الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: الاستدلال بالحديث متى ما وافق المذهب ومخالفة الحديث نفسه في حكم آخر دل عليه؛ لمخالفته المذهب
مِن الآثارِ الخطيرةِ التي ظَهَرَتْ بين صفوفِ بعضِ المتمذهبين
الاستدلالُ بالحديثِ النبوي على حكم مسألةٍ وافق الحديثُ فيها مذهبَ المستدلِّ، ومخالفةُ الحديثِ نفسِه في مسألةٍ أخرى دلَّ عليها؛ لمخالفتِه المذهب، ولا يكون ثمةَ ما يعارضُ دليلَ حكمِ المسألةِ.
قد يهتمُّ بعضُ المتمذهبين بالتدليلِ على أقوال مذهبِه - وهو أمرٌ حسنٌ وإيجابيٌ - لكنَّهم يَغْفَلون، فيستدلون بشطرِ الحديثِ؛ لموافقتِه للمذهبِ، ويتركون شطرَه؛ لمخالفتِه للمذهبِ.
وفي هذا التصرف تعصبٌ بيّنٌ
(1)
، وتفريقٌ بين متماثلين - إذ كلتا المسألتين قد دلَّ عليهما نصٍّ واحدٌ - دونَ ما يسوّغه، وتطبيقٌ خاطئٌ لمدلولِ التمذهب، وكيف يكون الحديثُ حجةً في شطرٍ منه، وليس بحجةٍ في شطرٍ آخر؟ !
(2)
.
وقد بيَّنَ ابنُ القيّمِ عوارَ فعلِ بعضِ المتمذهبين المتعصبين لمذاهبِهم، فقالَ مخاطبًا لهم: "إذا أخذتم بالحديثِ - مرسلًا كان أو مسندًا - لموافقتِه رأيَ صاحبِكم، ثمَّ وجدتم فيه حُكْمًا يخالفُ رأيَه: لم تأخذوا به في ذلك
(1)
انظر: بدعة التعصب المذهبي لمحمد عباسي (ص/ 224)، وزوابع في وجه السنة لصلاح الدين مقبول (ص/ 377).
(2)
انظر: المصدر السابق، وسبيل الجنة بالتمسك بالقرآن والسنة لأحمد البنعلي (ص/ 93).
الحكمِ، وهو حديثٌ واحدٌ! وكأنَّ الحديثَ حجةٌ فيما وافقَ رأي مَنْ قلَّدتُموه، وليس بحجةٍ فيما خالفَ رأيَه"
(1)
.
ويتصلُ بهذا الأثرِ صورةٌ أخرى، وهي؛ أنْ يقومَ المتمذهبُ بالاستدلالِ بحديثٍ ما على مسألةٍ دلَّ عليها؛ موافقة لمذهبِه، ثم يقومُ بتضعيفِ الحديثِ ذاتِه في مسألةٍ أخرى تخالفُ مذهبَه.
وهذا العملُ في الحقيقةِ عملٌ مَشِينٌ؛ فليستْ نصوصُ الشريعةِ محلًا للأخذِ والردِّ على حسب موقعها مِنْ قولِ الإمامِ، بلْ أقوالُ الإمام هي محلّ الأخذِ والردِّ؛ بحسبِ موافقتِها أو مخالفتِها لنصوصِ الشارعِ.
ويبدو أنَّ هذا الداءَ الخطيرَ كان قد استشرى في نفوسِ بعضِ المتمذهبين في زَمنٍ متقدمٍ؛ فقد ذكر ابنُ حزمٍ (ت: 456 هـ) أنَّه اطلعَ على كتابِ: (شرح الرسالة)
(2)
للقاضي عبدِ الوهاب المالكي (ت: 422 هـ)، فرآه في باب:(مَنْ يعتق على المرءِ إذا ملكه)، قد استدلَّ بحديثِ:(مَنْ ملك ذا رحمٍ مَحْرَم فهو حرٌّ)
(3)
، وبعدَ هذه المسألة بقليلٍ ذَكَرَ قولَ الإمامِ أبي حنيفة في
(1)
إعلام الموقعين (4/ 491).
(2)
طبع القدر الموجود من شرح الرسالة للقاضي عبد الوهاب في مجلدين، عن دار ابن حزمٍ، وليس فيه أبواب: العتق.
(3)
جاء هذا الحديث من عدة طرق، من أشهرها: طريق الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، وأخرجه: أبو داود في: سننه، كتاب: العتق، باب: فيمن ملك ذا رحم محرم (ص/ 592)، برقم (3949)؛ والترمذي في: جامعه، كتاب: الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء فيمن ملك ذا رحمٍ محرم (ص/ 322)، برقم (1365)، وقال:"هذا حديث لا نعرفه مسندًا إلا من حديث حماد بن سلمة، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن قتادة عن الحسن عن عمر شيئًا من هذا". والنسائي في: السنن الكبرى، كتاب: العتق، باب: من ملك ذا رحمٍ محرم (5/ 13)، بالأرقام (4878 - 4882)؛ وابن ماجه في: سننه، كتاب: العتق، باب: من ملك ذا رحم محرم فهو حر (ص/ 430)، برقم (2524)؛ والطيالسي في: المسند (2/ 227)، برقم (952)؛ وابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: البيوع والأقضية، باب: في الرجل يملك المحرم منه، يعتق، أم لا؟ (10/ 510)، برقم (20447)؛ وأحمد في: المسند (33/ 338)، برقم (20167)؛ والروياني في: المسند (2/ 53)، برقم (818)؛ والطحاوي في: شرح معاني الآثار، كتاب: العتاق، باب: الرجل يملك ذا رحم محرم منه، هل يعتق عليه، أم لا؟ =
مسألةٍ أخرى، وقال:"فإنْ احتجَّ بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ ملك ذا رحم محرم فهو حرٌّ). قلنا: هذا خبرٌ لا يصحُّ! "
(1)
.
= (3/ 109)؛ والطبراني في: المعجم الكبير (7/ 205)، برقم (6852)؛ وفي: المعجم الأوسط (2/ 118)، برقم (1438)، وقال:"لم يرو هذا الحديثَ عن عاصم الأحول إلا حمادُ بن سلمة، ولا عن حماد إلا محمدٌ، تفرد به محمد بن يحيى". والحاكم في: المستدرك، كتاب: العتق (2/ 267)، برقم (2852)، وصححه، ووافقه الذهبي. والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: العتق، باب: من يعتق بالملك (10/ 289)؛ وفي: معرفة السنن والآثار، كتاب: العتق، باب: من يعتق بالملك (14/ 406)، برقم (20479)، وقال:"والحديث إذا انفرد به حماد بن سلمة، ثم يشكُّ فيه، ثم يخالفه فيه مَنْ هو أحفظ منه، وجب التوقف فيه، وفد أشار البخاريُّ إلى تضعيف الحديث، وقال علي بن المديني: هذا عندي منكرٌ". وانظر: التلخيص الحبير (6/ 3264).
وقال الخطابي عن الحديث في: معالم السنن (5/ 408): "حديثُ سمرة غير ثابت".
وقد أعل الحديثَ: عبدُ الحق الإشبيلي في: الأحكام الوسطى (4/ 15)، وابنُ القيم في: تهذيب السنن (4/ 1897 - 1898).
وقال ابن حجر عن الحديث في: بلوغ المرام (ص/ 512): "ورجح جمعٌ من الحفاظ أنه موقوف".
وصحح الألبانيُّ الحديثَ مرفوعًا في: إرواء الغليل (6/ 169).
وللحديث شاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، صححه ابن حزمٍ في: المحلى (9/ 202)، وعبدُ الحق الإشبيلي في: الأحكام الوسطى (4/ 15)، وابنُ القطان في: بيان الوهم والإيهام (5/ 437).
وقال عنه أبو العباس القرطبي في: المفهم (4/ 345): "وهذا الحديث ثابتٌ بنقل العدل عن العدل، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه، غير أن بعضهم قال: تفرد به ضمرة. وهذا لا يلتفت إليه؛ لأن ضمرة عدل ثقة، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره
…
".
وفي المقابل أعلَّ حديث عبد الله بن عمر: النسائي في: السنن الكبرى (5/ 13)، وقال:"لا نعلم أن أحدًا روى الحديث عن سفيان غير ضمرة، وهو حديث منكر". وقال أبو بكرٍ البيهقيُّ في: السنن الكبرى (10/ 298 - 290): "المحفوظ بهذا الإسناد حديث نهى عن بيع الولاء وعن هبته".
وللاطلاع على حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وعلى اختلاف العلماء فيه وفي حديث سمرة، انظر: الأحكام الوسطى لعبد الحق الإشبيلي (4/ 15)، وتنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (5/ 96 - 97)، ونصب الراية للزيلعي (3/ 279 - 280)، والبدر المنير لا بن الملقن (9/ 707 - 708)، والتلخيص الحبير لابن حجر (6/ 3263 - 3264)، وإرواء الغليل للألباني (6/ 169 - 171).
(1)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 220).
ثمَّ يحكي ابنُ حزمٍ واقعَ بعضِ المتمذهبين، فيقول: "ولا أُحْصِي كم وجدتُ للحنفيين والمالكيين والشافعيين تصحيحَ روايةِ ابنِ لَهِيْعة
(1)
، وعمرو بن شعيب
(2)
عن أبيه
(3)
عن جدّه
(4)
، إذا كان فيها ما يوافقُ تقليدَهم في
(1)
هو: عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فُرعان الحضرمي الأعدولي، ويقال: الغافقي، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو النضر المصري، ولد سنة 95 هـ وقيل: 96 هـ طلب العلم في صباه، ولقي كبار علماء مصر والحرمين، كان قاضي مصر ومحدثها، فقيهًا علامةً، من بحور العلم، وقد لقي اثنين وسبعين تابعيًا، قال عنه سفيان الثوري:"عند ابن لهيعة الأصول، وعندنا الفروع"، وقد اختلف علماء الحديث في درجة ما يرويه ابن لهيعة، فضعفه جمعٌ من المحدثين، منهم: يحيى بن سعيد، وابن معين، والنسائي، واعتبره آخرون، يقول الإمام أحمد:"ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيرًا مما أكتب أعتبر به، وهو يقوي بعضه ببعض"، ويقول ابن عبد الهادي:"الصحيح أنَّ حديثه في الرتبة الوسطى من الحسن، ولا يحتج به في الأصول"، توفي سنة 174 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 516)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 283)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 83)، وتهذيب الكمال للمزي (15/ 487)، وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي (1/ 350)، وسير أعلام النبلاء (8/ 11).
(2)
هو: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، أبو إبراهيم ويقال: أبو عبد الله المدني، كان إمامًا محدثًا فقيه أهل الطائف، حدَّث عن أبيه، فأكثر الرواية عنه، اختلف المحدثون في درجة حديثه، وقد احتج به أحمد بن حنبل وعلي بن المديني، يقول يحيى بن سعيد القطان:"إذا روى عن الثقات، فهو ثقة يحتج به"، توفي بالطائف سنة 118 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 333)، والتاريخ الكبير للبخاري (6/ 342)، وتهذيب الكمال للمزي (22/ 64)، وسير أعلام النبلاء (5/ 165)، وتاريخ الإسلام للذهبي (3/ 288)، وميزان الاعتدال له (3/ 263).
(3)
هو: شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، سمع من أبيه، واختلف العلماء في سماعه من جده، ورجح غير واحد أنَّه سمع منه، وليس في شعيب بأس، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال عنه ابن حجر:"صدوق ثبت سماعه من جده"، توفي بعد سنة 80 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 187)، وتهذيب الكمال للمزي (12/ 534)، وسير أعلام النبلاء (5/ 181)، وتاريخ الإسلام للذهبي (2/ 942)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (2/ 175)، وتقريب التهذيب له (ص/ 318).
(4)
إن كان المقصود بالجد هو: جد شعيب بن محمد، فجده هو: عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشي، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، أسلم قبل أبيه، وهو صحابي ابن صحابي، حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا، يقول أبو هريرة رضي الله عنه:"ما كان أحد أكثر حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو؛ رضي الله عنهما كان يكتب، وكنت لا أكتب"، وقد كتب الكثير =
مسألتِهم تلك، ثم رُبَّما أتى بعدها - بصفحةٍ أو ورقةٍ أو أوراقٍ - احتجاجُ خصمِهم عليهم بروايةِ عمرو بنِ شعيب عن أبيه عن جدّه، أو بروايةِ ابنِ لهيعة، فيقولون: هذه صحيفة
(1)
، وابنُ لهيعة ضعيفٌ! "
(2)
.
وليس مِنْ شكٍّ في أنَّ ما صنعه بعضُ المتمذهبين فعلٌ غيرُ مقبولٍ، وتناقضٌ واضحٌ
(3)
، صادرٌ ممَّنْ لا يَقْدِرُ نصوصَ الشارعِ حقَّ قدرِها.
يقولُ أبو شامةَ المقدسي: "مِنْ قبيحِ ما يأتي به بعضُهم: تضعيفهم لخبرٍ يحتجُّ به بعضُ مخالفيهم، ثمَّ يحتاجون هُمْ إلى الاحتجاجِ بذلك الخبرِ بعينِه في مسألةٍ أخرى، فيُوردونه مُعْرِضين عمَّا ضعفوه! "
(4)
.
وقريبٌّ ممَّا سَبَقَ: مَنْ يضعّف بعضَ رجالِ الإسنادِ في موضع ما إذا كان حديثُهم يخالف مذهبَه، ويحتجّ بهم في موضعٍ آخر إذا كان حديثُهم يوافقُ مذهبَه
(5)
.
= بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، كان مجتهدًا في العبادة، توفي رضي الله عنه بالحرة، وقيل: بالطائف، وقيل: بمكة سنة 63 هـ وقيل: سنة 65 هـ وقيل: سنة 77 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 373)، والتاريخ الكبير للبخاري (5/ 5)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (5/ 116)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص/ 421)، والحلة السيراء لابن الأبار (1/ 17)، وسير أعلام النبلاء (3/ 79)، والإصابة لابن حجر (4/ 192)، وتهذيب التهذيب له (2/ 392).
وإن كان المقصود بالجد هو جد عمرو بن شعيب، فهو: محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، روى عن أبيه، ورى عنه ابنه شعيب، يقول عنه شمس الدين الذهبي:"غير معروف الحال، ولا ذُكر بتوثيق ولا بلين"، ويقول أيضًا:"الظاهر موته في حياة أبيه". انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (5/ 181)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (3/ 611)، وتقريب التهذيب له (ص/570).
(1)
يحتمل أن تكون لفظة: "صحيفة" محرفةً، عن:"ضعيفة"، إلا إذا أريد أنَّ روايةَ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وجاد، ولا تصح الرواية بها، لكن من أعلها من أهل العلم أعلها بالإرسال؛ لأنَّ محمد بن عمرو بن العاص لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم.
وللتوسع في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، انظر: تهذيب الكمال للمزي (12/ 536)، وتعليق الشيخ أحمد شاكر على جامع الترمذي (2/ 141 - 144).
(2)
الإحكام في أصول الأحكام (4/ 220).
(3)
انظر: إعلام الموقعين (3/ 522).
(4)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (ص/ 120).
(5)
انظر: تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (1/ 5).
أمثلة للأثر السلبي:
المثال الأول: استدلالُ بعضِ العلماءِ
(1)
بحديثِ: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ تغتسل المرأةُ بفضلِ الرجلِ، أو يغتسل الرجلُ بفضلِ المرأةِ)
(2)
: على كراهةِ استعمالِ الرجلِ للماءِ الذي خلتْ به المرأة، ولم يستدلوا به على كراهةِ استعمالِ المرأة للماءِ الذي خلى به الرجلُ.
يقولُ الشيخُ محمد العثيمين: "مِنْ غرائبِ العلم: أنَّهم استدلوا به - أي: بالحديثِ السابقِ - على أنَّ الرجلَ لا يتوضأ بفضلِ المرأةِ، ولم يستدلوا به على أنَّ المرأةَ لا تتوضأ بفضلِ الرجلِ، وقالوا: يجوز أنْ تغتسلَ المرأةُ بفضلِ الرجل.
فما دام الدليلُ واحدًا، والحكمُ واحدًا، والحديث مقسّمًا تقسيمًا، فما بالنُا نأخذ بقسمٍ، ولا نأخذ بالثاني؟ ! "
(3)
.
(1)
انظر على سبيل المثال: المغني لابن قدامة (1/ 285)، والتحقيق في أحاديث التحقيق لابن الجوزي (1/ 32 - 33)، والإنصاف (1/ 47 - 49)، وكشاف القناع للبهوتي (1/ 63)، وحاشية الروض المربع لابن قاسم (1/ 79).
(2)
جاء هذا الحديث عن حميد بن عبد الرحمن عن رجلٍ صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه: أبو داود في: سننه، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة (ص/17)، برقم (81)؛ والنسائي في: المجتبى، كتاب: الطهارة، باب: ذكر النهي عن الاغتسال بفضل الجنب (ص/ 45)، برقم (237)؛ وأحمد في: المسند (28/ 224)، برقم (17012)؛ والطحاوي في: شرح معاني الآثار، كتاب: الطهارة، باب: سؤر بني آدم (1/ 24)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النهي عن فضل المحدث (1/ 190)، وقال:"وهذا الحديثُ رواتُه ثقات، إلا أنَّ حميدًا لم يسمِّ الصحابيِّ الذي حدّثه، فهو بمعنى المرسل، إلا أنَّه مرسل جيّد، لولا مخالفته الأحاديث الثابتة الموصولة".
وتعقب ابنُ عبد الهادي في: تنقيح التحقيق (1/ 43) كلامَ البيهقي، فقال:"وهذا الحديث ليس بمرسل، وجهالة الصحابي لا تضر".
وانظر: الإمام لابن دقيق العيد (1/ 155)، وفتح الباري لابن حجر (1/ 300).
وصحح الحديثَ: الحميديُّ - كما نقله ابن القطان في: بيان الوهم والإيهام (5/ 226)، وابن عبد الهادي في: المحرر في الحديث (ص/ 29) - وابنُ حجر في: بلوغ المرام (ص/ 24)، والألبانيُّ في: تعليقه على السنن في المواضع السابقة.
(3)
الشرح الممتع (1/ 44). وانظر: إعلام الموقعين (3/ 492)، والتقليد والإفتاء لعبد العزيز الراجحي (ص/ 79).
المثال الثاني: استدلالُ بعضِ العلماءِ
(1)
بحديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُصرِّوا
(2)
الإبلَ والغنمَ، فمَنْ ابتاعها بعدُ، فإنَّه بخيرِ النظرين بعد أنْ يحتلبَها: إنْ شاءَ أمسك، وإنْ شاءَ ردَّها وصاعًا مِنْ طعامٍ، وهو بالخيارِ ثلاثًا)
(3)
: على أنَّ أقصى مدةِ الخيارِ في البيعِ ثلاثةُ أيام، في حينِ أنَّ المستدلَّ بالحديثِ على تحديدِ مدةِ الخيارِ لم يأخذْ بما دلَّ عليه الحديثُ من ردِّ الشاةِ بعدَ بيعِها مصراة مع صاعٍ مِن الطعامِ.
ويعلِّقُ ابنُ حزمٍ على ما صدَرَ مِنْ بعضِ الحنفيةِ قائلًا: "وهذا مِنْ عجائب الدنيا، وهم أشدُّ الناسِ إنكارًا لخبرِ المصرَّاة، ويقولون: هو مخالفٌ للأصولِ، وهو مضطربٌ
…
ثمَّ يحتجون به فيما ليس فيه منه أثرٌ ولا دليلٌ؛ لأنَّه ليس في خبر المصرَّاة ذكرُ خيارٍ في عقدِ البيعِ أصلًا"
(4)
.
المثال الثالث: استدلالُ بعضِ العلماءِ
(5)
بحديثِ عمار بن ياسر
(6)
(1)
انظر على سبيل المثال: المبسوط للسرخسي (13/ 38)، وبدائع الصنائع للكاساني (5/ 274)
(2)
التصرية: حبس اللبن في ضرع الشاة وجمعه فيه، ويكون بعدم الحلب أيامًا، ويفعل مالك الشاة هذا الأمر عندما يريد بيعها؛ ليُظن أنَّها غزيرة اللبن. انظر: صحيح البخاري (ص/ 403)، والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/ 194)، حاشية (2).
(3)
أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري في: صحيحه، كتاب: البيوع، باب: النهي للبائع أنْ لا يُحفّل الإبل (ص / 403)، برقم (2148)، وقال بعده: "وقال بعضهم: عن ابن سيرين: (صاعًا من طعام، وهو بالخيار ثلاثًا)؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: البيوع، باب: حكم بيع المصرَّاة (2/ 710)، برقم (1524).
(4)
الإعراب عن الحيرة والالتباس (1/ 378 - 380). وانظر: إعلام الموقعين (3/ 497)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 326) ط/ دار الفتح، وسبيل الجنة بالتمسك بالقرآن والسنة لأحمد البنعلي (ص/ 93)، والتقليد والإفتاء لعبد العزيز الراجحي (ص/ 79).
(5)
انظر: المهذب للشيرازي (1/ 167).
(6)
هو: عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن حصين العنسي، ثم المذحجي أبو اليقظان، حليف لبني مخزوم، من مشاهير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المهاجرين الأولين، وأحد السابقين إلى الإسلام، وممن عُذِّب هو وأبوه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمرُّ عليهم، ويقول:(صبرًا آل ياسر، إنَّ موعدكم الجنة)، هاجر إلى الحبشة، وصلى إلى القبلتين، شهد بدرًا وما بعدها، وقد أبلى في غزوة بدر بلاءً حسنًا، وشهد اليمامة، وأبلى فيها، وقد قُطِعت أذنُه يومئذ، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:(تقتل عمارًا الفئةُ الباغيةُ)، استعمله عمر بن الخطاب =
- رضي الله عنه: (إنَّما تغسل ثوبَك مِن البولِ، والغائطِ، والمني مِن الماءِ الأعظم، والدمِ، والقيءِ)
(1)
: على أنَّ الغائطَ نجسٌ، وقرروا في مسألةِ:(طهارة المني) أنَّه طاهرٌ
(2)
، دونَ التعرضِ للحديثِ الذي احتجوا به في مسألةِ:(نجاسة الغائطِ).
يقولُ أبو شامةَ المقدسي معلِّقًا على هذا الأمر: "ولم يتعرّضْ للجوابِ عن هذا الحديثِ الذي هو حجّةُ خصمِه، ولم يكن له حاجةٌ إلى ذكرِه أصلًا؛ فإنَّ الغائط لا ضرورةَ إلى الاستدلالِ على نجاستِه بهذا الحديثِ
= رضي الله عنه، على الكوفة، وكتب إليهم:"إنه من النجباء"، قُتِلَ رضي الله عنه في صفين سنة 37 هـ ودفنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانت سن عمار يوم قتل ثلاثًا وتسعين سنة، وقيل: إحدى وتسعين سنة. انظر ترجمته في: حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 139)، وتاريخ مدينة السلام للخطيب (1/ 487)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص/ 481)، وتهذيب الكمال للمزي (12/ 215)، وسير أعلام النبلاء (1/ 456)، والإصابة لابن حجر (4/ 575).
(1)
أخرج حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه: البزار في: المسند (4/ 234)، برقم (1397)، وقال:"هذا الحديث لم يروه إلا إبراهيمُ بن زكريا، عن ثابت بن حماد، وإبراهيم بن زكريا بصري، وقد حدَّث بغيرِ حديث لم يتابع عليه، وأما ثابت بن حماد، فلا نعلم روى إلا هذا الحديث". وأبو يعلى في: المسند (3/ 185)، برقم (1611)؛ والعقيلي في: الضعفاء (1/ 466)؛ والطبراني في: المعجم الأوسط (6/ 113)، برقم (5963)، وقال:"لم يرو هذا الحديثَ عن سعيد بن المسيب إلا عليُّ بنُ زيد، تفرد به ثابت بن حماد، ولا يُروى عن عمار إلا بهذا الإسناد". والدارقطني في: السنن، كتاب: الطهارة، باب: نجاسة البول (1/ 230)، برقم (458)، وقال:"لم يروه غيرُ ثابت بن حماد، وهو ضعيف جدًّا". وأبو نعيم في: معرفة الصحابة (4/ 2073)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الطهارة، باب: إزالة النجاسة بالماء (1/ 14)، وقال:"هذا باطلٌ لا أصل له، وإنما رواه ثابت بن حماد، عن علي بن زيد، عن ابن المسيب، عن عمار، وعليُّ بن زيد غيرُ محتج به، وثابت بن حماد متهم بالوضع".
وحكم تقيُّ بن تيمية في: منهاج السنة النبوية (7/ 429 - 340) على هذا الحديث بأنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر: خلاصة الأحكام للنووي (1/ 177).
وقال ابنُ الملقن عن الحديث في: البدر المنير (1/ 493): "هذا الحديث باطلٌ، لا يحل الاحتجاج به".
وللاستزادة انظر: المصدر السابق، والتلخيص الحبير لابن حجر (1/ 70)، وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (ج 10/ ق 1/ 414).
(2)
انظر: المهذب للشيرازي (1/ 168).
الضعيفِ المنتهض حجةً عليه في أمرٍ آخر"
(1)
.
المثال الرابع: استدلالُ بعضِ العلماءِ
(2)
بحديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أدرك ركعةً مِن الصبحِ قبلَ أنْ تطلعَ الشمسُ، فقد أدركها؛ ومَنْ أدرك ركعةً مِن العصرِ قبل أنْ تغيبَ الشمسُ، فقد أدركها)
(3)
: على أنَّ المصلي لو غربتْ عليه الشمسُ، وهو يصلي العصرَ، فإنّه يتمُّ صلاتَه، في حين أنَّ المستدل بالحديثِ يقولُ ببطلانِ صلاةِ الفجرِ لمَنْ طلعتْ عليه الشمسُ، وهو يصلي.
وغيرُ خافٍ ما في هذا الفعل مِن التناقض
(4)
، يقول ابنُ القيّمِ مُلْزِمًا مَن استدلَّ بالحديثِ في إتمامِ صلاةِ العصرِ، ولم يقلْ بمثلِ هذا في صلاةِ الفجرِ:"حديثٌ واحدٌ قاله صلى الله عليه وسلم في وقتٍ واحدٍ، وقد وجبتْ طاعتُه في شطرِه، فتجبُ طاعتُه في الشطرِ الآخر"
(5)
.
المثال الخامس: استدلَّ بعضُ العلماءِ
(6)
بحديثِ عبدِ الله بنِ عباسٍ رضي الله عنه في الرجلِ الذي وقصته ناقتُه، وهو محرمٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تُخَمّروا رأسَه ولا وجهَه؛ فإنَّه يبعث يوم القيامة ملبيًا)
(7)
: على تحريمِ تغطيةِ وجهِ
(1)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (ص/ 120).
(2)
انظر على سبيل المثال: شرح معاني الآثار للطحاوي (1/ 152 - 153)، وشرح مشكل الآثار له (10/ 140 - 143)، والمبسوط للسرخسي (1/ 152)، وبدائع الصنائع للكاساني (1/ 122)، ورد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (2/ 535).
(3)
أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري في: صحيحه، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: مَن أدرك من الفجر ركعةً (ص/ 128)، برقم (579)؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة (1/ 274)، برقم (608).
(4)
انظر: رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (2/ 536).
(5)
إعلام الموقعين (4/ 153).
(6)
انظر على سبيل المثال: المبسوط للسرخسي (4/ 7)، وبدائع الصنائع للكاساني (1/ 308)، و (2/ 184 - 185)، ورد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (7/ 33).
(7)
أخرج الحديث بذكر الرأس والوجه: مسلمٌ في: صحيحه، كتاب: الحج، باب: ما يُفعل بالمحرم إذا مات (1/ 545)، برقم (1206). =
المحرمِ، وذهبوا إلى أنَّ المُحْرِمَ إذا ماتَ فإنَه يُغَظَى رأسُه ووجهُه
(1)
.
وقد علَّقَ ابنُ حزمٍ على هذا قائلًا: "فكانَ هذا عجبًا جدًّا؛ خالفوه - أي: الحديث - في نصِّ ما فيه، فقالوا: المُحْرِمُ إذا ماتَ وَجَبَ أنْ يُغَطَّى وجهُه ورأسُه
…
"
(2)
.
ويقولُ الشيخُ محمد ناصر الدين الألباني: "يجبُ على الحنفيةِ أنْ يأخذوا بالحديثِ، ولا يتأولوه بالتأويلِ البعيدِ؛ توفيقًا بينه وبين مذهبِ إمامِهم! "
(3)
.
* * *
= وقد اختلف علماءُ الحديث في قبول لفظة: (وجهه): يقول الحاكم في: معرفة علوم الحديث (ص/ 438): "ذكر الوجه تصحيف من الرواة؛ لاجتماع الثقات والأثبات من أصحاب عمرو بن دينار على روايته عنه: (ولا تغطوا رأسه)، وهو المحفوظ". وانظر: نصب الراية للزيلعي (3/ 28)، والدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر (2/ 11).
ويقول البيهقيُّ في: السنن الكبرى (3/ 393) عن رواية مسلم: "رواه مسلم في: الصحيح عن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى هكذا، وهو وَهْمٌ من بعض رواته في المتن والإسناد جميعًا".
ويقول الألبانيُّ في إرواء الغليل (4/ 200): "وجملة القول: أنَّ زيادة الوجه في الحديث ثابتةٌ محفوظةٌ عن سعيد بن جبير من طرقٍ عنه".
وأخرج الحديث بلفظ: (لا تخمروا رأسه): البخاريُّ في: صحيحه، كتاب: الجنائز، باب: الكفن في ثوبين (ص/ 247)، برقم (1265)؛ ومسلمٌ في: صحيحه، كتاب: الحج، باب: ما يُفعل بالمحرم إذا مات (1/ 544)، برقم (1206).
(1)
يقول أبو البركات النسفي في: كنز الدقائق (2/ 349) مع البحر الرائق: "اعلم أن أئمتنا استدلوا بهذا الحديث على حرمة تغطية الوجه على المحرم الحي المفهوم من التعليل، ولم يعملوا بمنطوقه في حق الميت المحرم".
(2)
الإعراب عن الحيرة والالتباس (1/ 393). وانظر: إعلام الموقعين (3/ 499)، وإيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني (ص/ 329) ط/ دار الفتح.
(3)
إرواء الغليل (4/ 200).