الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: دعوى غلق باب الاجتهاد، ومحاربة من يدعيه
مِن الآثارِ السلبيةِ التي أسهمَ التمذهبُ في انتشارِها وتَمَسُّكِ المتمذهبين بها القولُ بإغلاقِ باب الاجتهادِ، ومحاربةِ مَنْ يدّعيه، فليس بإمكانِ أحدٍ أنْ يدّعي أنَّه يستنبطُ أحَكامَ المسائلِ بنَظَرِه في الأدلةِ الشرعيةِ، بلْ عليه النظرُ في المذهبِ - أو المذاهب المتبوعة - لمعرفةِ الحُكْمِ
(1)
.
والحديثُ عن إغلاقِ باب الاجتهادِ حديثٌ متشعبٌ، ولن أتحدثَ عن آثارِ القولِ بإغلاقِه، ولا عن مَسالةِ:(خلو العصرِ عن مجتهدٍ)، وإنْ كان كلام الأصوليين عنها يدلُّ على أثرِ التمذهب في القولِ بإغلاقِ بابِ الاجتهادِ في الشريعةِ عند القائلين بجوازِ خلوِ العصَرِ عن مجتهدٍ
(2)
.
إنَّ للقولِ بإغلاقِ باب الاجتهادِ أسبابًا عدّة، ويأتي في مقدمتِها: النزعةُ المذهبيةُ التي ترى أنَّ المتمذهبين مهما بلغوا مِن العلمِ، فلنْ يصلوا إلى علومِ السابقين
(3)
.
ويصفُ الشيخُ محمدٌ أبو زهرة الحالةَ العلميةَ في القرونِ التاليةِ لعصورِ الاجتهادِ الأُولى، فيقول: "اقتصرَ العناءُ على مراجعةٍ أقوالِ السابقين، ثمَّ
(1)
انظر: الفقه الإسلامي ومدارسه لمصطفى الزرقا (ص/ 101 - 102)، وبدعة التعصب المذهبي لمحمد عباسي (ص/22).
(2)
يقول الشيخ محمد أبو زهرة في: تاريخ المذاهب الإسلامية (ص/303): "إنَّ المذاهب المختلفة لم تستقبل فكرة غلق باب الاجتهاد بقدرٍ واحدٍ، فإذا كانت الفكرةُ قد لاقتْ في المذهبين: الحنفي والشافعي رواجًا، فإنها لم يكن لها مثل الرواج في المذهب المالكي، وإنْ كان للفكرة أثر فيه، أمَّا المذهب الحنبلي، فقد قرر فقهاؤه وجوبَ أنْ لا يخلو عصرٌ من العصور من مجتهد". وانظر: ابن حنبل - حياته وعصره له (ص / 321 - 322).
(3)
انظر: إعلام الموقعين (4/ 31 - 32).
جاءَ بعد ذلك في العصورِ المتأخرةِ مَنْ أغلقَ بابَ الاجتهادِ، مكتفيًا باجتهادِ الأئمةِ السابقين"
(1)
.
وينبغي التفريقُ بين الاجتهادِ المطلق المستقلّ، والاجتهادِ المطلق المنتسب:
فالاجتهادُ المطلقُ المستقلُّ طوي بساطُه، وأُغْلَق بابُه؛ لاستقرارِ الأصولِ التي سارَ عليها أئمةُ الاجتهادِ، فليس لأحدٍ أنْ يأتي بأصول مخترعةٍ لم يُسبق إليها
(2)
.
وفي هذا المقام يقولُ ابنُ الصلاح: "ومنذُ دهرِ طويلِ طوي بساطُ المفتي المستقل المطلقَ"
(3)
.
وقد نصَّ بدرُ الدين الزركشي على خلوِّ العصرِ عن المجتهدين المطلقين، ثمَّ نَقَلَ اتفاقَ المسلمين على انحصارِ الحقِّ في المذاهب المعروفةِ
(4)
، ولعله يقصدُ الاجتهادَ المستقلَّ.
أمَّا الاجتهادُ المطلقُ المنتسبُ فلم يُغْلقْ بابُه، وإنْ ادّعى بعضُ الناس أنَّه مغلقٌ.
يقولُ ابنُ الصلاح: "وأفضى أمرُ الفتوى إلى الفقهاءِ المنتسبين إلى أئمةِ المذاهبِ المتبوعةِ"
(5)
.
(1)
تاريخ المذاهب الإسلامية (ص/ 303).
(2)
انظر: مجلة المنار (4/ 692)، وشرائط الاجتهاد بين النظرية والتطبيق المعاصر للدكتور عبد المعز حريز، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد:(50)، (ص/ 272)، والاجتهاد بين مسوغات الانقطاع وضوابط الاستمرار للدكتور محمد ابن الشيخ (ص/ 43).
(3)
أدب المفتي والمستفتي (ص/ 91). وانظر: المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 43)، وأدب القضاء لابن أبي الدم (1/ 279)، وصفة الفتوى لابن حمدان (ص/ 17)، والبحر المحيط (6/ 207)، والفتاوى الكبرى الفقهية للهيتمي (4/ 302)، وفواتح الرحموت (2/ 399)، وغاية الأماني للألوسي (1/ 96)، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص/ 374)، ومجلة المنار (4/ 692)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (4/ 452)، وأصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1071).
(4)
انظر: البحر المحيط (6/ 209).
(5)
أدب المفتي والمستفتي (ص/ 91). وانظر: المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 43)، وصفة الفتوى لابن حمدان (ص/ 17)، والإنصاف في بيان سبب الخلاف للدهلوي (ص/ 31).
ولقد استنكرَ ابنُ حمدان عدمَ وجودِ المجتهدِ، وأشارَ إلى سببِ هذا الأمرِ، فقالَ: "ومنذُ زمنِ طويلِ عُدمَ المجتهدُ المطلقُ، مع أنَّه الآن أيسرُ منه في الزمنِ الأولِ؛ لأنَّ الحديثَ والفقهَ قد دُونا، وكذا ما يتعلق بالاجتهادِ مِن الآياتِ والآثارِ وأصولِ الفقهِ والعربيةِ، وغيرِ ذلك، لكنَّ الهممَ قاصرةٌ، والرغباتِ فاترةٌ، ونارَ الجدِّ والحذر
(1)
خامدةٌ؛ اكتفاءً بالتقليدِ، واستعفاءً من التعبِ الوكيدِ، وهَرَبًا مِن الأثقالِ
…
وهو فرضُ كفايةٍ، قد أهملوه وملّوه، ولم يَعقلوه؛ ليفعلوه"
(2)
.
ويقولُ جلالُ الدين السيوطي مفرِّقًا بين المجتهدِ المستقلِّ، والمجتهدِ المطلقِ: "لَهَجَ كثيرٌ مِن الناسِ اليومَ بأنَّ المجتهدَ المطلقَ فُقِدَ مِنْ قديمٍ، وأنَّه لم يوجدْ مِنْ دهرٍ إلا المجتهدُ المقيّدُ.
وهذا غلطٌ منهم، ما عرفوا كلامَ العلماءِ، ولا عرفوا الفرقَ بين المجتهدِ المطلقِ، والمجتهدِ المستقلِّ؛ ولا بين المجتهدِ المقيّدِ، والمجتهدِ المنتسبِ
(3)
، وبين كلّ ممَّا ذُكِرَ فرقٌ"
(4)
.
وفي كلامِ جلالِ الدّينِ السيوطي دلالةٌ على انتشارِ القولِ بإغلاقِ بابِ
(1)
كذا في: صفة الفتوى لابن حمدان (ص/ 17)، ويظهر لي أنَّ الكلمة محرفة، وصوابها:"الحرص".
(2)
المصدر السابق. وانظر: البحر المحيط (6/ 208)، وإرشاد الفحول (2/ 1038)، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص/ 374).
وقد علَّق ابنُ مفلح في: أصول الفقه (4/ 1554) على كلام ابن حمدان، فقال:"فيه نظر"، ولم يبيّن وجه النظر.
ويقول المرداوي في: التحبير (8/ 4069 - 4070) مبينًا كلام ابن مفلح: "وهو كما قال؛ فإنه وُجِدَ من المجتهدين بعد ذلك جماعةٌ، منهم: الشيخُ تقيُّ الدين بن تيمية، ونحوه، ومنهم: الشيخُ تقيُّ الدين السبكي والبلقينيُّ".
وهؤلاء بلغوا درجة الاجتهاد المطلق المنتسب، ولم يكونوا مستقلين.
(3)
في الطبعة التي رجعت إليها: "ولا المجتهد المنتسب"، وفد أثبت ما في: طبعة دار الكتب العلمية (ص/112)؛ لصحته.
(4)
الرد على من أخلد إلى الأرض (ص/ 93). وانظر: فيض القدير للمناوي (1/ 11)، وفواتح الرحموت (2/ 399)، وغاية الأماني للألوسي (1/ 83).
الاجتهادِ المطلقِ المنتسبِ؛ تمسكًا ببعضِ عباراتِ العلماءِ التي نصتْ على إغلاقِ بابِ الاجتهادِ المستقل.
لقد أسهم بعضُ المتمذهبين في القولِ بإغلاقِ بابِ الاجتهادِ في الشريعةِ؛ وكان السببُ في هذه الدعوى:
- إمَّا حفظًا للدِّين مِنْ أنْ يتكلمَ أو يفتي فيه مَنْ لا يوثق به، أو مَنْ لا يُحسنُ الكلام فيه، فيدّعي الاجتهادَ مَنْ ليس مِنْ أهلِه
(1)
.
يقولُ الشيخُ مصطفى الزرقا: "كان هذا الإقفالُ تدبيرًا وقائيًا حين لَحَظَ فقهاءُ المذاهب الأربعة
…
ضعفَ الوازعِ الديني لدى بعضِ العلماءِ أو المتعالمين، وَانفصالَ العلم عن تقوى الله تعالى، وصيرورةَ العلم أداةً لكسبِ المنافعِ الدنيويةِ
…
وفُقِدت الأمانةُ لدى بعضِ العلماءِ - ممَّا عُبِّرَ عنه بـ: فسادِ الزمانِ - فخشي فقهاءُ المذاهبِ أنْ تشوّه أحكام الشريعةِ وفقهها بما يصدرُ عن أمثالِ هؤلاءِ؛ تحتَ ستارِ الاجتهادِ، فأفتوا بعدمِ جوازِ الاجتهادِ مِنْ أحدٍ بعد القرنِ الرابعِ الهجري، وهذا ما سُمّي بإقفالِ بابِ الاجتهادِ"
(2)
.
(1)
انظر: مقدمة ابن خَلدون (3/ 1050)، وبلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ 14)، وأصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1073)، والاجتهاد والتقليد للدكتور محمد الدسوقي (ص/ 56)، والاجتهاد الجماعي للدكتور عبد المجيد السوسوه (ص/ 55)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور شوقي الساهي (ص/ 121)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور عبد الله الدرعان (ص/ 194)، وآثار اختلاف الفقهاء لأحمد الأنصاري (ص/ 125)، والمدخل لدراسة الشريعة للدكتور عبد الكريم زيدان (ص/ 124)، والاجتهاد في الفقه الإسلامي لعبد السلام السليماني (ص/ 321)، ومدخل لدراسة الفقه لمحمد محجوبي (ص/ 249)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عبد الودود السريتي (ص/ 122)، وسد باب الاجتهاد لعبد الكريم الخطيب (ص/ 137)، والتشريع الإسلامي للدكتور عبد الفتاح كبارة (ص/ 195)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور ناصر الطريفي (ص/ 150)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور حسن الشاذلي (ص/ 320)، وبلوغ الأماني للدكتور الحسن العلمي (ص/ 169)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور حسين حسان (ص / 113 - 114).
(2)
الفقه الإسلامي ومدارسه (ص/ 102 - 103).
- وإمَّا قناعةً مِن المتمذهبين وإعجابًا منهم واكتفاءً بما في مذهبِهم مِنْ ثروةٍ فقهيةٍ مستوعبةٍ وشاملةٍ لجمهورِ المسائلِ، تُغْنِي في نظرِهم عن الحاجةِ إلى الاجتهادِ
(1)
.
- وإمَّا تعصبًا مِنْ بعضِ المتمذهبين لمذهبِهم؛ لئلا يخرج عنه أحدٌ؛ بحجّةِ أنَّه مجتهدٌ
(2)
.
إضافةً إلى انشغالِ جمهورِ المتمذهبين بمذاهبِهم: بالتأليفِ والتبويبِ والتفريعِ والتأصيلِ والترجيحِ والانتصارِ لها، الأمر الذي جعلهم يبعدون عن الاجتهادِ شيئًا فشيئًا
(3)
.
(1)
انظر: المصدر السابق (ص/ 105)، وفقه إمام الحرمين للدكتور عبد العظيم الديب (ص/ 521)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور أحمد الحصري (ص/ 217)، والاجتهاد في الفقه الإسلامي لعبد السلام السليماني (ص/ 321)، وآثار اختلاف الفقهاء لأحمد الأنصاري (ص/ 125)، وشرائط الاجتهاد بين النظرية والتطبيق المعاصر للدكتور عبد المعز حريز، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد:(50)، (ص/ 269)، والفتوى - نشأتها وتطورها للدكتور حسين الملاح (ص/ 340)، وملامح الحوار المذهبي للدكتور رضوان غربية، بحوث الملتقى الأول: القاضي عبد الوهاب المالكي (2/ 213)، والاجتهاد للدكتور أحمد بوعود (ص/ 81)، وبين متبع ومقلد أعمى للدكتور عامر الزيباري (ص/ 52)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور محمد موسى (ص/ 61).
ومن الشواهد لهذا السبب: ما قاله الدكتور محمد الفرفور في كتابه: ابن عابدين وأثره في الفقه (2/ 978): "لا يذهبنَّ بك الوهمُ مِنْ دعوتنا للاجتهاد المذهبي هذا إلى تطاول منا على الدعوة للاجتهاد المطلق في الشريعة، فهذا خارجُ دائرة كل من المذاهب الأربعة، وهو ما يُعبّر عنه بالاجتهاد المطلق، مستبعدٌ كليًا، لا نراه، ولا ندعو إليه؛ لأننا لسنا بحاجة إليه أبدًا بعد استقرار المذاهب الأربعة المعروفة بمذاهب فقهاء الأمصار، كما أنَّ لنا بالاجتهاد المذهبي المضبوط بضوابط غُنيةً عن الاجتهاد المطلق، هذا الذي يجلب للمسلمين فوضى دينية، وفِتَنًا لا أول لها من آخر".
(2)
انظر: مناهج الاجتهاد للدكتور محمد مدكور (ص/ 415)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور أحمد الحصري (ص / 216، 227)، والمدخل المفصّل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 76)، والفتوى - نشأتها وتطورها للدكتور حسين الملاح (ص/ 340).
(3)
انظر: المدخل لدراسة الفقه للدكتور شوقي الساهي (ص/ 121)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور عبد الله الدرعان (ص/ 193).
وقد ادّعى ابنُ أبي الدم
(1)
أنَّ الله أعجزَ الخلائق عن بلوغِ درجةِ الاجتهادِ! وصَرَفَ هممهم عن دركِها وبلوغِها
(2)
.
يقولُ أبو شامةَ المقدسي حاكيًا حالَ بعضِ أربابِ المذاهبِ مع مَنْ يريدُ بلوغَ رتبةِ الاجتهادِ: "صاروا ممَّنْ يرومُ رتبةَ الاجتهادِ يَعْجَبُون، وله يَزْدَرُون"
(3)
.
وقد نَقَلَ أبو العباسِ الونشريسي كلامًا عن بعضِ الفقهاءِ
(4)
يصوّرُ حالَ بعضِ المتمذهبين الذين أغلقوا بابَ الاجتهادِ، فيقول: "وقد حكى الناسُ أنَّه لم يبلغْ في هذه الملةِ أحدٌ بعدَ الأئمةِ الأربعةِ رتبةَ الاجتهاد غير إسماعيلَ القاضي
…
فكيفَ تطمحُ نفسُ عاقلٍ إلى تعاطي رتبة الاجتهادِ، والنظر في قول مالكٍ والشافعي وأبي حنيفةَ؟ ! وترجيحِ بعضِها على بعضٍ بهذه البلاد؟ ! وفي هذا الزمانِ الذي غاية المفتي به والعارفِ الدَّينِ الفاضلِ أنْ يكونَ قد مارسَ اصطلاحَ الفقهاءِ بعضَ الممارسةِ، ويكون عنده بعضُ دفاتر في الفقهِ مقتناه في خزانتِه، فإذا وَرَدَت عليه النازلةُ نَظَرَ في تلك الدفاترِ
…
،
(5)
.
ويستغربُ شمسُ الدّينِ بنُ القيّمِ
(6)
،
(1)
هو: إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن علي بن محمد بن أبي الدم الهمداني، شهاب الدين أبو إسحاق، ولد بحماة سنة 583 هـ كان علامةً عالمًا فقيهًا مؤرخًا رجلًا مهابًا عفيفًا ورعًا، وافر الفضل، حسن الأخلاق، من أعيان المذهب الشافعي في زمنه، تولى قضاء حماة، من مؤلفاته: أدب القضاء، والتاريخ الكبير، وشرح مشكل الوسيط، توفي بحماة سنة 642 هـ.
انظر ترجمته في: صلة التكملة لوفيات النقلة للحسيني (1/ 100)، وسير أعلام النبلاء (23/ 125)، والوافي بالوفيات للصفدي (6/ 33)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (8/ 115)، وطبقات الشافعية للإسنوي (1/ 546).
(2)
أدب القضاء (1/ 279).
(3)
خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول (ص/ 100).
(4)
فقيه من فقهاء ماطلة، لم يذكر الونشريسي اسمه في: المعيار المعرب (2/ 166).
(5)
المصدر السابق (2/ 170). وانظر في المعنى الذي نقله الونشريسي: مواهب الجليل للحطاب (6/ 89)، والفتاوى الكبرى الفقهية للهيثمي (4/ 302).
(6)
انظر: إعلام الموقعين (4/ 35). وانظر في المعنى نفسه: غاية الأماني للألوسي (1/ 86)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (4/ 452)، ومناهج الاجتهاد للدكتور محمد مدكور =
وجلالُ الدّينِ السيوطي
(1)
، والأميرُ الصنعاني
(2)
، والإمام الشوكاني
(3)
، والشيخ عبد القادر بنُ بدران
(4)
، والشيخُ محمدٌ الشنقيطي
(5)
مَنْ لا يُصدِّق بوجود المجتهدين في عصورهم؛ فالله سبحانه وتعالى قادرٌ على هذا الأمرِ.
ويقولُ الشيخُ صالح المقبلي متحدّثًا عن مفاسدِ الخلافِ بين المذاهبِ - ومنها: الزيدية -: "سدّ باب التفقهِ في الدِّينِ، ومعرفةِ الكتاب والسنةِ، حتى صار المتشوّفُ لذلك متفقًا على جنونِه وخذلانِه عندهم! ويصرِّحون أنَّ الاجتهادَ قد استحالَ منذُ زمانٍ"
(6)
.
ولقد بيَّن الأميرُ محمدٌ الصنعاني (ت: 1182 هـ) أنَّ عامةَ أرباب المذاهبِ الأربعةِ في عصرِه قد طبَّقتْ على إحالةِ الاجتهادِ في الشريعةِ، وعَلى إغلاق بابِه
(7)
.
ويقولُ الشوكانيُّ (ت: 1250 هـ) عن متمذهبي عصرِه: "ويالله العجبُ، ما قَنِعَ هؤلاءِ
…
حتى سدّوا على أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم بابَ معرفةِ الشريعةِ مِنْ كتابِ الله وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وآله وسلم وأنَّه لا سبيلَ إلى ذلك ولا طريقَ
…
وكلُّ هذا حرصٌ منهم على أنْ تعمَّ بدعةُ التقليدِ كلَّ الأمةِ
…
"
(8)
.
= (ص/ 418)، وأصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (2/ 1071)، وبدعة التعصب المذهبي لمحمد عباسي (ص/23).
(1)
انظر: تشير الاجتهاد (ص/ 45).
(2)
انظر: إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد (ص/ 104).
(3)
انظر: إرشاد الفحول (2/ 1038).
(4)
انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (ص/ 387).
(5)
انظر: أضواء البيان (7/ 615).
(6)
العَلَم الشامخ (ص/ 421). وانظر: مقدمة ابن خَلدون (3/ 1050)، وغاية الأماني للألوسي (1/ 83).
(7)
انظر: إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد (ص/ 89).
(8)
القول المفيد في حكم التقليد (ص/ 141 - 142). وانظر: إرشاد الفحول (2/ 1039).
ويقولُ أيضًا: "فانظرْ أيّها المنصفُ: ما حَدَثَ بسببِ بدعةِ التقليدِ مِن البلايا الدينيةِ، والرزايا الشيطانيةِ، فإنَّ هذه المقالةَ بخصوصِها، أعني: انسدادَ بابِ الاجتهادِ، لو لم يحدثْ مِنْ مفاسدِ التقليدِ إلا هي، لكان فيها كفايةٌ ونهايةٌ
…
"
(1)
.
وإنْ كان في كلامِ الشوكاني كثيرٌ مِن التحاملِ على مخالفيه، إلا أنَّه يُبينُ تأثيرَ التمذهبِ في القولِ بإغلاقِ بابِ الاجتهادِ.
ولقد وَقَفَ كثيرٌ مِن المتمذهبين بالمرصادِ أمام مَنْ يدّعى بلوغَ رتبةِ الاجتهادِ، ونالَ كثيرًا مِن العلماءِ كثيرٌ مِن الأذى؛ بسببِ دعوتِهم للنظرِ في الكتابِ والسنةِ، وعدمِ الجمودِ على المذهبِ
(2)
.
ويقولُ الشوكانيّ أيضًا: "وما زال هذا - أي: محاربة مَنْ يدعي الاجتهاد - دَأَبَ الناسِ مع مَنْ بَلَغَ إلى تلك الرتبةِ"
(3)
.
ويبيّن الشوكانيُّ (ت: 1250 هـ) في موضعٍ آخر حالةَ الناس في قُطْرِه مع مَنْ يدّعي الاجتهاد، فيقول: "إذا سمعوا برجلٍ يدّعي الاجتهادَ
…
قاموا عليه قيامًا تبكي عليه عيونُ أهلِ الإسلامِ، واستحلوا منه ما لا يستحلونه مِنْ أهلِ الذمةِ! مِن الطعنِ واللعنِ والتفسيقِ والتكفيرِ!
…
"
(4)
.
ومِنْ أمثلة محاربة مَنْ يدّعي الاجتهاد المطلق: ما جرى لجلالِ الدينِ السيوطي حين ادّعى بلوغَ رتبةِ الاجتهادِ، فقام عليه معاصروه، ورموه عن
(1)
القول المفيد في حكم التقليد (ص/ 143). وانظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص/ 387).
(2)
انظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ 139)، وآثار اختلاف الفقهاء لأحمد الأنصاري (ص/ 299)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص/ 169)، والمدخل إلى الشريعة والفقه له (ص/ 313)، والوسيط في تاريخ التشريع للدكتور أحمد الشرقاوي (ص/ 252)، وتاريخ التشريع للدكتور أحمد العليان (ص/ 277).
(3)
البدر الطالع (ص/ 342). وانظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ 95).
(4)
القول المفيد في حكم التقليد (ص/ 144).
قوسٍ واحدةٍ، وكتبوا له أسئلةً يختبرون بها علمَه في مرتبةِ الاجتهادِ في الفتوى في المذهب الشافعي!
(1)
.
وفي هذا الصنيعِ مِن معاصري السيوطي دلالةٌ على ضيقِهم وعدمِ قبولهم واستبعادِهم أنْ يبلغَ أحدٌ رتبةَ الاجتهادِ المطلقِ في الشريعةِ.
ولما دعا الشيخُ صالح المقبلي إلى تركِ التقليدِ الأعمى، والعملِ بالاجتهادِ أُوذي، وناله مِن المحنِ والعداوةِ ما حمله على تركِ بَلدِه، والارتحالِ إلى مكةَ
(2)
.
ولما قام الأميرُ محمدٌ الصنعاني (ت: 1182 هـ) على معاصريه - ولا سيما علماء الزيدية - وحاربَ التمذهبَ والتقليدَ الأعمى الذي وقع فيه أهلُ قطرِه، قام عليه كثيرٌ منهم، يقول الشيخُ محمدٌ الشوكاني عن الأميرِ الصنعاني:"تظهّرَ بالاجتهادِ، وعَمِلَ بالأدلةِ، ونفَرَ عن التقليدِ، وزيّف ما لا دليلَ عليه مِن الآراءِ الفقهيةِ، وجرتْ له مع أهلِ عصرِه خطوبٌ ومحنٌ"
(3)
.
والشوكانيُّ نفسُه صَنَعَ مثلما صَنَعَ الأميرُ الصنعاني، يقول الشوكاني عن نفسِه إنَّه:"تَرَكَ التقليدَ، واجتهدَ رأيَه اجتهادًا مطلقًا غيرَ مقيّدٍ، وهو قبل الثلاثين"
(4)
، ولم يسلمْ مِنْ علماءِ قُطرِه، وأوذي بسببِ دعواه
(5)
.
وإنْ كانتْ محاربةُ مدّعي الاجتهاد القادر عليه - أو محارب التقليد الأعمى - مرفوضةً، فإن ممَّا يزيدُ في محاربةِ كثيرٍ مِنْ مدّعي الاجتهاد ما
(1)
انظر: الضوء اللامع للسخاوي (4/ 67 - 75)، وفيض القدير للمناوي (1/ 11 - 12)، والبدر الطالع للشوكاني (ص/ 340).
(2)
انظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ 97).
(3)
البدر الطالع (ص/ 649). وانظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ 97).
(4)
البدر الطالع (ص / 740). وانظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ 98 وما بعدها).
(5)
انظر: القول المفيد في حكم التقليد (ص/ 129)، والفكر السامي لمحمد الحجوي (4/ 392).
يصدرُ عن بعضهم مِن الوقوعِ في أعيانِ المذاهب ورجالها، ورميهم بالخطأِ، والتنقصِ مِنْ علمهم ونحو ذلك
(1)
.
* * *
(1)
ومن يطالع كتب أبي محمد بن حزم يرى قسوته وشدته وتطاوله على مخالفيه من أرباب المذاهب.
وذكر عبدُ الحي الحسني في: نزهة الخواطر (8/ 1001) أنَّ عبد الحق بن فضل الله العثماني - من علماء الهند - لما ذهب إلى المدينة النبوية تكلَّم في بعض المسائل الخلافية، وصدر عنه ما لا يليق بشأن الأئمة المجتهدين، ورمى أصحابَ المذاهب بالضلال! فرفع أمره إلى قاضي المدينة.
ويتصل بهذا المبحث الإشارة إلى أنَّ بعض المتمذهبين لم تقتصرْ محاربتهم على مَن يدَّعي رتبةَ الاجتهاد، أو يدعو إلى النظرِ في نصوصِ الكتاب والسنةِ، بلْ أمسى كثيرٌ منهم في بعض القرون يحاربون ويعادون متمذهبي المذاهبِ الفقهية الأخرى، فكل فرقةٍ تنصرُ مذهبها، وتدعو إليه، وتذمّ من خالفها، بلْ وصل الحالُ عند بعضهم إلى أنَّهم يرون المخالف لهم كأنَّه مِنْ أهلِ ملةٍ أخرى.
انظر: إعلام الموقعين (3/ 556)، والقول المفيد في حكم التقليد للشوكاني (ص/ 119)، والمذاهب الفقهية الإسلامية لمحمد تاجا (ص/ 165)، وبلوغ الأماني للدكتور الحسن العلمي (ص/ 165)، المقلِّدون والأئمة الأربعة لسعيد معشاشة (ص/ 81).
يقول تقيُّ الدين بنُ تيمية في: مجموع الفتاوى (22/ 254): "وبلادُ المشرقِ مِنْ أسبابِ تسليطِ الله التتر عليها: كثرةُ التفرقِ والفتنِ بينهم في المذاهبِ وغيرِها، حتى تجد المنتسبَ إلى الشافعي يتعصب لمذهبِه على مذهبِ أبي حنيفة حتى يخرج عن الدِّين، والمنتسبَ إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبِه علَى مذهبِ الشافعي وغيرِه حتى يخرج عن الدِّين، والمنتسبَ إلى أحمدَ يتعصب على مذهبِ هذا أو هذا، وفي المغرب: تجد المنتسبَ إلى مالكٍ يتعصب لمذهبِه على هذا أو هذا، وكَلُّ هذا مِن التفرقِ والاختلافِ الذي نهى اللهُ ورسولُه عنه".
ويقول الأميرُ الصنعاني في: منحة الغفار (1/ 123): "التمذهبُ منشأُ فرقةِ المسلمين، وبابُ فتنةِ الدنيا والدِّينِ، وهل فرَّق الصلواتِ المأمور بالاجتماعِ لها في بيتِ الله الحرامِ إلا تفرقُ المذاهبِ النابت عن غرسِ شجرةِ الالتزام؟ ! وهل سُفِكت الدماءُ وكفَّر المسلمونَ بعضَهم بعضًا إلا بسببِ التمذهبِ؟ ! ".
وكلام الصنعاني إن إراد به حكاية حال بعض المتمذهبين في زمنه، الواقعين في لوثة التعصب، فمسلم، وإلا ففي كلامِه مبالغةٌ وتعميمٌ غير مرضيين.