الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدَّنَاءَةِ. وَإِذَا كَانَتْ الْمُرُوءَةُ مَانِعَةً مِنْ الْكَذِبِ، اُعْتُبِرَتْ فِي الْعَدَالَةِ، كَالدِّينِ، وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذَا مُخْتَفِيًا بِهِ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ مُرُوءَتَهُ لَا تَسْقُطُ بِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ مَرَّةً، أَوْ شَيْئًا قَلِيلًا، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ صَغِيرَ الْمَعَاصِي لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ إذَا قَلَّ، فَهَذَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمُرُوءَةَ لَا تَخْتَلُّ بِقَلِيلِ هَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ عَادَتَهُ. النَّوْعُ الثَّانِي، فِي الصِّنَاعَاتِ الدَّنِيئَةِ؛ كَالْكُسَاحِ وَالْكَنَّاسِ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ " أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: إنِّي رَجُلٌ كَنَّاسٌ، فَقَالَ: أَيَّ شَيْءٍ تَكْنُسُ، الزِّبْلَ؟ . قَالَ: لَا. قَالَ: الْعَذِرَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْهُ كَسَبْتَ الْمَالَ، وَمِنْهُ تَزَوَّجْت، وَمِنْهُ حَجَجْت؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: الْأَجْرُ خَبِيثٌ، وَمَا تَزَوَّجْت خَبِيثٌ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْهُ كَمَا دَخَلْت فِيهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ فِي الْكُسَاحِ. وَلِأَنَّ هَذَا دَنَاءَةٌ يَجْتَنِبُهُ أَهْلُ الْمُرُوءَاتِ، فَأَشْبَهَ الَّذِي قَبْلَهُ.
فَأَمَّا الزَّبَّالُ وَالْقَرَّادُ وَالْحَجَّامُ وَنَحْوُهُمْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ دَنَاءَةٌ يَجْتَنِبُهُ أَهْلُ الْمُرُوءَاتِ، فَهُوَ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. وَالثَّانِي، تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةً. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، إنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ يَتَنَظَّفُ لِلصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَيُصَلِّيهَا، فَإِنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَأَمَّا الْحَائِكُ وَالْحَارِسُ وَالدَّبَّاغُ، فَهِيَ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الصَّنَائِعِ، فَلَا تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ. وَذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ فِي جُمْلَةِ مَا فِيهِ وَجْهَانِ.
وَأَمَّا سَائِرُ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَا دَنَاءَةَ، فِيهَا فَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهَا، إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَحْلِفُ كَاذِبًا، أَوْ يَعِدُ وَيُخْلِفُ، وَغَلَبَ هَذَا عَلَيْهِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ تُرَدُّ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ أَوْقَاتِهَا، أَوْ لَا يَتَنَزَّهُ عَنْ النَّجَاسَاتِ، فَلَا شَهَادَةَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ صِنَاعَتُهُ مُحَرَّمَةً؛ كَصَانِعِ الْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ، فَلَا شَهَادَةَ لَهُ. وَمَنْ كَانَتْ صِنَاعَتُهُ يَكْثُرُ فِيهَا الرِّبَا، كَالصَّائِغِ وَالصَّيْرَفِيِّ، وَلَمْ يَتَوَقَّ ذَلِكَ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ.
[فَصْل مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ لَعِبَ الْقِمَار لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَته]
(8361)
فَصْلٌ: فِي اللَّعِبِ: كُلُّ لَعِبٍ فِيهِ قِمَارٌ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ، أَيَّ لَعِبٍ كَانَ، وَهُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهِ، وَمَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ. وَمَا خَلَا مِنْ الْقِمَارِ، وَهُوَ اللَّعِبُ الَّذِي لَا عِوَضَ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا، فَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ؛ فَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَاللَّعِبُ بِالنَّرْدِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَكْرُوهٌ، غَيْرُ مُحَرَّمٍ.
وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو مُوسَى، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . وَرَوَى بُرَيْدَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إذَا مَرَّ عَلَى أَصْحَابِ النَّرْدَشِيرِ، لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللَّعِبُ بِهِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، سَوَاءٌ لَعِبَ بِهِ قِمَارًا أَوْ غَيْرَ قِمَارٍ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ مَالِكٌ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ، فَلَا أَرَى شَهَادَتَهُ طَائِلَةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] . وَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْحَقِّ، فَيَكُونُ مِنْ الضَّلَالِ.
(8362)
فَصْلٌ: فَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَهُوَ كَالنَّرْدِ فِي التَّحْرِيمِ، إلَّا أَنَّ النَّرْدَ آكَدُ مِنْهُ فِي التَّحْرِيمِ؛ لِوُرُودِ النَّصِّ فِي تَحْرِيمِهِ، لَكِنْ هَذَا فِي مَعْنَاهُ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُهُ، قِيَاسًا عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ مِمَّنْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِهِ؛ عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمَ وَسَالِمًا، وَعُرْوَةَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمَطَرًا الْوَرَّاقَ، وَمَالِكًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى إبَاحَتِهِ.
وَحَكَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَلَمْ يَرِدْ بِتَحْرِيمِهَا نَصٌّ، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَتَبْقَى عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَيُفَارِقُ الشِّطْرَنْجُ النَّرْدَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ فِي الشِّطْرَنْجِ تَدْبِيرَ الْحَرْبِ، فَأَشْبَهَ اللَّعِبَ بِالْحِرَابِ، وَالرَّمْيَ بِالنُّشَّابِ، وَالْمُسَابَقَةَ بِالْخَيْلِ. وَالثَّانِي، أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي النَّرْدِ مَا يُخْرِجُهُ الْكَعْبَتَانِ، فَأَشْبَهَ الْأَزْلَامَ، وَالْمُعَوَّلَ فِي الشِّطْرَنْجِ عَلَى حِذْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَأَشْبَهَ الْمُسَابَقَةَ بِالسِّهَامِ. وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] .
قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: الشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمَيْسِرِ. وَمَرَّ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى قَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ، فَقَالَ:(مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) . قَالَ أَحْمَدُ: أَصَحُّ مَا فِي الشِّطْرَنْجِ، قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَرَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ عز وجل يَنْظُرُ