الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: أخذ المتمذهب قولا رجع عنه إمامه
يتصل الحديثُ في هذا المبحثِ بالمبحثِ السابقِ اتصالًا وثيقًا؛ إذ يترتبُ الحُكْمُ هنا - في الجملةِ - على تقريرِ نسبةِ القولِ المرجوعِ عنه إلى إمامِ المذهبِ.
وقبلَ الدخولِ في هذا المبحث تحسنُ الإشارةُ إلى أنَّ لمعرفةِ رجوعِ إمامِ المذهبِ عن قولِه طُرُقًا عدّةً، منها:
الطريق الأول: تصريحُ إمامِ المذهبِ نفسِه برجوعِه عن قولِه، وقد سَبَقَ في المبحثِ الثاني ذكرُ مثال له.
الطريق الثاني: ما ينقله تلاميذُ إمامِ المذهبِ وأصحابُه عنه مِنْ رجوعِه عن قولِه؛ إذ أعرفُ الناسِ بأقوالِ الإمامِ هم تلامذته الملازمون له
(1)
.
الطريق الثالث: ما يُقرره أصحابُ المذهبِ المحققون فيه، فإذا قرّر محققو المذهبِ أنَّ إمامَهم قد رَجَعَ عن قولِه، أو صححوا قولًا في المذهبِ على خلافِ قولِ إمامِهم، فإنَّ تقريرَهم قرينةٌ قويةٌ دالةٌ على رجوعِ إمامِهم عن قولِه
(2)
.
ومِن الأمورِ التي قد تترتبُ على هذا الطريقِ حصولُ الاختلافِ بين محققي المذهبِ في تعيينِ القولِ المرجوعِ عنه، أو القولِ المصحّحِ في مذهبِهم
(3)
.
(1)
انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 627)، وبدائع الفوائد لابن القيم (3/ 989)، والإنصاف (1/ 10).
(2)
انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 627).
(3)
انظر: المصدر السابق.
الطريق الرابع: إذا تعارضَ قولٌ لإمامِ المذهبِ مع قولٍ آخر، وعُلِمَ القولُ المتأخرُ منهما، فالمتقدِّمُ مرجوعٌ عنه، وقد سَبَقَ الحديثُ عن هذا في المبحثِ السابقِ.
الطريق الخامس: إذا أفتى إمامُ المذهبِ بحكمٍ، واعترضَ عليه أحدٌ، فسَكَتَ، فهل يُعَدُّ سكوتُه حينئذٍ رجوعًا عن قولِه؟
وقد سبقَ الحديثُ عن هذا الطريق في مسألة: (نسبة القول إلى إمام المذهب عن طريق السكوت).
ولم أقفْ على مَنْ تحدث عن هذا الطريقِ عند غيرِ الحنابلةِ، فيما رجعتُ إليه من مصادر.
والطرقُ السابقةُ متفاوتةٌ في بيانِ القولِ المرجوعِ عنه؛ فلا يستوي الطريقُ الأولُ مع بقيتها.
يقولُ الطوفي عن درجةِ تصحيحاتِ علماءِ الحنابلةِ: "لكنَّ هؤلاءِ بالغين ما بَلَغُوا لا يحصلُ الوثوقُ مِنْ تصحيحِهم لمذهبِ أحمدَ كما يحصلُ مِنْ تصحيحِه هو لمذهبِه قطعًا"
(1)
.
ومحلُّ الحديثِ في هذا المبحثِ عند غيرِ القائلينِ بنسبةِ القولين: المتقدِّم منهما والمتأخر إلى إمامِ المذهبِ؛ لأنَّ الآخذَ بالقولِ المتقدِّمِ عندهم آخذٌ بقولِ الإمامِ الذي تصحُّ نسبتُه إليه، ويجوزُ العمل به
(2)
.
إذا ثَبَتَ عند المتمذهبِ رجوعُ إمامِه عن قولِه، فهلْ يسوغُ للمتمذهبِ أنْ يأخذَ قولَ إمامِه حينئذٍ؟
لا يخلو الأمرُ عن حالتين:
الحالة الأولى: أنْ تكونَ المسالةُ بعدَ رجوعِ الأمامِ عن قولِه وفاقيةً.
(1)
شرح مختصر الروضة (3/ 627).
(2)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 44)، وشرح مختصر الروضة (3/ 625)، والإنصاف (1/ 10)، والمصقول في علم الأصول للكوبي (ص/ 167).
الحالة الثانية: أنْ تكونَ المسألةُ بعد رجوعِ الإمامِ عن قولِه خلافيةً.
الحالة الأولى: أنْ تكون المسألةُ بعد رجوعِ الإمامِ عن قولِه وفاقيةً.
إذا قالَ إمامُ المذهب قولًا انفردَ به عن بقيةِ علماءِ عصرِه، واستقرَّ خلافُهم، ثمَّ رَجَعَ عن قولَه، فهل للمتمذهبِ أنْ يأخذَ قولَ إمامِه في هذه الحالةِ؟
الذي يظهرُ هو عدمُ جوازِ أخذِ قولِ الإمامِ المرجوعِ عنه؛ وذلك للآتي:
الأول: أنَّ الإجماعَ ينعقدُ في هذه الحالةِ في مذهبِ جمهورِ العلماءِ
(1)
، ولا يسوغُ الأخذُ بقولِ مخالفِ للإجماعِ.
الثاني: أنَّ الآخذَ بالقولِ المرجوعِ عنه في هذه الحالة آخذٌ بقولٍ لا قائلَ به.
الثالث: ذَهَبَ كثيرٌ مِنْ أهلِ العلمِ إلى المنعِ مِن الأخذِ بغيرِ المذاهب الأربعة - كما سبقت الإشارة إليه مِنْ قبل - والآخذُ بالقولِ الذي رَجَعَ عنه إمامُ مذهبِه آخذٌ بقولٍ خارجٍ عن المذاهبِ الأربعةِ.
الرابع: لا يصدقُ على الآخذِ بالقولِ المرجوعِ عنه في هذه الحالة أنَّه متمذهبٌ بمذهبِ إمامِه، ولا مقلِّدٌ لغيرِه.
وهنا تنبيه، وهو: إذا تحقّقَ للمتمذهبِ وصفُ الاجتهادِ المطلقِ، أو
(1)
انظر مسألة: (اتفاق أهل العصر على قولٍ واحدٍ بعد اختلافهم) في: العدة (4/ 1111)، والبرهان (1/ 453)، والمنخول (ص / 321)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 145)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 278)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (1/ 497)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 328)، وشرح مختصر الروضة (3/ 97)، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 43)، ورفع الحاجب (2/ 254)، والإبهاج في شرح المنهاج (5/ 2104)، والبحر المحيط (4/ 530)، وتشنيف المسامع (3/ 118)، والتحبير (4/ 1660)، وشرح الكوكب المنير (2/ 276).
الاجتهاد الجزئي في بعضِ المسائلِ، فله أحكامُ المجتهدين في الشريعةِ.
الحالة الثانية: أنْ تكونَ المسألةُ بعد رجوعِ الإمامِ عن قولِه خلافيةً.
إذا قال إمامُ المذهبِ قولًا ما في مسألةٍ خلافيةٍ، ووافقه بعضُ المجتهدين، ثمَّ رَجَعَ إمامُ المذهبِ عن قوْلِه، وبقي مَنْ عداه مِن المجتهدين على أقوالِهم، فهل يجوزُ للمتَمذهبِ في هذه الحالةِ أخذُ قولِ إمامِه المرجوعِ عنه؟
بتأمَّل الحالةِ الثانيةِ، ظَهَرَ لي التفصيلُ الآتي:
أولًا: إذا كانَ أَخْذُ المتمذهبِ لقولِ إمامِه المرجوعِ عنه؛ لرجحانِه عنده: فالذي يظهرُ لي هو جوازُ أَخْذِه، إنْ لم أقل بوجوبه
(1)
؛ لأنَّ أَخْذَ المتمذهبِ للقولِ في هذه الحالة غيرُ مقصودٍ؛ لأنَّه أَخَذَه لرجحانِه، فوافقَ قولَ إمامِه المرجوعَ عنه تبَعًا
(2)
.
يقولُ الشريفُ التلمساني عن الأخذِ بقولِ الإمامِ مالكٍ المرجوع عنه: "إنْ كانَ مرجوعًا عنه عنده - أي: عند الإمام مالك - فنحنُ نَأخُذُ به مِنْ حيثُ دليلُه.
وأيضًا: غالبُ أقوالِ مالكٍ المنقولةِ عنه قد قالَ بها أصحابُه، فليُعملْ بها مِنْ حيثُ اجتهادُهم"
(3)
.
ويدلُّ على جواز الأخذِ بالقول المرجوع عنه في هذه الحالة: أنَّ غالبَ المذاهبِ قد أَخَذَ متمذهبوها بقولٍ لإمامِهم ثَبَتَ رجوعُه عنه؛ لمقتضٍ للأخذِ
(4)
.
(1)
انظر: البحر المحيط (6/ 123).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (6/ 168)، والتقليد والإفتاء لعبد العزيز الراجحي (ص / 117).
(3)
نقل الونشريسيُّ قولَ التلمساني في: المعيار المعرب (11/ 365).
(4)
انظر: إعلام الموقعين (6/ 168)، وجامع مسائل الأحكام للبرزلي (1/ 105)، والمعيار المعرب للونشريسي (6/ 374)، ومختصر الفوائد المكية للسقاف (ص / 113 - 114)، =
وقد عللّ ابنُ عابدين للأخذِ بالقولِ المرجوعِ عنه: بأنَّ الإمامَ قد أَمَرَ أصحابَه بأنْ يأخذوا مِنْ أقوالِه بما يتّجه الدليلُ عليه، فإذا أخذوا قولَه المرجوعَ بناءً على أصلِه وقواعدِه التي أسسها لهم، صار ما اختاروه قولًا لإمامِهم
(1)
.
ولعل منشأ التعليلِ الذي ذكره ابنُ عابدين الحرصُ على نسبةِ كلِّ ما يصدرُ عنه، وعن غيرِه مِنْ أربابِ مذهبِه إلى مذهبِ إمامهم، بحيثُ لا يخرجُ المتمذهبُ عن مذهبِه البتة.
ثانيًا: إذا كان أَخْذُ المتمذهبِ للقولِ الذي رَجَعَ عنه إمامُه؛ بناءً على أنَّه مذهبُ إمامِه: فالذي يظهر لي في هذه الحالة هو عدمُ الجوازِ؛ لأنَّ الأصلَ العملُ بقولِ الإمامِ المتأخرِ المرجوعِ إليه
(2)
ح ولأنَّ القولَ المرجوعَ عنه بمنزلةِ المعدومِ
(3)
.
ولأنَّ الباعثَ على أَخْذِ المتمذهبِ للقولِ المرجوعِ عنه هو أنَّه مذهبُ إمامِه، فإذا انتفتْ نسبةُ القولِ المرجوعِ عنه عن الإمامِ، لم يصحَّ أخذُه؛ لأنَّه ليس بقولِ له، إلا إذا صحّحَ أئمةُ المذهبِ القولَ المرجوع عنه؛ لسببٍ ما، فللمتمذهبِ أَخْذُ القولِ في هذه الحالة؛ لاندراجِه تحت مسمّى المذهبِ، بتصحيحِ الأصحابِ له.
ولو أراد المتمذهبُ أخذَه مع العلمِ بأنَّه قولٌ مرجوعٌ عنه، فالحكمُ هنا يبنى على مسألةِ:(الخروج عن المذهب)، وقد تقدَّمَ الحديثُ عنها.
يقولُ ابنُ الصلاحِ: "كلُّ مسألةٍ فيها قولان: قديم وجديد، فالجديدُ
= والشافعي - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 318)، والتقليد والإفتاء لعبد العزيز الراجحي (ص/ 117)، والاختلاف الفقهي لعبد العزيز الخليفي (ص/ 254 - 255).
(1)
انظر: شرح عقود رسم المفتي (ص/ 81).
(2)
انظر: فرائد الفوائد للمناوي (ص/ 128)، وشرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 115).
(3)
انظر: أصول الإفتاء للعثماني (ص / 329) مع المصباح في رسم المفتي.
أصحُّ، وعليه الفتوى، إلا في نحوِ عشرين مسألةً - أو أكثر - يُفْتَى فيها على القديمِ"
(1)
.
ويقولُ أيضًا: "في هذا - أيْ: في الفتوى بالقولِ القديمِ - إشعارٌ بأنَّ عليه الفتوى، فصاروا - أيْ: أئمة الشافعية - إلى ذلك في ذلك مع أنَّ القديمَ لم يبقَ قولًا للشافعي؛ لرجوعِه عنه، فيكون اختيارُهم إذنْ للقديمِ فيها مِنْ قبيلِ ما ذكرناه مِن اختيارِ أحدِهم مذهب غيرِ الشافعي إذا أدّاه اجتهادُه إليه
…
بلْ أَوْلَى؛ لكونِ القديمِ قد كان قولًا له منصوصًا"
(2)
.
وقد تبع ابنُ حمدان ابنَ الصلاح فيما قرره آنفًا
(3)
.
ويقولُ محيي الدين النووي: "ثمَّ إنَّ أصحابَنا أفتوا بهذه المسائلِ مِن القديمِ، مع أنَّ الشافعيَّ رَجَعَ عنه، فلم يبقَ مذهبًا له
…
فإذا عَلِمْتَ حالَ القديمِ، ووجدنا أصحابَنا أفتوا بهذه المسائل على القديمِ، حملنا ذلك على أنَّه أدّاهم اجتهادُهم إلى القديمِ؛ لظهورِ دليلِه، وهُمْ مجتهدون أفتوا به، ولا يلزمُ مِن ذلك نسبتُه إلى الشافعي، ولم يقلْ أحدٌ مِن المتقدمين في هذه المسائل: إنَّها مِن مذهبِ الشافعي"
(4)
.
فما صححّه أئمةُ المذهبِ مِنْ أقوالِ إمامِهم التي رَجَعَ عنها، لا تُنسبُ إليه
(5)
، لكنَّها مِن المذهبِ باعتبارِ تصحيحِ أصحابِه لها.
* * *
(1)
أدب المفتي والمستفتي (ص/ 128).
(2)
المصدر السابق (ص/ 129 - 130). وانظر: إعلام الموقعين (6/ 169).
(3)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 43 - 44).
(4)
المجموع شرح المهذب (1/ 67).
(5)
انظر: الاستغناء في الفرق والاستثناء للبكري (1/ 267).