِه - بناءً على اجتهادِ، فإنْ تَرَكَ مذهبَه إِلى مذهبٍ هو أسهلَ عليه وأوسع: فالصحيحُ امتناعُه"
(2)
.
وقال ابنُ حمدانَ عن حكمِ هذه الحالةِ: "فالمنعُ أصحُّ"
(3)
.
ويحتملُ وجودُ قولِ آخر في هذه الحالةِ؛ إِذ تعبيرُ ابنِ الصلاحِ وابنِ حمدان مشعرٌ بوجودِ قولٍ ثانٍ فيها.
وقد يُستثنى مِن الحكم السابقِ بعضُ الحالاتِ الخاصةِ الَّتي يرى فيها المفتي أنَّ في الإِفتاءِ بغيرِ المذهبِ رفعًا لحرجٍ وَقَعَ فيه المكلَّفُ، فيجوزُ له الإِفتاءُ بالأسهلِ
(4)
بشرطِ: أنْ لا يعارضَ القولَ المُفْتَى بها نصًّا صريحًا في
(1)
انظر: إِعلام الموقعين (6/ 167).
(2)
أدب المفتي والمستفتي (ص / 123). وانظر: الدر النضيد للغزي (ص / 199)، وأصول الإفتاء للعثماني (ص/463) مع المصباح في رسم المفتي.
(3)
صفة الفتوى (ص/ 39). وانظر: المسودة (2/ 952).
(4)
انظر: أصول الإِفتاء للعثماني (ص/463) مع المصباح في رسم المفتي.
القرآنِ أو السنةِ
(1)
، أو إِجماعًا متقدمًا.
الحالة الثالثة: أنْ يفتي المتمذهبُ بغيرِ مذهبِه؛ احتياطًا.
إِذا أفتى المتمذهبُ السائلَ بغيرِ مذهبِه؛ لأنَّ في تركِ مذهبِه إِلى مذهب إِمامٍ آخر احتياطًا، فالذي يظهرُ لي هو جوازُ الإِفتاءِ في هذه الحالةِ
(2)
، إِنْ لم يقع المستفتي في حرجٍ ومشقةٍ.
ويظهرُ أن ممَّا يلزم المتمذهب في هذه الحالةِ أنْ يُبينَ للمستفتي مذهبَ إِمامِه، ثمَّ يبيِّن له أنَّ فيما أفتاه به احتياطًا له
(3)
؛ لأنَّ السائلَ إِنَّما سألَ عن قولِ إِمامِ المتمذهبِ، ويحتمل إِرادة السائلِ تقليد إِمامِ المتمذهبِ بعينِه - ولذا سألَ أربابَ مذهبِ الإِمامِ - ومَعَ وجودِ الاحتمالِ كان مِن الأمورِ اللازمةِ بيانُ قولِ إِمامِه.
وأنبه إِلى أمرٍ مهمٍ، وهو: إِنْ ترتّبَ على إِفتاءِ المتمذهب بغيرِ مذهبِ إِمامِه مفسدة راجحة، فالأَوْلى بالمتمذهبِ مراعاةُ درئها، فَإِنْ أمكنَه أنْ يخرِّجَ القولَ الَّذي ترجّحَ عنده على أصولِ مذهبِه وقواعدِه أو فروعه، فهذا جيّدٌ، وقد تقدّم كلامُ ابن القيّمِ الَّذي يشيرُ إِلى إِمكانِ تخريج الأقوالِ الراجحةِ على أصولِ الأئمةِ
(4)
.
وإِنْ لم يمكنْه، فقد يُقال: إِنَّ الأَوْلى بالمتمذهبِ في هذه الحالةِ عدمُ الإِفتاءِ؛ مراعاةً لدرءِ المفسدةِ
(5)
، وفيمكانِه أنْ يحيلَ السائلَ إِلى غيرِه من المفتين.
(1)
انظر: إِعلام الموقعين (6/ 169 وما بعدها).
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 122 - 123)، وصفة الفتوى (ص/ 39)، والمسودة (2/ 952)، والدر النضيد للغزي (ص/ 199).
(3)
انظر: المصار السابقة.
(4)
انظر: إِعلام الوقعين (6/ 167)، والفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (4/ 319).
(5)
ذكرت في المبحث الأول: (عمل المتمذهب إذا خالف مذهبه الدليل) أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ترك بناء الكعبة على قواعد إِبراهيم عليه السلام؛ لأنَّ القوم كانوا حدثاء عهد بالكفر؛ خشية وقوع فتنة بين بعض المسلمين. وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (24/ 195)، وأصول الإِفتاء للعثماني (ص/ 472 - 473) مع المصباح في رسم المفتي.
فإِنْ كان محلُّ السؤالِ مِن المستحباتِ أو مِن المكروهاتِ، فبإِمكانِه الإِفتاء بخلافِ ما ظَهَرَ له؛ درءًا للمفسدةِ وجلبًا للمصلحةِ.
يقولُ شمسُ الدين الذَّهبي: "إِذا تبرهنَ له مذهبُ الغيرِ في مسائل، ولاحَ له الدليلُ، وقامت عليه الحجةُ: فلا يقلِّدْ فيها إِمامَه
…
لكنَّه لا يفتي العامةَ إِلَّا بمذهبِ إِمامِه"
(1)
ولعلَّ كلامَ الذَّهبي محمولٌ على مثلِ الحالةِ الجزئية الَّتي نبَّهتُ إِليها.
* * *
(1)
سير أعلام النُّبَلاء (8/ 93 - 94).