الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: تجنب التناقض في الاختيار بين الأقوال
لقد كانتْ عنايةُ أتباعِ المذاهبِ الفقهيةِ الأربعةِ بمذاهبِهم عنايةً فائقةً؛ إذ أسسوا أصولَها، وبيَّنوا قواعدَها وضوابطَها.
ولا شكَّ في أنَّ مآخذ
(1)
المسائلِ - وإن اختلفتْ أبوابُها - قد تكون متقاربةً أو متحدةً، بحيثُ يكون حكمُ هذه المسائلِ واحدًا.
وعنايةُ المتمذهبين واهتمامُهم بهذا الجانبِ واضحةٌ جليةٌ في مدوّناتهم المذهبيةِ، ولا سيما ما جاءَ في كتبِ القواعدِ والضوابطِ الفقهيةِ.
وتُجَنِّبُ مراعاةُ القواعدِ والضوابطِ المذهبيةِ المتمذهبَ مِن الوقوعِ في التناقضِ في أقواله
(2)
، بحيثُ لا يحكم على فرعيين فقهيين - متشابهين في الصورة أو مختلفين - مأخذهما واحدٌ، بحكمينِ مختلفينِ؛ إذ هذه القواعدُ كفيلةٌ بتجنيبِ المتمذهبِ مِن الوقوعِ في التناقضِ.
ومِنْ جهةٍ أخرى: فإنَّ غالبَ الفقهِ المذهبي الذي دوّنه علماءُ المذهبِ سالمٌ مِن الوقوعِ في شَرَكِ التناقضِ.
وسأضرب مثالًا يتضح منه المقصود: إذا تعارضَ عند المكلّفِ صلاةُ
(1)
المآخذ: الأدلة على الشيء، أو علته التي من أجلها كان حكمه. انظر: القواعد الفقهية للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 75)، والقواعد والضوابط الفقهية القرافية للدكتور عادل قوته (1/ 282)، وعلم القواعد الشرعية للدكتور نور الدين الخادمي (ص/ 332)، والميسر في علم القواعد الفقهية له (ص/147).
(2)
انظر: القواعد الفقهية للدكتور علي الندوي (ص/ 291). وللاطلاع على تناقض بعض من ترك التمذهب انظر: منهج البحث والفتوى لمصطفى الطرابلسي (ص/ 289 وما بعدها).
ركعتين طويلتين، وصلاةُ أربعِ ركعات في زمنٍ واحدٍ، فأيّهما أفضل؟ وأيّهما أفضل: قراءة القرآن بتدبّر وتفكّر، أم قراءة قدرِ أكبر في زمنٍ واحدٍ؟
مناطُ هاتين المسألتين واحدٌ، وهو: إذا تقابلَ عملانِ أحدُهما ذو شرفٍ ورفعةٍ في نفسِه، وهو واحدٌ، والآخرُ ذو تعددِ في نفسِه وكثرةٍ، فأيّهما أفضل؟ وأيّهما المرجح؟
(1)
.
فإذا عَرَفَ المتمذهبُ قاعدةَ مذهبِه سَلِمَ مِن الوقوع في التناقضِ في أقوالِه.
وأيضًا: يَتَجَنّبُ المتمذهبُ الحكمَ بحكمِ واحدٍ على فرعين فقهيين متشابهين في الصورة، دون المأخذِ.
ولا يوحي ما بيّنتُه آنفًا أنَّ أقوالَ المذهب - أو اختياراتِ بعضِ المتمذهبين - خاليةٌ مِن التناقضِ، بلْ الأمرُ واردٌ، لَكنْ عنايةُ أتباعِ المذهبِ بالتنبيهِ على أمثالِ هذه المسائلِ، وبيانِ التناقض وكشفِه قائمةٌ
(2)
.
(1)
انظر القاعدة وأمثلتها في: تقرير القواعد لابن رجب (1/ 130 - 141).
(2)
من الأمثلة على عناية أرباب المذهب بدفع ما يوهم التناقض في مذهبهم: ما قال القرافي في: الأمنية في إدراك النية (ص/ 32 - 33): "وقع في المذهب إطلاقات متناقضة: قال الأصحاب: صريح الطلاق وغيره غيرُ محتاجٍ للنية اتفاقًا. وقال صاحب المقدمات في كنايات الطلاق: صريح الطلاق مفتقرٌ إلى النية اتفاقًا. وقال اللخمي في الإكراه على الطلاق: في افتقار الصريح إلى النية قولان: أصحهما: أنَّه لابُدَّ في الصريح من النية
…
هذه إطلاقات متناقضة، لا يجتمع منها اثنان، بل متى صدق أحد هذه الثلاثة كذب اثنان منها، وتحقيقهما:
…
حيث قالوا: الصريح لا يفتقر إلى النية اتفاقًا، معناه: أنَّ الصريح لا يفتقر في إرادة مدلوله إلى نية
…
بل ينصرف بصراحته لمدلوله
…
ومعنى قولهم: إنَّ الصريحَ يفتقر إلى النية اتفاقًا، أي: لا بُدَّ في الصريح مِن القصدِ إلى إنشاءِ الصيغة؛ حَذرًا ممن يقول: يا طارق، فقال: يا طالق
…
فلا تناقض بين اشتراط النية في إرادة النطق، وبين عدم اشتراطها في انصراف اللفظ لمدلوله بعد النطق
…
". (وقع في المطبوع تصحيف، وقد صححته من الطبعة التي اعتنى بها الدكتور محمد المنيع (ص/ 42). وانظر: الفروق للقرافي (2/ 296 - 298).
وقد اعتنى جمال الدين الإسنوي ببيان ما وقع فيه الرافعي والنووي من التناقض في بعض الأحكام - وهي قليلة - فألف كتابًا بعنوان: (جواهر البحرين في تناقض الحبرين)، وقد طبع مختصره.
وقد أشارَ تقيُّ الدين السبكي إلى المعنى آنف الذكرِ، فقالَ: "وكم مِنْ واحدٍ متمسكٍ بالقواعد، قليلِ الممارسةِ للفروعِ ومآخذِها، يَزِّلُ في أدنى المسائلِ، وكم مِنْ آخر مستكثرٍ في الفروعِ ومداركِها، قد أفرغ جمامَ ذهنِه فيها، غَفَلَ عن قاعدةٍ كليةٍ، فتخبّطتْ عليه تلك المداركُ، وصارَ حيران
…
"
(1)
.
وفي المعنى ذاتِه يشيرُ شهابُ الدين القرافيّ إلى أهميةِ الاستعانةِ بالقواعدِ الكليةِ؛ ليتجنبَ الناظرُ الوقوعَ في التناقضِ، فيقول عنها: "هذه القواعدُ مهمّةٌ في الفقهِ، عظيمةُ النفعِ، بها يَعْلُو قدرُ الفقيه
…
ومَنْ جَعَلَ يخرّجُ الفروعَ بالمناسباتِ الجزئيةِ دونَ القواعدِ الكليةِ، تناقضتْ عليه الفروعُ واختلفتْ، وتزلزلتْ خواطرُه واضطربتْ، وضاقتْ نفسُه لذلك وقَنِطَتْ، واحتاجَ إلى حفظِ الجزئياتِ التي لا تنتهي
…
ومَنْ ضَبَطَ الفقهَ بقواعدِه استغنى عن حِفظِ أكثرِ الجزئيات؛ لاندراجِها في الكليات، واتَّحدَ عنده ما تناقضَ عند غيرِه، وتَنَاسَب"
(2)
.
وإذا صحَّ تَوَجُّه كلام القرافي إلى المتمذهبِ الذي يُعْنَى ببيانِ أحكامِ الجزئياتِ، دون التفاتٍ منه إلى قواعد الفقهِ وضوابطِه، فَتَوَجُّهُه إلى غيرِه ممَّنْ لم يبلغْ درجةَ الاجتهاد من بابٍ أولى.
ويقولُ الحافظ ابنُ رجبٍ عن القواعد والضوابطِ المذهبيةِ في فاتحةِ كتابِه: (تقرير القواعد وتحرير الفوائد)
(3)
: "تضبطُ للفقيهِ أصولَ المذهبِ، وتُطْلِعُه مِنْ مآخذِ الفقهِ على ما كان قد تَغَيّب، وتُنَظّم له منثورَ المسائلِ في سلكٍ واحدٍ، وتقييد له الشواردَ، وتقرّب له كلَّ متباعدٍ".
وأيضًا: يَتَجَنّبُ المتمذهبُ الوقوعَ في التناقضِ في تطبيقِ القواعدِ الأصوليةِ، فيسيرُ على أصولِ الاستنباطِ سيرًا مطردًا غيرَ متناقضٍ.
(1)
نقل تاجُ الدين السبكي كلامَ والده تقي الدين في: الأشباه والنظائر (1/ 309). وانظر: القواعد الفقهية للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 116 - 117).
(2)
الفروق (1/ 62 - 63).
(3)
(1/ 4).
فإذا أَخَذَ المتمذهبُ بقاعدةِ مِنْ قواعدِ مذهبِه الأصوليةِ، كحجيةِ القراءةِ الشاذة مثلًا، وطبّقها على الفروعِ الفقهيةِ، فأنَّه يسلمُ بذاك مِن اضطرابِ الأصولِ حين إرادة الاستنباطِ.
* * *