الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: التوصل إِلى حكم النازلة بتخريجها على فروع المذهب
مِن الطرقِ الَّتي سارَ عليها كثيرٌ مِن المتمذهبين لبيانِ حكمِ النازلةِ الَّتي لم يَرِدْ عن إِمامِ المذهبِ قولٌ بشأنِها: تخريجُ حكمِها على ما نصَّ الإِمامُ على حكمِه، أو على فروعِ المذهبِ.
والمقصودُ بتخريجِ حكمِ النازلةِ على فروعِ المذهبِ: أنْ يبيّنَ المتمذهبُ حكمَ النازلةِ الَّتي لم يَنُصّ إِمامُ مذهبِه عليه بإِلحاقِها بما يشبهها مِنْ فروعِ المذهبِ عند اتفاقِهما في علَّةِ الحكمِ عند المخرِّجِ
(1)
.
ويفتقر تخريجُ حكمِ النازلةِ على فروعِ المذهب إِلى الأمرين السابقين اللذين ذكرتُهما في: المبحثِ الأولِ، إِلَّا أنَّه يُقالُ في الأمر الأول: أنْ يكونَ الفرعُ المخرَّجُ عليه ثابتَ النسبةِ إِلى إِمامِ المذهبِ، أو إِلى مذهبِه.
فإِن كانَ في ثبوتِ حكمِ الفرعِ المخرَّجِ عليه في المذهب نظرٌ، فالواجبُ توقّي التخريج عليه
(2)
.
ولُبُّ عملِ المتمذهبِ في هذه الحالةِ هو قياسُ النازلةِ على الفرعِ المنصوصِ على حكمِه في المذهب، وقد سبق الحديثُ عن حكمِ نسبةِ القولِ إِلى إِمامِ المذهبِ بناءً على القياسِ على قولِه.
(1)
انظر: كشف النقاب الحاجب لابن فرحون (ص/ 104)، والإِنصاف (1/ 6)، والتخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 187) والمدخل المفضل إِلى فقه الإمام أحمد (1/ 280)، وأصول الفتوى والقضاء للدكتور محمد رياض (ص/ 577)، وتخريج الفروع على الأصول لعثمان شوشان (1/ 65)، والفتوى في الشريعة الإِسلامية لعبد الله آل خنين (1/ 358)، والتكييف الفقهي للدكتور محمد شبير (ص/ 21).
(2)
انظر: المدخل المفصَّل إِلى فقه الإِمام أحمد (1/ 120).
وبما أنَّ عملَ المتمذهب في هذه الحالةِ يحتاجُ إِلى فَهْمِ كلامِ إِمامِه في الفرعِ المنصوصِ عليه على الصوابِ، ومِنْ ثَمَّ التخريجُ والقياسُ عليه: فإِنَّ مِن المتعيِّن عليه معرفةَ أصولِ الفقهِ
(1)
، وأهمُّ مباحثِه: القياسُ ومسائله
(2)
؛ لئلا يَقَعَ المتمذهبُ في الخطأِ، كانْ يقيسَ النازلةَ على فرعٍ مع وجودِ الفارقِ بينهما
(3)
.
يقولُ شهابُ الدين القرافي: "لا يجوزُ التخريجُ حينئذٍ إِلَّا لمن هو عالمٌ بتفاصيلِ أحوالِ الأقيسةِ والعللِ، ورُتَب المصالح، وشروط القواعدِ، وما يصلحُ أنْ يكونَ معارضًا، وما لا يصلحُ، وهذا لا يعرفُه إِلَّا مَنْ عَرَفَ أصولَ الفقهِ معرفةً حسنةً"
(4)
.
ونصَّ القرافيُّ على أن مَنْ لم يحطْ بمداركِ إِمامِه وأدلتِه وأقيستِه وعللِه الَّتي اعتمدَ عليها مفصَّلةً، ورُتَبِ العلل: فليس له التخريجُ على فروعِ إِمامِه
(5)
.
يقولُ ابنُ الصلاحِ: "فالمجتهدُ في مذهبِ الشَّافعي - مثلًا - المحيطُ بقواعدِ مذهبِه، المتدرِّب في مقاييسِه وسُبُل تصرفاته، متنزِّلٌ
…
في الإِلحاق بمنصوصاتِه وقواعد مذهبِه منزلةَ المجتهدِ المستقلِّ في إِلحاقِه ما لم ينصَّ عليه الشارعُ بما نصَّ عليه"
(6)
.
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 95)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 43)، وصفة الفتوى (ص/ 21)، ومواهب الجليل للحطاب (6/ 96)، ومنهج الخلاف للدكتور عبد الحميد عشاق (1/ 381).
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 95)، والفروق للقرافي (2/ 200، 203)، ومواهب الجليل للحطاب (6/ 96)، ومنهج الخلاف للدكتور عبد الحميد عشاق (1/ 381).
(3)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 97)، والفروق للقرافي (2/ 201)، وصفة الفتوى (ص/ 21)، وترتيب فروق القرافي للبقوري (ص/ 226)، والمسودة (2/ 968).
(4)
الفروق (2/ 202).
(5)
انظر: المصدر السابق (2/ 200)، وترتيب فروق القرافي للبقوري (ص/ 225).
(6)
أدب المفتي والمستفتي (ص/ 96). وانظر: صفة الفتوى (ص / 19 - 20).
ولا بُدَّ للمتمذهب إِذا أراد تخريجَ حُكْمِ النازلةِ على فروعِ المذهبِ أنْ يكونَ شديدَ الاستحضارَ للقواعدِ المذهبيةِ والإِجماعيةِ
(1)
.
وتخريجُ حكمِ النازلةِ على فروعِ المذهب دونَ مراعاةٍ لأصولِه وقواعدِه مظنةٌ للخروجِ بحكمِ النازلةِ عمَّا تقتضيه أصولُ المذهبِ
(2)
.
وقد ذكرتُ في المبحثِ الأولِ ما أشارَ إِليه شهابُ الدين القرافي مِنْ أنَّ بعضَ المخرِّجين في مذهب الإِمامِ مالك وغيرِه مِن المذاهبِ لم يسلموا مِن الوقوعِ في الخطأِ في التخرَيجِ
(3)
.
وإِذا أَشْبَهَت النازلةُ أكثرَ مِنْ فرعٍ ألحقها المتمذهبُ بالفرعِ الأقرب شَبَهًا، كما إِذا أَشْبَهَت النازلةُ أكثرَ مِنْ أصلٍ ألحاقها بأكثرِ الأصولِ شَبَهًا
(4)
.
وقد ظَهَرَ لي مِنْ خلالِ تأمّلِ عددٍ مِن المواطنِ الَّتي كَشَفَ المتمذهبون فيها عنْ حكمِ النازلةِ، أنَّ تخريجَهم حكم النازلةِ على الفروعِ أكثرُ مِن تخريجهم حكمها على أصولِ المذهبِ.
وفي كلامٍ لابنِ الصلاحِ يشيرُ فيه إِلى تقديمِ التخريجِ على فروعٍ المذهبِ على التخريجِ على أصوله، يقولُ:"تخريجه - أي: المخرِّج - تارة يكونُ مِنْ نصٍّ معيِّنٍ لإِمامِه في مسألةٍ معينةٍ، وتارةً لا يجد لإِمامِه نصًّا معينًا يخرِّجُ منه، فيخرِّج على وفقِ أصولِه"
(5)
.
(1)
انظر: الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي (ص/ 243)، ومواهب الجليل للحطاب (6/ 92)، ومنار أصول الفتيا للقاني (ص/ 328)، والمدرسة المالكية العراقية للدكتور عبد الفتاح الزنيفي (1/ 582) ضمن بحوث الملتقى الأول للقاضي عبد الوهاب المالكي.
(2)
انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (8/ 109)، ومواهب الجليل للحطاب (6/ 94)، ونشر البنود (2/ 334).
(3)
انظر: الفروق (1/ 316).
(4)
انظر: ابن حنبل - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 321).
(5)
أدب المفتي والمستفتي (ص/ 97). وانظر: المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 43 - 44)، وصفة الفتوى (ص / 20)، والمسودة (2/ 967 - 968).
ولعلَّ مردّ هذا الأمر عائدٌ إِلى أنَّ احتمالَ الغلطِ في تخريجِ حكمِ النازلةِ على فرعٍ منصوصٍ على حكمِه أقلُ مِن احتمالِه في تخريجِ النازلةِ على أصلٍ مِنْ أصولِ المذهبِ.
ومِنْ جهةٍ أخرى: لعلَّ التخريجَ على فروعِ المذهبِ أيسرُ مِن التخريجِ على أصولِه.
وبما أنَّ تخريجَ حكمِ النازلةِ على فروعِ المذهبِ قائمٌ على أساسِ قياسِ المخرِّجِ لها على فروعِ المذهبِ، فإِنَّ احتمالَ اختلافِ مخرِّجي المذهبِ الواحدِ في حكمِ النازلةِ احتمالٌ قويٌّ
(1)
.
يقولُ الشيخُ محمد أبو زهرة عن عملِ المخرِّجين: "مِن الطبيعي أنْ يختلفوا في تخريجِهم وأقيستهم، كما اختلفَ أئمةُ المذهبِ في استنباطِهم الأول"
(2)
.
ولعلَّ مِنْ أسباب اهتمامِ بعضِ العلماءِ بذكرِ التنبيهاتِ والضوابط لتخريجِ حكمِ النازلَةِ على فروعِ المذهب ما رأوه مِنْ تساهلِ بعضِ المتمذهبين في إِلحاقِ بعضِ النوازلِ بأيّ مسَألةٍ تشبهها في المذهبِ، دونَ مراعاةٍ لضوابطِ التخريجِ
(3)
.
وممَّا لَفَتَ نظري في هذا المبحث أنَّ الجانبَ النظري لمسألةِ: (تخريج النازلة على فروع المذهب) كأنَّه بمعزلٍ عن الجانبِ التطبيقي لها، بمعنى: أنَّ المذاهبَ حوتْ تخريجَ حكمِ النازلةِ على فروع المذهب، وعالجتْ حكمَها بهذا الطريقِ، دون أنْ يُثرِّبَ على المخرِّجين أَحدٌ، ولمَ يقتصر الأمرُ
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 98)، والمجموع شرح المهذب للنووي (1/ 44)، وصفة الفتوى (ص/ 22)، والمسودة (2/ 968).
(2)
أبو حنيفة - حياته وعصره (ص/ 395). وانظر: مالك - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 360).
(3)
ذكر محمد الزبيدي في: إِتحاف السادة المتقين (1/ 285) شيئًا من تساهل بعض المتمذهبين في التخريج على فروع المذهب، وسمى هؤلاء بحشوية الفروع.
على هذا الحدِّ، بلْ تجاوزه إِلى مخالفةِ نصِّ إِمامِ المذهبِ بالنقلِ والتخريجِ، في حين أنَّ خلافَ العلماءِ في مسألةِ:(القياس على قول إِمام المذهب) خلافٌ مشهورٌ، والقولُ بالمنعِ - عند عدم النصِّ على العلةِ - قولٌ قويٌّ.
ويشهد لما قلته آنفًا:
- ما ذكره ابنُ حمدان بقولِه: "يجوزُ له - أي: للمخرِّج - أنْ يفتي فيما لم يجدْه مِنْ أحكامِ الوقائعِ منصوصًا عليها عن إِمامِه لما يخرِّجه على مذهبِه، وعلى هذا العملُ لا
(1)
.
- وما قاله ابنُ عرفة حين ردَّ على مَنْ مَنَعَ تخريجَ النازلة على الفروع: "إِذا كانَ حكمُ النازلةِ غيرَ منصوصٍ عليه، ولم يجز للمقلِّد المولَّى
(2)
- أي: المولَّى القضاء - القياسُ على قولِ مقلَّدِه في نازلة أخرى: تعطلت الأحكامُ، وبأنَّه - أيْ: عدم تخريجِ النازلةِ على الفروعِ - خلافُ عملِ متقدمي أهلِ المذهبِ"
(3)
.
- وما قاله المرداويُّ عن النقلِ والتخريجِ عند الحنابلةِ: "كثيرٌ مِن الأصحاب متقدميهم، ومتأخريهم على جوازِ النقلِ والتخريجِ، وهو كثيرٌ في كلامِهم في المختصراتِ والمطولاتِ"
(4)
.
وكان للمذاهب الفقهيةِ اصطلاحُها الَّذي يخصّها في تسميةِ الحكمِ الَّذي توصلَ إِليه المخَرِّجُ عن طريقِ تخريجِ حكمِ النازلةِ على فروعِ مذهبِه، وقد سَبَقَ بيانُ هذا الأمر في: مصطلحاتِ نقلِ المذهبِ.
ولقد بالغَ بعضُ المتمذهبين في معالجةِ النوازلِ بالتخريجِ على فروعِ المذهبِ دونَ اهتمامٍ بمحاولةِ طلبِ حكمِها مِن الأدلةِ الشرعيةِ وفق أصولِ
(1)
صفة الفتوى (ص/ 19).
(2)
ذكر ابن عرفة - كما نقل كلامَه الحطابُ في: مواهب الجليل (6/ 93) - أنَّ ما قاله في القضاء يطَّرد في الفتيا.
(3)
نقل الحطابُ كلامَ ابن عرفة في: المصدر السابق (6/ 92).
(4)
الإِنصاف (1/ 461).