الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: الإلمام الشمولي بالمسائل الفقهية، والأصولية
لقد خَدَمَ المتمذهبون مذاهبَهم بالتأليفِ في أصولِها وفروعِها، وتفنَّنوا في هذا الجانبِ أيّما تفننٍ، فجعلوا مؤلّفاتهم مرتبةً على كتبٍ مترابطةٍ، ثمَّ جعلوا تحتَ الكتبِ أبوابًا مترابطةً، بحيثُ يخدمُ الآخرُ منها الأولَ
(1)
، فحَصَلَ بهذا تنظيمٌ للمذهب وتقريبٌ له في أصولِه وفروعِه
(2)
، وتوضيحٌ لما قد يكون مجملًا أو غامضًا فيه، وتقييدٌ لأحكامِه، ودعمٌ لها بالأدلةِ
(3)
.
ولم تقتصرْ جهودُ المتمذهبين على هذا الأمرِ، بلْ بيّنوا قواعدَ مذهبِهم وضوابطَه الفقهية - إمَّا في مؤلّفاتٍ مستقلةٍ، وإمَّا فيما بثّوه في مدوَّناتهم الفقهية
(4)
- وذكروا التقسيماتِ الحاصرةَ للمسائلِ، بحيثُ يتمكنُ المتمذهبُ مِن الضبطِ لأبوابِ الفقهِ والإلمامِ الشمولي بها
(5)
.
يقولُ ابنُ القيّمِ حاكيًا ضبطَ المتمذهبين لمذاهبِهم: "أربابُ المذاهبِ يضبطون مذاهبَهم، ويحصرونها بجوامع تحيطُ بما يحلُّ، ويَحْرمُ عندهم"
(6)
.
(1)
للاطلاع على ترتيب المذاهب الفقهية الأربعة للموضوعات الفقهية، والمناسبة بينها، انظر: ترتيب الموضوعات الفقهية للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان (ص/ 15 - 83).
(2)
انظر: المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/ 211)، والمذهب الحنبلي للدكتور عبد الله التركي (1/ 220).
(3)
انظر: المدخل في الفقه الإسلامي للدكتور محمد شلبي (ص/ 140)، ودراسة تحليلية مؤصلة لتخريج الفروع على الأصول لجبريل ميغا (ص/ 72).
(4)
انظر: ابن عابدين وأثره في الفقه للدكتور محمد الفرفور (2/ 887 - 891)، والمدرسة الفقهية المالكية بالعراق للدكتور عبد المنعم التمسماني، بحوث الملتقى الأول: القاضي عبد الوهاب المالكي (1/ 568 وما بعدها).
(5)
انظر: الطريقة المثلى في تحصيل العلم لصالح آل الشيخ (ص/47).
(6)
أعلام الموقعين (3/ 91 - 92).
ومِنْ جهةٍ أخرى: فإنَّ عنايةَ أربابِ المذاهبِ ببيانِ المسائلِ الفروعيةِ، وبيانِ أحكامها على اختلافِ الأحوالَ والهيئاتِ، عناية منقطعة النظيرِ، يصعبُ وجودُها في غيرِ الكتبِ المذهبيةِ
(1)
، ففي دراسةِ الفقهِ وأصولِه على غيرِ الكتبِ المذهبية صعوبةٌ بالغةٌ
(2)
.
وغيرُ خافٍ على ذي لبٍّ أنَّ دراسةَ الفقهِ منظّمًا مرتّبًا أيسرُ مِنْ دراستِه دون ترتيبٍ وتنظيمٍ.
يقولُ القاضي عياضٌ: "وكذلك يَلْزَمُ هذا - أي: التمذهب بمذهب إمامٍ - طالب العلمِ في بدايةِ درسِ ما أصّله الأعلمُ مِنْ هؤلاءِ - أي: المجتهدين - وفرّعه، وحفظِه ما ألّفه وجَمَعَه، والاهتداء بنَظَرِه في ذلك، والميل حيثُ مالَ معه"
(3)
.
ثمَّ بيَّن مَغَبَّةَ الرغبةِ في التوسّعِ في الأقوالِ وأدلتِها في بدءِ طلبِ العلمِ، فقالَ:"إذ لو ابتدأَ الطالبُ في كلِّ مسألةٍ الوقوفَ على الحقِّ منها بطريقِ الاجتهادِ، عَسُرَ عليه ذلك؛ إذ لا يتفقُ جمعُ خصالِه وتناهي كمالِه، وإذا كان بهذه السبيلِ استغنى عن تقليدِ أربابِ المذاهبِ، وكان مِنْ المجتهدين"
(4)
.
ويقولُ شهابُ الدَّين القرافي: "أنتَ تعلمُ أنَّ الفقهَ وإنْ جَلَّ، إذا كان مفترقًا تبددتْ حكمتُه، وقلَّتْ طلاوتُه، وبَعُدَتْ عند النفوسِ طِلْبَتُه.
وإذا رُتِّبَت الأحكامُ - مخرّجةً على قواعدِ الشرع، مبنيّةً على مآخذِها - نَهَضَت الهممُ حينئذٍ لاقتباسِها، وأُعْجِبَتْ غايةَ الإعجابِ بتقمّصِ لباسِها"
(5)
.
ويقولُ ابنُ فوحون: "فحقٌّ على طالبِ العلمِ، ومريدِ تعرُّفِ الصوابِ
(1)
انظر: بلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ 129).
(2)
انظر: الإنصاف في بيان سبب الخلاف للدهلوي (ص/ 29).
(3)
ترتيب المدارك (1/ 63).
(4)
المصدر السابق.
(5)
الذخيرة (1/ 36).
والحقِّ، أنْ يعرفَ أولاهم - أي: أولى المذاهب - بالتقليدِ؛ ليعتمدَ على مذهبِه، ويسلكَ في التفقّه سبيلَه"
(1)
.
وكذلك الأمرُ بالنسبةِ إلى أصولِ الفقهِ، فقد جعلوا الحديثَ عن مسائلِه مترابطًا، بحيثُ إذا أنهى الطالبُ كتابًا في أصولِ فقهِ مذهبهِ حَصَلَ له إلمامٌ ومعرفةٌ بمسائلِ هذا العلمِ.
ويتأكّدُ هذا الأمرُ إذا عَرَفْنا حرصَ علماءِ المذهبِ على تنويعِ الكتابةِ في علمي: الفقه وأصوله؛ ليتمكنَ الطالبُ مِن التّرقي في دراستِهما، بدءًا بالكتبِ المختصرةِ، وانتهاءً بالكتبِ المبسوطةِ التي تُعْنَى بذكرِ الأقوالِ والتوسعِ في الاستدلالِ
(2)
، إضافةً إلى خدمةِ المعتنين بعلمِ الحديثِ بالتصنيفِ في أدلةِ مذهبِهم.
يقولُ أبو شامةَ المقدسي: "كان العلماءُ مِنْ قدماءِ أصحابِنا يعتنون بمختصرِ المزني رحمه الله حفظًا وشرحًا، وبسببِه سهلَ تحصيلُ مذهبِ الشافعي رحمه الله على طلابِه في ذلك الزمان
…
وانتفعَ به أئمةٌ أكابر، وتخرَّجَ به المشايخُ، وتفقّه به معظمُ الأصحابِ"
(3)
.
ولشمسِ الدين الذهبي نصيحةٌ وجهها لمنْ يريدُ التفقهَ، يقول فيها: "شأنُ الطالبِ أنْ يدرسَ مصنَّفًا في الفقهِ، فإذا حَفِظَه بَحَثَه، وطالعَ الشروحَ.
فإنْ كانَ ذكيًّا، فقيهَ النفسِ، ورأى حُجَجَ الأئمةِ، فليراقب الله، وليحتطْ لدينِه"
(4)
.
فدراسةُ الفقهِ وأصولِه عبرَ مذهبٍ مِن المذاهبِ الفقهيةِ المتبوعةِ
(1)
الديباج المذهب (1/ 63).
(2)
انظر: (ص/ 1274)، وخطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول لأبي شامة (ص/ 138)، ومقدمة المعتني بكتاب الفكر السامي لمحمد الحجوي (1/ 4)، والطريق إلى الفقه للدكتور حمد الشتوي (ص/ 35).
(3)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (ص/ 137).
(4)
سير أعلام النبلاء (8/ 90).
يُحَقّق للدارسِ الوقوفَ والنظرَ على جمهرةِ المسائلِ الفقهيةِ والأصوليةِ، مع تحقيقها؛ إذ هذه المذاهب قد خُدِمتْ مِنْ قِبَلِ عددٍ مِن العلماءِ، فأصّلوا الأصولَ، وقعّدوا القواعدَ، وخرّجوا عليها المسائلَ
(1)
، وبيّنوا الأدلةَ والعللَ، ووضعوا لبناتِ المدرسةِ المذهبيةِ المتكاملة
(2)
، بحيثُ يتمكّن الطالبُ مِنْ تحقيقِ اللبنةِ الأُوْلى باستيعاب الفقهِ وأصولِه، وبالإلمامِ بمسائلِهما
(3)
، والتأسيسِ على الوجهِ الصحيحَ، إضافةً إلى تعويدِ الدارسِ في المذهب على الدّقةِ في فهمِ اصطلاحاتِ الفقهاءِ والأصوليين وألفاظِهم
(4)
.
ونظرًا لإمكانِ دراسةِ علمِ الفقهِ - على وجهِ الخصوصِ - بطُرُقٍ عدّة غير التفقه المذهبي، فأمامَ الطالب في هذه الحالِ عددٌ مِن الطرقِ، أهمّها طريقان:
الطريق الأول: دراسةُ الفقهِ عن طريقِ التفقه على كتبِ شروحِ الحديثِ
(5)
.
الطريق الثاني: دراسةُ الفقهِ عن طريقِ التفقهِ على كتبِ الفقهِ للمستقلين عن المذاهب الفقهية
(6)
.
الطريق الأول: دراسةُ الفقهِ عن طريقِ التفقه على كتبِ شروحِ الحديثِ.
إذا سَلَكَ الطالبُ في دراسةِ الفقهِ التفقه على كتب شروحِ الحديثِ - كشروحِ الكتبِ الستةِ وشروحِ أحاديثِ الأحكامِ - فإنَّ هذا الطريقَ، وإن استفاد سالكُه كثيرًا مِن الفوائد المتناثرةِ، ليس بطريقٍ للتأسيسِ في الفقهِ؛
(1)
انظر: دراسة تحليلية مؤصلة لتخريج الفروع على الأصول لجبريل ميغا (ص/ 72).
(2)
انظر: مقدمة المعتني بكتاب الفكر السامي للحجوي (1/ 4).
(3)
انظر: مقدمة تحقيق تسهيل المسالك للأحسائي (1/ 112).
(4)
انظر: مقدمة المعتني بكتاب الفكر السامي للحجوي (1/ 8).
(5)
انظر: الطريق إلى الفقه للدكتور حمد الشتوي (ص/ 38).
(6)
انظر: المصدر السابق (ص/ 36).
لأنَّه لا يَحْصُل مع دراسةِ الفقهِ عن هذا الطريقِ حصرُ المسائلِ، وتقييدُ أحوالِها، وما يتصل بها من تقسيمات، ونحو ذلك
(1)
.
ومِنْ جهةٍ أخرى: فإنَّ كثيرًا مِنْ شراحِ كتب الحديثِ قد أخذوا الأحكامَ المبثوثةَ في شروحِهم مِنْ مذاهبِهم الفقهية
(2)
.
وأيضًا: فإنَّ المتّبعَ لهذا الطريقِ سيفوته كثيرٌ مِن المسائل التي لم يذكرْها شراحُ الحديثِ، إمَّا لعدمِ مناسبةِ ذكرِها، وإمَّا طلبًا للاختصارِ.
يقولُ الشيخ محمدٌ مخلوف: "إنْ قال قائل: أَمَا نكتفي بكتبِ الحديثِ وشروحِها، وقد تضمنتْ فروعَ الفقهِ؟ فما الحاجةُ إلى كتبِ الفروعِ؟
قلنا له: ذلك حَسَنٌ، لو أنَّ كتبَ الحديثِ وشروحه متضمّنةٌ لفروعِ الفقهِ على وجهٍ فيه الكفايةُ، وليس كذلك؛ إذ أهلُ الحديثِ لم يُعْنَوا في بيانِ أحاديثِ الأحكامِ بما عُنِيَ به الفقهاءُ مِنْ بذلِ مجهودِهم في شرحِ تلك الأحاديثِ بالنظرِ الأصولي في المآخذِ الشرعيةِ - كتابًا وسنةً - نَظَرًا جاريًا على ما تقتضيه قوانينُ الاجتهادِ
…
ولو أنَّ شارحًا مْنِ شُرّاحِ الحديثِ نَظَرَ في متنِه حَسبَ ما تقتضيه علومُ اللغةِ العربيةِ، وأَخَذَ منه حُكمًا شرعيًا، ولم يكن مِن المجتهدين: لا يُعوَّل على أَخْذِه، إلا إذا رَجَعَ إلى كتب الفقهِ؛ ليَعْلَمَ منها ما في هذا الحديثِ مِن الموافقةِ أو المخالفةِ لقواعد الشرَيعةِ"
(3)
.
الطريق الثاني: دراسةُ الفقهِ عن طريقِ التفقه على كتبِ الفقهِ للمستقلين عن المذاهب الفقهية.
قد يرغبُ بعضُ الطلاب بدراسةِ الفقه متحررًا مِنْ قيودِ المذاهبِ الفقهيةِ، فيقعُ اختيارُهم على مؤلفاتِ بعضِ العلماء الذين استقلوا عن المذاهبِ المتبوعةِ، فلم ينتسبوا إلى واحدٍ منها.
(1)
انظر: المصدر السابق (ص/ 38).
(2)
انظر: المصدر السابق.
(3)
بلوغ السول (ص/ 129 - 130).
ومِنْ أمثلةِ هذا الطريقِ: كتابُ (الدرر البهية في المسائل الفقهية) للإمامِ محمد الشوكاني.
وحقيقةُ هذا الطريقِ لا تختلفُ عن حقيقةِ التفقه على أحدِ المذاهبِ الأربعة، لكنْ يُرَجِّحُ التفقه عن طريقِ المذاهبِ الفقيهة المتبوعة على هذا الطريقِ أمورٌ، منها:
الأمر الأول: أنَّ كتبَ المذاهب المتبوعةِ مخدومة خدمةً متكاملةً، مِنْ حيثُ شروحُها، ولغتُها، وأدلتُها، والإجابةُ عما يَرِدُ عليها مِنْ إشكالاتٍ
(1)
، وغير ذلك، والكتب المقصودة لأهلِ الطريقِ الثاني:(دراسةُ الفقهِ عن طريقِ التفقه على كتبِ الفقهِ للمستقلين عن المذاهبِ الفقهية) تفتقد هذه الخدمة
(2)
.
الأمر الثاني: وُجِد مَنْ يجيدُ تدريس كتبِ المذاهبِ الفقهيةِ المتبوعة على أتمِّ وجهٍ، أمَّا كتب الطريق الثاني:(دراسةُ الفقهِ عن طريقِ التفقه على كتبِ الفقهِ للمستقلين عن المذاهبِ الفقهية)، فإنَّها تفتقدُ المدرسين لكتبها، ممَّنْ يتقنُ شرحَها، وفكَّ عبارتِها، وحل مشكلاتِها على الوجهِ الصحيحِ
(3)
.
الأمر الثالث: أنَّ كتبَ المذاهبِ الفقهيةِ المتبوعةِ يُعْلَم مرادُ مؤلفيها على وجه الدّقةِ، بخلافِ كتب الطريق الثاني:(دراسة الفقهِ عن طريقِ التفقه على كتبِ الفقهِ للمستقلين عَن المذاهبِ الفقهية)، فإنَّ مرادَ مؤلفيها قد لا يُعلم على وجهِ الدّقةِ في عددٍ ليس بالقليلِ مِن المسائل
(4)
.
(1)
للاطلاع على مثال لعناية العلماء بالإجابة عن الإشكالات الواردة في مذهبهم، انظر: قضاء الأرب في أسئلة حلب لتقي الدين السبكي (ص/ 236 وما بعدها، 252، 391).
(2)
انظر: الطريق إلى الفقه للدكتور حمد الشتوي (ص/ 37).
(3)
انظر: المصدر السابق.
(4)
انظر: المصدر السابق. وذكر محقق كتاب: الدرر البهية في المسائل الفقهية للشوكاني (ص/ 27) أنَّ من الانتقادات الموجه إلى الكتاب إجمال الشوكاني الحكم في بعض المسائل الخلافية، وعدم الجزم بحكم بيّنٍ، كقوله: "وله
…
"، "وعليه
…
"، "ويشرع
…
"، بحيث لا تُعلم درجة الحكم على وجه اليقين.
الأمر الرابع: أنَّ سلوكَ العلمِ عن طريقِ المذاهب الفقهيةِ المتبوعةِ هو طريقةُ أهلِ العلمِ في الجملة
(1)
، وهذه شهادةُ صدقٍ علَى صحةِ الطريقِ لمنْ أحسنَ سلوكَه، بخلافِ كتب الطريق الثاني:(دراسة الفقهِ عن طريقِ التفقه على كتبِ الفقهِ للمستقلينَ عن المذاهبِ الفقهية)، فلم يتخرّجْ فيها مَنْ يضاهي أربابَ المذاهبِ الفقهيةِ المتبوعةِ.
* * *
(1)
انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 63).