الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: عدم الاطلاع على ما لدى المذاهب الأخرى
ما مِنْ ريبٍ في أنَّ عددًا مِن المتمذهبين في عصورٍ سابقةٍ، وأقطارٍ متعددةٍ قد اكتفوا بما في مذهبِهم من الأقوال
(1)
- سواءٌ أكان ذلك في التقعيد، أم في التفريع، أم في الإفتاءِ والقضاءِ
(2)
- فقصروا اطلاعَهم عليه، ولم يعرفوا غيرَه مِن المذاهبِ
(3)
.
إنَّ مَنْ لم يُحْسِنْ دخولَ مدرسةِ التمذهب بمذهبٍ معيّنٍ - مع قدرتِه على الترقي في دروبِ الفقهِ وأصولِه - ويكتفَى بمذهبِه الذي نَشَأَ عليه: فسيفوتُه خيرٌ كثيرٌ ممَّا لدى المذاهبِ الأخرى
(4)
؛ إذ ليس الحقُّ محصورًا في مذهبٍ واحدٍ، وليست أقوالُ المذهبِ راجحةً في جميعِ المسائلِ
(5)
.
ويُعدُّ هذا الأثر مِن الصورِ المؤسفةِ التي وَصَلَ إليها بعضُ المتمذهبين، إذ مِنْ شأنِه أنْ يضيق بنَظَرِ المتمذهبِ وأُفقِه، وأنْ يُضعِفَ علمَه بالفقهِ وبأصولِه
(6)
.
(1)
انظر: بغية المستفيد للشوكاني (5/ 2273) ضمن كتاب الفتح الرباني، وآثار اختلاف الفقهاء لأحمد الأنصاري (ص/ 307).
(2)
انظر: الإفصاح لابن هبيرة (2/ 408).
(3)
انظر: بغية المستفيد للشوكاني (5/ 2273) ضمن كتاب الفتح الرباني، وأدب الطلب له (ص/ 91)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور محمد مدكور (ص/ 95)، وبدعة التعصب المذهبي لمحمد عباسي (ص/ 157)، وتاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص/ 181).
(4)
انظر: بين متبع ومقلد أعمى للدكتور عامر الزيباري (ص/ 52).
(5)
انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (ج 1/ ق 1/ 543)، وبدعة التعصب المذهبي لمحمد عباسي (ص/157).
(6)
انظر: المدخل لدراسة الفقه للدكتور محمد موسى (ص/ 60 - 61)، وتاريخ التشريع للدكتور أحمد العليان (ص/ 278)، والمدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص/ 219)، وتاريخ الفقه الإسلامي له (ص/ 181).
ولم يكن غالبُ متقدمي علماء المذاهبِ الفقهيةِ مكتفين بما جاءَ عن إمامِهم، وبما في مذهبِهم، والدليلُ على هذا: أنَّ منهم مَنْ خالفَ إمامَه، ورجّحَ قولَ غيرِه
(1)
، لكنَّ الأمرَ بدأَ بالتدريجِ رويدًا رويدًا عند بعضِ المتمذهبين، حتى أضحى سِمَةً ظاهرةً عندهم، بلْ صارَ الحالُ إلى اكتفاءِ بعضهم بكتاب أو بكتابين مِنْ كتبِ المذهبِ المتأخرةِ، واقتصارهم عليها
(2)
، وأمسى الفارقُ بين المتمذهب المبتدئِ في العلمِ، والمتمذهبِ المنتهي، في كثرةِ المسائلِ التي يحفظها
(3)
.
ويحكي العزُّ بنُ عبد السلام حالَ بعضِ متمذهبي عصرِه، فيقول:"إذا ذُكِر لأحدِهم خلاف ما وطّن نفسَه عليه، تعجَّب منه غايةَ العجبِ، حتى ظنَّ أنَّ الحق منحصرٌ في مذهبِ إمامِه"
(4)
.
ويبيّنُ تقيُّ الدين بنُ تيمية أن غالبَ الخائضين في الفقهِ إنَّما يعرفُ أحدُهم مذهبَ إمامِه، ثمَّ قد يعلمُه على الجُمْلة، دونَ أنْ يميّزَ المسائلَ القطعيةَ، وما يسوغ فيه الاجتهادُ، وما انفردَ به إمامُه
(5)
.
ويقولُ الطوفيُّ: "غالبُ الفقهاءِ يتفاوتون في معرفةِ مذهبِ خصمِهم"
(6)
.
وفي اكتفاءِ المتمذهبِ بمذهبِ إمامِه، وبدليلِ قولِه نقصٌ بيّنٌ؛ فليس بإمكانِه حينئذٍ أنْ يرجِّح بين الأقوالِ، ولا أنْ يُزَيّفَ الضعيفَ؛ لعدمِ اطلاعِه على المذاهبِ الأخرى في الأصلِ.
(1)
انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 143)، وخطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول لأبي شامة (ص/ 138)، وتاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ 373 - 374).
(2)
انظر: العَلَم الشامخ للمقبلي (ص/ 423)، ورسالة في الاجتهاد والتقليد لحمد بن معمر (ص/ 94 - 95)، والدرر السنية لابن قاسم (4/ 58 - 59)، وتاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ 368)، والاجتهاد في الفقه الإسلامي لعبد السلام السليماني (ص/ 323).
(3)
انظر: تاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ 374)، والمنهج الفريد في الاجتهاد والتقليد للدكتور وميض العمري (ص/ 260).
(4)
القواعد الكبرى (2/ 275).
(5)
انظر: الاستقامة (1/ 60).
(6)
شرح مختصر الروضة (3/ 484).
ومِثلُ هذا المتمذهبِ لا يُعدّ مِن العلماءِ المحققين
(1)
، ولقد وَصَفَ تقيُّ الدّينِ بنُ تيميةَ مَنْ هذا حالُه - فلم يَعْرِفْ إلا قولَ إمامٍ واحدٍ وحجته، دونَ قولِ المخالفِ وحجته - بأنَّه مِن العوامِّ المقلِّدين!
(2)
.
ويقولُ الشيخُ محمدٌ ناصر الدين الألباني عن بعضِ أربابِ المذاهبِ الفقهيةِ: "إنَّ المتمذهبَ بواحدٍ منها - أي: بالمذاهب - يتعصبُ له، ويتمسكُ بكلِّ ما فيه، دون أنْ يلتفتَ إلى المذاهب الأخرى وينظرَ؛ لعلّه يجد فيها مِن الأحاديثِ ما لا يجدُه في مذهبِه الذي قلَّده"
(3)
.
بلْ بَلَغَ الأمرُ في بعضِ الأقطارِ إلى عدمِ وجودِ مؤلفاتِ المذاهبِ الأخرى، فضلًا عن الاطلاعِ عليها، يدلّ على هذا: ما قاله أبو إسحاقَ الشاطبي معلِّلًا قلةَ الاطلاعِ على كتب المذاهبِ الأخرى: "إذ كتبُ الحنفيةِ كالمعدومةِ الوجودِ في بلادِ المغربِ! وكذلك كتبُ الشافعيةِ وغيرِهم مِنْ أهلِ المذاهبِ"
(4)
. ويقولُ في موضع آخر: "إنَّ المذاهبَ الخارجةَ عن مذهبِ مالكٍ في هذه الأمصارِ مجهولةٌ"
(5)
.
وفي هذا الكلامِ ما يُعطي بعضَ المتمذهبين في بعضِ الأقطار في زمنٍ مضى شيئًا مِن العذرِ في عدمِ اطلاعِهم على المذاهبِ الأخرى؛ لعدمِ وجودِ مؤلفاتِ علمائِها.
ويبيّنُ الشاطبيُّ مَغَبَّةَ عدمِ الاطلاع على المذاهبِ الأخرى، فيقول: "إنَّ اعتيادَ الاستدلالِ لمذهبٍ واحدٍ رُبما يُكسِبُ الطالبَ نفورًا وإنكارًا لمذهبِ
(1)
انظر: خطبة الكتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول لأبي شامة (ص/ 141)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (35/ 233).
(2)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (35/ 233).
(3)
سلسلة الأحاديث الصحيحة (ج 1/ ق 1/ 543).
(4)
الموافقات (3/ 131).
(5)
المصدر السابق (5/ 102 - 103). وانظر: نشر البنود (2/ 352)، ونثر الورود للشنقيطي (2/ 687).
غيرِه، مِنْ غيرِ اطلاعٍ على مأخذِه، فيورث ذلك حزازةً في الاعتقادِ في الأئمةِ الذين أجمعَ الناسُ على فضلِهم وتقدّمهم في الدِّينِ، واضطلاعهم بمقاصدِ الشارعِ وفهمِ أغراضِه، وقد وُجِدَ هذا كثيرًا! "
(1)
.
ولم يسوّغ بعضُ المالكيةِ الفتوى بغيرِ مذهبِ الإمامِ مالكٍ فمَنَعَوا مِن الفتوى بغيرِ مذهبِهم
(2)
.
وأشدُّ ممَّا سَبَقَ أنْ يُحذَّرَ مِنْ مخالفةِ المذهبِ، فقد نَقَلَ أبو العباس الونشريسيُّ عن بعضِ ولاةِ الأندلس
(3)
أنَّه كتب كتابًا، قالَ فيه:"مَنْ خالفَ مذهبَ مالكِ بنِ أنسٍ رحمه الله بالفتوى أو غيرِه، وبلغني خبرُه، أنزلتْ به مِن النّكالِ ما يستحقّ! "
(4)
.
ونَقَلَ عنه - أيضًا - قوله: "كل مَنْ زاغَ عن مذهبِ مالكِ بن أنس، فإنَّه ممّن رِينَ على قلبِه، وزُيِّنَ له سوءُ عملِه"
(5)
.
وفي هذا الأمرِ - أيًّا كان الباعثُ عليه - دافعٌ قويٌ إلى تركِ الاطلاعِ على ما دوّنه علماءُ المذاهب الأخرى.
وذَكَرَ الشيخُ صالحٌ المقبلي (ت: 1108 هـ) أنَّ أحدَ طلبةِ العلمِ المغاربةِ أخبره، وهما بمكةَ بأنَّ الطلبةَ في أرضِه لا يَعرفون إلا مذهبَهم، ولا يعرفون غيرَه من المذاهبِ
(6)
.
ولما سَبَقَ، فقد حثَّ عددٌ مِن العلماءِ والمحققين على عدمِ الاقتصارِ
(1)
الموافقات (3/ 131 - 132).
(2)
انظر: عدة البروق للونشريسي (ص / 543).
(3)
هو: الحكم بن عبد الرحمن الأموي.
(4)
المعيار المعرب (2/ 333).
(5)
المصدر السابق. ولا يَبْعُد عندي أنَّ ما قاله هذا الوالي بسبب ما استقر في ذهنه من كثرة وجود البدع والمبتدعين في المذاهب الأخرى؛ إذ نقل الونشريسي عنه في: المصدر السابق قولَه: "جُلّ مَنْ يعتقد مذهبًا مِنْ مذاهب الفقهاء
…
فإنَّ فيهم الجهميَّ والرافضيَّ والخارجيَّ إلا مذهب مالك".
وهذا ما قد يجعل اللائمةَ متجهةً إلى علماء المالكية في عصر الوالي وقُطْره؛ من جهة أنَّ ما استقر في ذهن الوالي كان بتأثير بعض علماء المالكية.
(6)
انظر: العَلَم الشامخ (ص/ 402).
على مذهبِ إمامِ واحدٍ يعتقدُ أنَّ كلَّ ما فيه صوابٌ
(1)
، وقد ظَهَرَ أثرُ هذا جليًّا في المؤلفاتِ التي لم يقتصرْ مؤلِّفوها على ذكرِ مذهبِهم، بلْ ذكروا فيها آراءَ المذاهبِ الفقهيةِ الأخرى
(2)
.
* * *
(1)
انظر: حجة الله البالغة للدهلوي (1/ 476)، والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/ 252). وقارن بالقول المفيد في حكم التقليد للشوكاني (ص/ 119).
(2)
وهذا الأمر لا يخلو منه مذهبٌ، وخذْ مثالًا عليه: بما قاله القرافيُّ في مقدمة كتابه: الذخيرة (1/ 37 - 38): "وقد آثرتُ التنبيهَ على مذاهب المخالفين لنا مِنْ الأئمة الثلاثة رحمهم الله ومآخذِهم في كثيرِ من المسائل؛ تكميلًا للفائدة، ومزيدًا في الاطلاع، فإنَّ الحق ليس محصورًا في جهةٍ، فيعلم الفقيه أيَّ المذهبين أقرب للتقوى، وأعلق بالسبب الأقوى".
وانظر: المدرسة المالكية العراقية للدكتور حميد لحمر، بحوث الملتقى الأول: القاضي عبد الوهاب المالكي (1/ 510 وما بعدها).