الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: طرق علاج الآثار السلبية
إنَّ الحديثَ عن طُرُقِ علاجِ الآثارِ السلبيةِ حديثٌ مهمٌ، وتبرز أهميتُه في خطورةِ الآثارِ السلبيةِ.
وتحسنُ الإشارةُ إلى أنَّ الآثارَ السلبيةَ السابقةَ متفاوتةٌ مِنْ جهةِ الخطورة، ومِنْ جهةِ الانتشارِ، ومِنْ جهةِ بقائِها إلى عصرِنا الحاضر.
وإنَّ مِن النعمِ التي حبانا اللهُ تعالى بها أنَّ كثيرًا مِن الآثارِ السلبيةِ قد تقلصتْ، مع بقاءِ المذاهبِ قائمةً في أقطارِ المسلمين، وقد تقدّمت الإشارةُ إلى هذا الأمرِ في الفصلِ الثاني مِن البابِ الأولِ.
وسأنطلقُ في هذا المبحثِ مقتنعًا بضرورةِ بقاءِ المذاهبِ المتبوعةِ، ومشروعيتها، فلن يكونَ مِنْ سُبُلِ العلاجِ الدعوةُ إلى إلغائِها واقتلاعِها
(1)
؛ لظهورِ فسادِ هذا الطريقِ، ولو فَرَضْتُ جدلًا قبولَه، فإنَّ تطبيقَه أشبه شيءٍ بالمستحيل، إضافةً إلى خطورته الجسيمةِ على حاضر الفقهِ وأصولِه وماضيهما
(2)
.
وقبل بيانِ الطرقِ المقترحة أُحِبُّ أنْ أبيّنَ أمرين:
الأمر الأول: أنَّ المتلطخين بالآثارِ السلبيةِ للتمذهبِ متفاوتون في درجةِ التأثرِ، فقد نجدُ بين المتعصبين للمذاهبِ مَنْ هو شديدُ التعصبِ لمذهبِه، موغلٌ في تقليدِه، مع قدرتِه على الاستدلالِ، ونجدُ مَنْ فيه شائبةٌ مِنْ داءِ التعصبِ.
(1)
كما دعا زايد محمد طالب إلى اقتلاع جميع المذاهب، والاعتصام بالكتاب والسنة، كما في كتابه: خطيئة المذاهب (ص/ 12)، بواسطة: التجديد في الفقه الإسلامي للدكتور محمد السوقي (ص/ 171)، ورسالة: الانسلاخ من المذاهب الفقهية لمليكة صوالح (ص/ 24).
(2)
انظر: التجديد في الفقه الإسلامي للدكتور محمد السوقي (ص/ 171).
الأمر الثاني: أنَّ بعضَ الذين تلبسوا بالآثارِ السلبيةِ يصعبُ علاجُهم، وقد يكون رجوعهم إلى جادةِ الصواب مِنْ أبعدِ الأمورِ، إلا بتوفيقِ الله تعالى
(1)
.
وبتأمَّل الآثارِ السابقةِ، وأسباب ظهورها، فإنَّني أقترح بعض الطرقِ التي أرى أنَّها تسهمُ في علاجِها.
الطريق الأول: الاهتمامُ بالكتب المذهبيةِ البعيدةِ عن التعصب المذهبي، والتي تُعْنَى بالاستدلالِ.
لم يبخلْ أربابُ المذاهبِ على مذاهبِهم بالتأليفِ فيها - كما سَبَقَ بيانُه - وقد تنوعتْ جهودُهم في خدمةِ مذاهبِهم، ولا يخلو مذهبٌ مِنْ وجودِ مؤلفاتٍ ومدوّناتٍ عُنيتْ وشحِنَتْ بالاستدلالِ للمذهب، وإظهارِ الصنعةِ الأصوليةِ.
إنَّ الاهتمامَ بأمثالِ هذه المؤلفاتِ مِنْ شأنِه أنْ يعوّدَ أربابَ المذهبِ وطلابَه على تطلّبِ الدليلِ، والبحثِ عنه، وتعظيمِه؛ ليكونَ الوقوفُ على دليلِ المذهبِ؛ للنَظرِ فيه قوةً وضعفًا مقصدًا للمتمذهبِ، كما يقصدُ معرفةَ أقوالِ إمامِه وما قرره محققو مذهبِه.
ومِنْ شأنِه - أيضًا - أنْ يُعودَ أربابَ المذهب على تطبيقِ القواعدِ الأصوليةِ
(2)
، وعلى تركِ مذهبِهم في المسائل الَتي لم يقوَ فيها دليلُ المذهبِ.
وقد حثَّ أبو إسحاقَ الشاطبي المتعلمَ على الاعتمادِ على كتبِ المتقدمين، فقالَ: "أنْ يتحرى كتبَ المتقدمين مِنْ أهلِ العلمِ المراد؛ فإنَّهم
(1)
انظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ 119 - 120).
(2)
انظر: أليس الصبح بقريب لابن عاشور (ص/ 129)، وشرائط الاجتهاد بين النظرية والتطبيق المعاصر للدكتور عبد المعز حريز، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد:(50)، (ص/ 284).
أقعدُ مِنْ غيرِهم مِنْ المتأخرين"
(1)
.
الطريق الثاني: الاطلاعُ على بقيةِ المذاهبِ المتبوعة، ومعرفةُ أقوالِ السلفِ.
إنَّ المذاهبَ الفقهيةَ المتبوعةَ تحتوي على ثروةٍ فقهيةٍ وأصوليةٍ ضخمة، ومِن الخسارةِ الكبيرةِ أنْ لا يفيدَ المتمذهبُ إلا مِنْ كتبِ مذهبِه ومؤلفاتِه
(2)
.
يقولُ الشيخُ مصطفى الزرقا بعدما حثّ على الإفادةِ مِن المذاهبِ: "هذا الانفتاحُ قد أزال العصبيةَ المذهبيةَ التي كانت بين أتباعِ المذاهب في الماضي
…
وأصبحت الدراسةُ الفقهيةُ في الجامعات تُظهرُ للطالبِ مزايا المذاهبِ المختلفةِ، وما فيها مِنْ ثروةٍ فقهيةٍ، وتنميةٍ فكريةٍ، وتوسعةٍ للمداركِ بمناقشةِ الأدلةِ، وتيسيرٍ على المكلَّفِ في التطبيقِ"
(3)
.
وقد بيّنَ الشيخُ الزرقا أنَّ الانفتاحَ على المذاهبِ مِنْ سماتِ فقيه العصرِ الحاضرِ
(4)
.
وقد جاءَ عن بعضِ السلفِ ما يدلُّ على ضرورةِ أنْ يطلّعَ العالمُ على أقوالِ العلماءِ في المسائل، فمِنْ ذلك:
- قول قتادة
(5)
: "مَنْ لم يَعرف الاختلافَ لم يشمَّ رائحةَ الفقهِ
(1)
الموافقات (1/ 148).
(2)
انظر: الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد للدكتور عبد الله الجبوري (ص/ 149 - 150)، والمدخل لدراسة الفقه للدكتور شوقي الساهي (ص/ 142).
(3)
المدخل الفقهي العام (1/ 252).
(4)
انظر: فتاوى مصطفى الزرقا (ص/ 370).
(5)
هو: قتادة بن دعاة بن عزيز السدوسي البصري، أبو الخطاب، ولد سنة 60 هـ كان أحد كبار المفسرين في وقته، حافظ عصره، محدثًا ومفسرًا، عارفًا بالأنساب واللغة وأيام العرب، ومن أوعية العلم، يضرب به المثل في جودة الحفظ، قال عنه الإمام أحمد:"كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لم يسمع شيئًا إلا حفظه"، وقال معمر:"لم أرَ في هؤلاء أفقه من الزهري وقتادة وحماد"، توفي سنة 118 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 171)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 85)، وتهذيب الكمال للمزي (23/ 498)، وسير أعلام =
بأنفِه"
(1)
.
- وقول سعيد بن أبي عروبة
(2)
: "مَنْ لم يسمع الاختلافَ فلا تعدَّه عالمًا"
(3)
.
الطريق الثالث: التقاءُ علماءِ المذاهب الفقهيةِ لدراسةِ ما يهم المسلمين.
إنَّ مكانةَ العلماءِ في نفوسِ المسلمين مكانةٌ كبيرةٌ، فهم ممَّنْ يُقتدى بهم في أقوالِهم وتصرفاتِهم، وإذا رأى المتمذهبون وأربابُ المذاهبِ علماءَهم كيفَ يصنعون إذا التقوا، فإنَّ هذه الصورةَ المشرقةَ مِنْ شأنِها أنْ تَمْحِي آثارًا سلبيةَ كثيرةَ عالقةً في تصرفاتِ بعضِ المتمذهبين؛ لأنَّها تطبيقٌ عمليٌ لما يجبُ أنْ يكونَ عليه علماءُ المذاهبِ.
ولقد أسهمت المجامعُ والمحافلُ والمؤتمراتُ الفقهية في التقاءِ العلماءِ مِنْ مختلفِ المذاهب، فنظروا في المسائلِ العديدةِ، واجتهدوا اجتهادًا جماعيًا؛ للتوصلِ إلى أَحكامِها
(4)
.
= النبلاء (5/ 269)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 122)، وطبقات المفسرين للداوودي (2/ 47).
(1)
أخرج قول قتادة: ابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 814 - 815)، بالرقمين (1520، 1522).
(2)
هو: سعيد بن أبي عروبة مهران العدوي مولاهم، أبو النضر البصري، كان إمامًا حافظًا عالم أهل البصرة، ومن أوائل من صنف في السنة النبوية، ثقةً مأمونًا، أخذ الحديث عن الحسن وابن سيرين وجماعة، يقول أبو عوانة:"لم يكن عندنا في الزمان أحدٌ أحفظ من سعيد بن أبي عروبة"، وقال عنه الإمام أحمد:"كان يقول بالقدر ويكتم ذلك! "، وعلق الذهبي على عبارة الإمام أحمد بأنه لعله تاب ورجع، توفي سنة 156 هـ وقيل: 157 هـ وهو في عشر الثمانين.
انظر ترجمته في: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 65)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 221)، وتهذيب الكمال للمزي (11/ 5)، وسير أعلام النبلاء (6/ 413)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 177).
(3)
"أخرج قول سعيد: ابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 815)، برقم (1521)، و (2/ 819)، برقم (1536).
(4)
انظر: بحوث فقهية مقارنة للدكتور محمد الدريني (1/ 97)، والفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد للدكتور يوسف القرضاوي (ص/ 39).
وقد عدَّ الشيخُ مصطفى الزرقا التقاءَ العلماءِ في هذه المحافلِ الفقهيةِ لدراسةِ النوازلِ بعثًا للاجتهادِ مِنْ مرقدِه في صورةٍ جماعيةٍ
(1)
.
الطريق الرابع: تربيةُ المتمذهبِ على احترامِ المذاهبِ وأهلِها
(2)
.
إنَّ التنشئةَ على حبِّ العلمِ، وحبِّ أهلِه، واحترامِهم مِنْ الأهميةِ بمكان.
وممَّا يساعدُ في هذا الجانب: الاهتمامُ بالكتبِ التي ألّفها علماؤنا في الآدابِ الشرعيةِ عمومًا، وآدابِ طالبِ العلمِ على وجهِ الخصوصِ.
وإذا كان المتمذهبُ عارفًا للأئمةِ قدرَهم، محبًّا للإنصافِ، متحليًّا بالآداب، فإنَّه سيتجنبُ الوقوعَ في التعصبِ وذيولِه
(3)
.
يقولُ أبو الوفاءِ بنُ عقيل: "كانتْ أيدي الحنابلة مبسوطةً في أيامِ ابنِ يوسفَ
(4)
، فكانوا يستطيلون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروعِ، حتى لا يُمَكّنوهم مِن الجهرِ والقنوتِ، وهي مسألةٌ اجتهاديةٌ
…
فلمَّا ماتَ ابنُ يوسفَ، وزالتْ شوكةُ الحنابلةِ، استطالَ عليهم أصحابُ الشافعي استطالةَ السلاطين الظلمة
…
فتدبرتُ أمرَ الفريقين، فإذا بهم لم تعمل فيهم آدابُ العلمِ، وهل هذه إلا أفعالُ الأجنادِ؟ !
…
"
(5)
.
(1)
انظر: المدخل الفقهي العام (1/ 251).
(2)
انظر: منهج ابن تيمية في الفقه للدكتور سعود العطيشان (ص/ 155).
(3)
انظر: المذاهب الفقهية الإسلامية لمحمد تاجا (ص/ 246).
(4)
هو: عبد الملك بن محمد بن يوسف البغدادي، أبو منصور، ولد سنة 395 هـ يعرف بالشيخ الأجل، كان أوحد وقته في فعل الخيرات، ودوام الصدقة، والإفضال على العلماء، والقيام بأمورهم، والتحمل لمؤنهم، والنصر لأهل السنة، والقمع لأهل البدعة، ذا جاه عريض، واتصال بالخليفة توفي سنة 460 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (12/ 192)، وسير أعلام النبلاء (18/ 333)، وتاريخ الإسلام للذهبي (10/ 120)، والبداية والنهاية (16/ 15).
(5)
نقل كلامَ ابن عقيل: ابنُ مفلح في: الفروع (3/ 22)، والبهوتيُّ في: كشاف القناع (3/ 205).
وقد دعا الإمامُ الشوكانيُّ طلابَ العلمِ إلى أنْ يوطنوا أنفسَهم على الإنصافِ، وعدمِ التعصب لمذهب من المذاهب، ولا لعالم من العلماءِ، فمَنْ صَنَعَ ذلك فقد فاز بأعَظمِ فوائَدِ العلمِ
(1)
.
وقد ذَكَرَ الشيخُ محمد الطاهر بنُ عاشور أنَّ مِنْ أسباب تأخرِ التعليم: "عُرُوُّ التعليم عن مادة الآداب وتهذيب الأخلاقِ، وشرحِ العوائدِ النافعةِ وغيرِها، وهو السبب الذي قَضَى على المسلمين بالانحطاطِ في الأخلاقِ والعوائدِ"
(2)
.
ويتصل بهذا الطريق أمران:
الأمر الأول: أنْ يتعلمَ أربابُ المذاهبِ، ويرسخَ في أذهانِهم أنَّ أئمتهم قد تخرجوا في مدارس متقاربةٍ، فأصولُهم متقاربةٌ، وكانتْ بينهم رَحِمُ العلمِ؛ إذ دَرَسَ بعضُ الأئمةِ على غيرِه من الأئمة
(3)
، فالإمامُ الشافعي تلميذُ الإمامِ مالكٍ، والإمامُ أحمدُ تتلمذ للإمامِ الشافعي.
فمعرفةُ المتمذهبين بقربِ مذاهبِهم مِنْ بعضها في أصولِها، وبوقوع المحبةِ فيما بين أئمتِهم، دافعةٌ لهم أنْ يتّبعوا إمامَهم في هذا الأمرِ، وأنْ ينزعَ فتيلَ التعصبِ مِنْ قلوبِهم
(4)
.
الأمر الثاني: أنْ يقومَ علماءُ المذاهب العارفون بالآثارِ السلبيةِ بتحذيرِ أرباب مذهبِهم منها؛ لئلا يقعوا فيها، أو يتلَبسوا بشيءِ منها
(5)
.
(1)
انظر: أدب الطلب (ص/ 89).
(2)
أليس الصبح بقريب (ص/ 124).
(3)
انظر: المدخل إلى دراسة المذاهب للدكتور عمر الأشقر (ص/ 261)، والوسيط في تاريخ التشريع للدكتور أحمد الشرقاوي (ص/ 242).
(4)
انظر: المدخل إلى دراسة المذاهب للدكتور عمر الأشقر (ص/ 264).
(5)
انظر: أليس الصبح بقريب لابن عاشور (ص/ 135)، وشرائط الاجتهاد بين النظرية والتطبيق المعاصر للدكتور عبد المعز حريز، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد:(50)، (ص/ 284).
الطريق الخامس: العنايةُ بالتخصصِ العلمي.
ممَّا هو معلومٌ أنَّ العلمَ الواحدَ بحورٌ زاخرةٌ، وممَّا يسهمُ في ضبطِه أنْ يتخصصَ المتمذهبُ في علمٍ - أو فنٍ - بحيثُ يتقنُه ويستوعبُه، ويستوفي مقاصدَه وأغراضَه.
إنَّ المتخصصَ في العلمِ أقربُ إلى الاهتمامِ بالدليلِ، وإلى تركِ التعصبِ ونبذِه، والدراسةُ المتخصصةُ مِنْ أفضلِ أساليبِ التأليفِ في العصرِ الحاضرِ
(1)
.
بل إنَّ الاهتمامَ بموضوعاتٍ وأبوابٍ محددةٍ في العلمِ الواحدِ - إذا كان واسعًا مترامي الأطراف كالفقه مثلًا - أحرى بصاحبِه إلى ضبطِ مسائلِه وإتقانِها، ومعرفةِ أدلتِها.
ومِنْ شأنِ المتخصصِ إذا كان ذا أهليةٍ أنْ يكونَ منصفًا، دقيقًا في آرائه
(2)
، ذا قدرةٍ على النقدِ والابتكارِ.
وقد جاء عن بعضِ العلماءِ المتقدمين الحثُّ على التخصص في العلم: يقولُ الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 175 هـ): "إذا أردتَ أنْ تكونَ عالمًا، فاقصدْ لفنٍ مِنْ العلمِ، وإنْ أردتَ أنْ تكون أديبًا، فخذْ مِنْ كلِّ شيءٍ أحسنَه"
(3)
.
وحينَ بيّن الشيخُ محمد الطاهر بن عاشور أسبابَ تأخرِ المسلمين في علومِهم، ذَكَرَ مِنْ جملةِ الأسباب: إهمال التخصصِ، فبيّنه قائلًا: "طموحُ النفسِ إلى المشاركةِ في جميعِ العَلومِ، ممَّا جعل التآليف خليطًا مِن المسائلِ التي يتوقف بعضُها على فهمِ بعضٍ
…
وذلك حال دونَ أهلِ العلمِ، ودونَ
(1)
انظر: المدخل لدراسة الفقه للدكتور شوقي الساهي (ص/ 146).
(2)
انظر: التعليم والإرشاد لمحمد النعساني (ص/ 223)، ونصائح منهجية لحاتم العوني (ص/ 38).
(3)
نقل كلامَ الخليل بن أحمد ابنُ عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (1/ 522).
تحقيقِ علم مِن العلومِ ينبغون فيه؛ لأنَّ الزمانَ أقصرُ مِن استيفاءِ حاجةِ كلِّ العلومِ، لاسيما مع اختلالِ التعليمِ، ولإهمالِ الناسِ هذا الصلاح وقفوا عند حدودِ الأولين، بلْ نقصوا عنهم؛ لأنَّ المتقدمين لم يكونوا يبرزون إلا في فنٍ واحدٍ، وهو الاختصاص؛ ولذا ظهرتْ فيهم أئمةٌ مشاهير"
(1)
.
وألفتُ النظرَ إلى أنَّ بروزَ المتمذهب في الفقهِ على وجهِ الخصوصِ، وإبداعَه فيه موكولٌ إلى مهارتِه الأصوليةِ، وَمعرفته الدقيقة بعلمِ أصولِ الفقهِ.
الطريق السادس: العنايةُ بطرقِ التعليمِ.
إنَّ طرقَ التعليمِ متعددةٌ، وليست الأقطارُ على طريقٍ تعليميةٍ واحدةٍ، وكلٌّ يتبعُ ما يراه مفيدًا، وحسنُ اتخاذِ الطريقِ يؤدي إلى نتيجةِ أفضل؛ فإذا تعلمَ المتمذهبُ بالترقي في العلمِ
(2)
، فَفَهِمَ مسائلَه، ثمّ اهتمَّ بالنظرِ في الأدلةِ وما يتصلُ بها، وتكونت لديه الملكةُ، بحيثُ يصبح بمقدورِه أنْ يفهمَ المسائلَ العويصةَ والمغلقةَ والمبهمةَ، ويوضحَها: فإنَّ هذا مِنْ شأنه أنْ يرسّخَ الطالبَ في المذهب، وأنْ يكون ذا دربةٍ للنظرِ في الأدلةِ والاستنباطِ منها
(3)
.
يقولُ الشيحُ محمدٌ الحجوي ناصحًا للأساتذةِ وشيوخِ الطلاب: "ليْتَنَا نمرّنُ طلبةَ الفقهِ على النظرِ في الآياتِ القرآنيةِ المتعلقةِ بالأحكامِ، وحَفظِها، وفهمِها فهمًا استقلاليًا يوافقُ ما كان يفهمه منها قريشٌ الذين نزَلَ بلغتِهم، وعلى النظرِ في السنةِ الصالحةِ للاستدلالِ، وحفظِها وإتقانِها، وفهمِها كذلك، ونمرنُهم على اللغةِ العربية، وأصولِ الفقه
…
ولن يُصْلِحَ آخر هذه الأمة إلا ما صَلَحَ عليه أولُها"
(4)
.
(1)
أليس الصبح بقريب (ص/178).
(2)
انظر: المصدر السابق (ص/ 127)، والتعليم والإرشاد لمحمد النعساني (ص/ 204 وما بعدها، و 220 وما بعدها).
(3)
انظر: مقدمة ابن خَلدون (3/ 1243)، والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (1/ 251).
(4)
الفكر السامي (4/ 394).
وفي العصرِ الحديثِ أسهمت الدراساتُ العلميةُ المتخصصةُ في مجالي الفقه وأصوله في معالجةِ كثيرٍ من المسائلِ بعيدةً عن التعصبِ والآثارِ السلبيةِ الأخرى، يقولُ الشيخُ مصطفى الزرقا مادحًا هذه الأطروحات العلمية: "وُجِدتْ رسائلُ ماجستير ودكتوراه في موضوعاتٍ فقهيةٍ كثيرةٍ، تستوعبُ كلَّ موضوعٍ وتناقشُه بتعمّقٍ مِنْ مختلف جوانبِه، وتغني الباحثين والمراجعين
…
"
(1)
.
* * *
(1)
المدخل الفقهي العام (1/ 252).