الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . فَإِنْ عَجَزَ عَنْ إقَامَتِهَا، أَوْ تَضَرَّرَ بِهَا، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] .
[فَصْلٌ أَخْذُ الْجَعْلِ عَلَى الشَّهَادَةِ]
(8349)
فَصْلٌ: وَمَنْ لَهُ كِفَايَةٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ فَرْضٍ، فَإِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ وَقَعَ مِنْهُمْ فَرْضًا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ كِفَايَةٌ، وَلَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ حَلَّ لَهُ أَخْذُهُ؛ وَالنَّفَقَةَ عَلَى عِيَالِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، فَلَا يَشْتَغِلُ عَنْهُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا أَخَذَ الرِّزْقَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ، احْتَمَلَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِئَلَّا يَأْخُذَ الْعِوَضَ عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ عَيْنٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ لِمَنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
[مَسْأَلَة الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِمَا عَلِمَهُ]
(8350)
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَمَا أَدْرَكَهُ مِنْ الْفِعْلِ نَظَرًا، أَوْ سَمِعَهُ تَيَقُّنًا، وَإِنْ لَمْ يَرَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، شَهِدَ بِهِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِمَا عَلِمَهُ؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] . وَتَخْصِيصُهُ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالسُّؤَالِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْفُؤَادِ، وَهُوَ يَسْتَنِدُ إلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ؛ وَلِأَنَّ مَدْرَكَ الشَّهَادَةِ الرُّؤْيَةُ وَالسَّمَاعُ، وَهُمَا بِالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ:«سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الشَّهَادَةِ، قَالَ: هَلْ تَرَى الشَّمْسَ؟ . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ» . رَوَاهُ الْخَلَّالُ، فِي " الْجَامِعِ " بِإِسْنَادِهِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ مَدْرَكَ الْعِلْمِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ اثْنَانِ، الرُّؤْيَةُ وَالسَّمَاعُ، وَمَا عَدَاهُمَا مِنْ مَدَارِكِ الْعِلْمِ كَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ، لَا حَاجَةَ إلَيْهَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْأَغْلَبِ. فَأَمَّا مَا يَقَعُ بِالرُّؤْيَةِ، فَالْأَفْعَالُ؛ كَالْغَصْبِ، وَالْإِتْلَافِ، وَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الْمَرْئِيَّةُ؛ كَالْعُيُوبِ فِي الْمَبِيعِ، وَنَحْوِهَا، فَهَذَا لَا تُتَحَمَّلُ الشَّهَادَةُ فِيهِ إلَّا بِالرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ قَطْعًا، فَلَا يُرْجَعُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا السَّمَاعُ فَنَوْعَانِ؛
أَحَدُهُمَا، مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، مِثْلُ الْعُقُودِ؛ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَقْوَالِ، فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلَا تُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ الْمُتَعَاقِدِينَ، إذَا عَرَفَهُمَا وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ كَلَامُهُمَا. وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَشُرَيْحٌ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، إلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ حَتَّى يُشَاهِدَ الْقَائِلُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ تَشْتَبِهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، كَالْخَطِّ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَقِينًا، فَجَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ رَآهُ.
وَجَوَازُ اشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ كَجَوَازِ اشْتِبَاهِ الصُّوَرِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ لِمَنْ عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَقِينًا، وَقَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالسَّمَاعِ يَقِينًا، وَقَدْ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ بِتَجْوِيزِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَةُ الْأَعْمَى، وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ مَحَارِمِهِنَّ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي، فَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذَا. (8351) فَصْلٌ: إذَا عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ وَنَسَبِهِ، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ، حَاضِرًا كَانَ أَوْ غَائِبًا، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ، وَجَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ حَاضِرًا بِمَعْرِفَةِ عَيْنِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ شَهِدَ لَرَجُلٍ بِحَقِّ لَهُ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ اسْمَ هَذَا، وَلَا اسْمَ هَذَا، إلَّا أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ، فَقَالَ: إذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِهَذَا عَلَى هَذَا. وَهُمَا شَاهِدَانِ جَمِيعًا، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، فَلَا يَشْهَدُ حَتَّى يَعْرِفَ اسْمَهُ. (8352) فَصْلٌ: وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ، فِي أَنَّهُ إذَا عَرَفَهَا وَعَرَفَ اسْمَهَا وَنَسَبَهَا، جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا مَعَ غَيْبَتِهَا. وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا، لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهَا مَعَ غَيْبَتِهَا. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ: لَا تَشْهَدْ إلَّا لِمَنْ تَعْرِفُ، وَعَلَى مَنْ تَعْرِفُ، وَلَا يَشْهَدُ إلَّا عَلَى امْرَأَةٍ قَدْ عَرَفَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ قَدْ عَرَفَ اسْمَهَا، وَدُعِيَتْ، وَذَهَبَتْ، وَجَاءَتْ، فَلْيَشْهَدْ، وَإِلَّا فَلَا يَشْهَدْ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْرِفْهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ غَيْبَتِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى عَيْنِهَا إذَا عَرَفَ عَيْنَهَا، وَنَظَرَ إلَى وَجْهِهَا. قَالَ أَحْمَدُ وَلَا يَشْهَدُ عَلَى امْرَأَةٍ، حَتَّى يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَعْرِفَتَهَا. فَأَمَّا مَنْ تَيَقَّنَ مَعْرِفَتَهَا، وَتَعَرَّفَ بِصَوْتِهَا يَقِينًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا إذَا تَيَقَّنَ صَوْتَهَا، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا. فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، فَعَرَفَهُ عِنْدَهُ مَنْ يَعْرِفُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ إلَّا بِمَعْرِفَتِهِ لَهَا. وَقَالَ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ لِلرَّجُلِ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ فُلَانَةُ. وَيَشْهَدَ عَلَى