الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: تعريف الحيل في الاصطلاح:
لقد عُرِّفت الحيل في الاصطلاحِ بتعريفاتٍ عدةٍ، ومِنْ أشهرِها:
التعريف الأول: أنْ يقصدَ المكلّفُ سقوطَ الواجبِ أو حِلَّ الحرامِ بفعلٍ لم يَقصدْ به ما شُرِعَ الفعلُ له. وهذا تعريفُ تقي الدين بنِ تيمية
(1)
.
التعريف الثاني: التّوصّلُ إلى الغرضِ الممنوعِ منه شرعًا، أو عقلًا، أو عادةً. وهذا تعريفُ ابنِ القيّمِ
(2)
.
التعريف الثالث: تقديمُ عملٍ ظاهرُه الجوازُ؛ لإبطالِ حكمٍ شرعي، وتحويله في الظاهرِ إلى حكمٍ آخر. وهذا تعريفُ أبي إسحاقَ الشاطبي
(3)
.
وهذه التعريفات متقاربةٌ مِنْ حيثُ المعنى، يكاد معناها أنْ يكونَ واحدًا.
ولن أتحدث في هذا المبحث عن نشأةِ الحيل، وأقسامِها، وحُكمِها، وضابطِ الحيل المباحةِ، والحيلِ المحرمةِ، فهذا له مقامٌ آخر، وسأقتصرُ في حديثي هنا على بيانِ أنَّ مِنْ آثارِ التمذهبِ ظهورَ الحيل عند بعضِ المتمذهبين.
لمَّا ظَهَرَت المذاهبُ الفقهيةُ، وأضحتْ منتشرةً بين أصنافِ المتعلمين كافةً، ازدادَ تمسكُ الناسِ بها، والتزمَ كثيرٌ مِن المفتين الإفتاءَ بها، وشدّد آخرون، فلم يجوّزوا الخروجَ عنها
(4)
؛ لئلا يقعَ الناسُ في التلفيقِ بين المذاهبِ.
(1)
انظر: بيان الدليل (ص/ 26).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (4/ 188).
(3)
انظر: الموافقات (5/ 187). وللاستزادة من تعريفات الحيلة، انظر: بحوث فقهية مقارنة للدكتور محمد الدريني (1/ 415)، والحيل في الشريعة الإسلامية لمحمد بحيري (ص/ 19)، والحيل وأثرها في الأحوال الشخصية للدكتور إيهاب أبو الهيجاء (ص/ 20 - 29)، والحيل الفقهية للدكتور صالح بو بشيش (ص / 19 - 28)، والحيل الفقهية في المعاملات لمحمد بن إبراهيم (ص/ 17 - 21)، والحيل الشرعية لنشوة العلواني (ص/ 23).
(4)
انظر: تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص/ 180).
وإذا كانَ بعضُ علماءِ المذاهبِ مقتنعين بعدمِ جوازِ الخروجِ عن المذهبِ، ولزومِ الإفتاءِ به، فإنَّ الغالبَ في شأنِهم أنْ لا يفتوا الناسَ إلا بالمذهبِ، وإذا كان في الإفتاءِ به حرجٌ ومشقةٌ بالغين، فإنَّ بعضَ المفتين يجنحُ إلىَ حيلةٍ يرى أنَّها تُخرج المستفتي مِن الحرجِ والمشقة اللذين وَقَعَا عليه، دون الخروجِ عن المذهبِ، مع العلمِ أنَّه بإمكانِ العالمِ أنْ يُفتي بغيرِ مذهبِه - إمَّا لرجحانِه وإمَّا للضرورةِ ونحو ذلك - دونَ الجنوحِ إلى الحيل، فبَدَلًا مِنْ أنْ يحافظَ المفتي على هيبةِ المذهبِ
(1)
، فليحافظْ على هيبةِ الشرعِ
(2)
.
يقولُ تقيُّ الدين بن تيمية مُبَيّنًا حالَ مَنْ يُشدّد على نفسِه: "إنَّه لا بُدَّ أنْ يضطرَ إلى إجازةِ ما حرّمه: فإمَّا أنْ يخرجَ عن مذهبِه الذي يُقلِّده في المسألةِ، وإمَّا أنْ يحتالَ"
(3)
.
ويبيّن في موضعٍ آخر أنَّه لما شاعَ في الأُمةِ اليمينُ بالطلاقِ، وانتشرَ انتشارًا عظيمًا، واعتقدَ كثيرٌ مِن الناسِ أنَّ الطلاقَ يقعُ بهذه اليمينِ لا محالةَ، وفي إيقاعِ الطلاقِ بها حرجٌ ومشقةٌ على الناسِ: نَشَأَ عن التزامِ هذا القولِ أنواعٌ من الحيلِ التي لا يقعُ بها الطلاقُ، ولا يُفتى فيها بما عدا المذهب
(4)
.
وبيَّن تقيُّ الدين أنَّه ليس في القرآنِ الكريمِ، ولا في السنةِ المطهرةِ، ولا في فتاوى الصحابةِ رضي الله عنه لزومُ الطلاق في هذه الحالة
(5)
.
وليس الباعثُ على ظهورِ الحيلِ وانتشارِها محصورًا في أمرٍ واحدٍ، بل هناك عدّةُ أمورٍ ساعدتْ على ظهورها، ويأتي في مقدمتِها: التزامُ المذهبِ، وعدم الخروجِ عنه.
(1)
انظر: عدة البروق للونشريسي (ص/ 542).
(2)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (35/ 298).
(3)
القواعد الكلية (ص/ 258).
(4)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (35/ 290).
(5)
انظر: المصدر السابق (35/ 296).