الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفِي مَعْنَى الْغَضَبِ كُلُّ مَا شَغَلَ فِكْرَهُ مِنْ الْجُوعِ الْمُفْرِطِ، وَالْعَطَشِ الشَّدِيدِ، وَالْوَجَعِ الْمُزْعِجِ، وَمُدَافَعَةِ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَشِدَّةِ النُّعَاسِ، وَالْهَمِّ، وَالْغَمِّ، وَالْحُزْنِ، وَالْفَرَحِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا تَمْنَعُ الْحَاكِمَ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ، وَاسْتِيفَاءَ الْفِكْرِ، الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْغَالِبِ، فَهِيَ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَتَجْرِي مَجْرَاهُ. فَإِنْ حَكَمَ فِي الْغَضَبِ أَوْ مَا شَاكَلَهُ، فَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي، أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَقَالَ فِي " الْمُجَرَّدِ ": يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رُوِيَ، أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اخْتَصَمَ إلَيْهِ الزُّبَيْرُ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ، ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إلَى جَارِك. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ، ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجُدُرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَحَكَمَ فِي حَالِ غَضَبِهِ. وَقِيلَ: إنَّمَا يَمْنَعُ الْغَضَبُ الْحَاكِمَ إذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَّضِحَ لَهُ الْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَأَمَّا إنَّ اتَّضَحَ الْحُكْمُ، ثُمَّ عَرَضَ الْغَضَبُ، لَمْ يَمْنَعْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ اسْتَبَانَ قَبْلَ الْغَضَبِ، فَلَا يُؤَثِّرُ الْغَضَبُ فِيهِ.
[مَسْأَلَةٌ الْحَاكِمَ إذَا حَضَرَتْهُ قَضِيَّةٌ مُشْكِلَة]
(8231)
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا نَزَلَ بِهِ الْأَمْرُ الْمُشْكِلُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، شَاوَرَ فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْأَمَانَةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَضَرَتْهُ قَضِيَّةٌ تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، أَوْ إجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ، حَكَمَ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ؛ «لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ . قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ . قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَلَا آلُو. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الِاجْتِهَادِ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُشَاوِرَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] . قَالَ الْحَسَنُ: إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَغَنِيًّا عَنْ مُشَاوَرَتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ
بِذَلِكَ الْحُكَّامُ بَعْدَهُ. وَقَدْ شَاوَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَفِي مُصَالَحَةِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَفِي لِقَاءِ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَرُوِيَ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَشَاوَرَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، وَعُمَرُ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، وَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ.
وَرُوِيَ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَكُونُ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، إذَا نَزَلَ بِهِ الْأَمْرُ شَاوَرَهُمْ فِيهِ. وَلَا مُخَالِفَ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ: لَمَّا وَلِي سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ، كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ يُشَاوِرُهُمَا، وَوَلِيَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ قَضَاءَ الْكُوفَةِ، فَكَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ يُشَاوِرُهُمَا، مَا أَحْسَنَ هَذَا لَوْ كَانَ الْحُكَّامُ يَفْعَلُونَهُ، يُشَاوِرُونَ وَيَنْتَظِرُونَ. وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَبِهُ بِالْمُشَاوِرَةِ، وَيَتَذَكَّرُ مَا نَسِيَهُ بِالْمُذَاكَرَةِ، وَلِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ الْعُلُومِ مُتَعَذِّرَةٌ. وَقَدْ يَنْتَبِهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَةِ الْحَادِثَةِ مَنْ هُوَ دُونَ الْقَاضِي، فَكَيْفَ بِمَنْ يُسَاوِيهِ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه، جَاءَتْهُ الْجَدَّتَانِ، فَوَرَّثَ أُمَّ الْأُمِّ، وَأَسْقَطَ أُمَّ الْأَبِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، لَقَدْ أَسْقَطْت الَّتِي لَوْ مَاتَتْ وَرِثَهَا، وَوَرَّثْت الَّتِي لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا. فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَشْرَكَ بَيْنَهُمَا.
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ كَعْبَ بْنَ سَوَّارٍ، كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْت رَجُلًا قَطُّ أَفْضَلَ مِنْ زَوْجِي، وَاَللَّهِ إنَّهُ لَيَبِيتُ لَيْلَهُ قَائِمًا، وَيَظَلُّ نَهَارَهُ صَائِمًا فِي الْيَوْمِ الْحَارِّ مَا يُفْطِرُ. فَاسْتَغْفَرَ لَهَا، وَأَثْنَى عَلَيْهَا، وَقَالَ: مِثْلُك أَثْنَى الْخَيْرِ. قَالَ: وَاسْتَحْيَتْ الْمَرْأَةُ فَقَامَتْ رَاجِعَةً، فَقَالَ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَّا أَعْدَيْت الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا؟ قَالَ: وَمَا شَكَتْ؟ قَالَ: شَكَتْ زَوْجَهَا أَشَدَّ الشِّكَايَةِ. قَالَ: أَوْ ذَاكَ أَرَادَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الْمَرْأَةَ. فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِالْحَقِّ أَنْ تَقُولِيهِ، إنَّ هَذَا زَعَمَ أَنَّك جِئْت