الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَنَا، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا زَانٍ وَلَا زَانِيَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. الْغِمْرُ: الْحِقْدُ. وَلِأَنَّ الْعَدَاوَةَ تُورِثَ التُّهْمَةَ. فَتَمْنَعُ الشَّهَادَةَ، كَالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَتُخَالِفُ الصَّدَاقَةَ؛ فَإِنَّ فِي شَهَادَةِ الصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ بِالزُّورِ نَفْعَ غَيْرِهِ بِمَضَرَّةِ نَفْسِهِ، وَبَيْعَ آخِرَتِهِ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ يَقْصِدُ بِهَا نَفْعَ نَفْسِهِ، بِالتَّشَفِّي مِنْ عَدُوِّهِ، فَافْتَرَقَا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَبِلْتُمْ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ مَعَ الْعَدَاوَةِ؟ قُلْنَا: الْعَدَاوَةُ هَاهُنَا دِينِيَّةٌ، وَالدِّينُ لَا يَقْتَضِي شَهَادَةَ الزُّورِ، وَلَا أَنْ يَتْرُكَ دِينَهُ بِمُوجِبِ دِينِهِ.
[فَصْل شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِحَقِّ فَقَذَفَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ]
(8376)
فَصْلٌ: فَإِنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ، فَقَذَفَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَبْطَلْنَا شَهَادَتَهُ بِهَذَا لَتَمَكَّنَ كُلُّ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ مِنْ إبْطَالٍ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِأَنْ يَقْذِفَهُ، وَيُفَارِقُ مَا لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَقَبْلَ الْحُكْمِ، فَإِنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ فِيهِ لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ، بَلْ إلَى عَكْسِهِ، وَلِأَنَّ طَرَيَان الْفِسْقِ يُورِثُ تُهْمَةً فِي حَالِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ إسْرَارُهُ، فَظُهُورُهُ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُسِرُّهُ حَالَةَ أَدَائِهَا، وَهَا هُنَا حَصَلَتْ الْعَدَاوَةُ بِأَمْرِ لَا تُهْمَةَ عَلَى الشَّاهِدِ فِيهِ.
وَأَمَّا الْمُحَاكَمَةُ فِي الْأَمْوَالِ، فَلَيْسَتْ بِعَدَاوَةِ تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ فِي غَيْرِ مَا حَاكِمَ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا جَارٍ إلَى نَفْسِهِ. فَإِنَّ الْجَارَ إلَى نَفْسِهِ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِشَهَادَتِهِ، وَيَجُرُّ إلَيْهِ بِهَا نَفْعًا؛ كَشَهَادَةِ الْغُرَمَاءِ لِلْمُفْلِسِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ، وَشَهَادَتِهِمْ لِلْمَيِّتِ بِدَيْنٍ أَوْ مَالٍ، فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لِلْمُفْلِسِ أَوْ الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ مَالٌ، تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهُمْ بِهِ، وَيُفَارِقُ مَا لَوْ شَهِدَ الْغُرَمَاءُ لَحَيٍّ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ بِمَالٍ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ مُعْسِرًا سَقَطَتْ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ، فَإِذَا شَهِدَا لَهُ بِمَالٍ، مَلَكَا مُطَالَبَتَهُ، فَجَرُّوا إلَى أَنْفُسِهِمْ نَفْعًا. قُلْنَا: لَمْ تَثْبُتْ الْمُطَالَبَةُ بِشَهَادَتِهِمْ، إنَّمَا تَثْبُتُ بِيَسَارِهِ وَإِقْرَارِهِ؛ لِدَعْوَاهُ الْحَقَّ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَارِثِ لِلْمَوْرُوثِ بِالْجَرْحِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْرِي الْجَرْحُ إلَى نَفْسِهِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ لَهُمْ بِشَهَادَتِهِمْ. وَلَا شَهَادَةُ الشَّفِيعِ بِبَيْعِ شِقْصٍ لَهُ فِيهِ الشُّفْعَةُ. وَلَا شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلَا لِمُكَاتَبِهِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِمَنْ اسْتَأْجَرَهُ. وَقَالَ: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ قَبِلْتُمْ شَهَادَةَ الْوَارِثِ لِمَوْرُوثِهِ، مَعَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَرِثَهُ، فَقَدْ جَرَّ إلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ نَفْعًا؟
قُلْنَا: لَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِهِ حِينَ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ حَقٌّ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ لَامْرَأَةٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، أَوْ لِغَرِيمِ لَهُ بِمَالٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُوَفِّيَهُ مِنْهُ، أَوْ يُفْلِسَ، فَيَتَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مَا يَحْصُلُ لِلشَّاهِدِ بِهِ نَفْعٌ حَالَ الشَّهَادَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ مَنَعْتُمْ قَبُولَ شَهَادَتِهِ لِمَوْرُوثِهِ بِالْجَرْحِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ حَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقٌّ فِي الْحَالِ، فَإِنْ قُلْتُمْ: قَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ حَقِّهِ. قُلْنَا: يَبْطُلُ بِالشَّاهِدِ لِمَوْرُوثِهِ الْمَرِيضِ بِحَقٍّ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ تُقْبَلُ مَعَ انْعِقَادِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ عَطِيَّتَهُ لَهُ لَا تَنْفُذُ، وَعَطِيَّتَهُ لِغَيْرِهِ تَقِفُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الثُّلُثِ. قُلْنَا: إنَّمَا مَنَعْنَا الشَّهَادَةَ لِمَوْرُوثِهِ بِالْجَرْحِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الْمَوْتِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلْوَارِثِ الشَّاهِدِ بِهِ ابْتِدَاءً، فَيَكُونُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ، مُوجِبًا لَهُ بِهَا حَقًّا ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ الشَّاهِدِ لِلْمَرِيضِ أَوْ الْمَجْرُوحِ بِمَالٍ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَنْتَقِلَ، فَلَمْ يَمْنَعْ الشَّهَادَةَ لَهُ، كَالشَّهَادَةِ لِغَرِيمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَجَزْتُمْ شَهَادَةَ الْغَرِيمِ لِغَرِيمِهِ بِالْجَرْحِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ، كَمَا أَجَزْتُمْ شَهَادَتَهُ لَهُ بِمَالِهِ؟ . قُلْنَا: إنَّمَا أَجَزْنَاهَا لِأَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ لِلشَّاهِدِ ابْتِدَاءً، إنَّمَا تَجِبُ لِلْقَتِيلِ، أَوْ لِوَرَثَتِهِ، ثُمَّ يَسْتَوْفِي الْغَرِيمُ مِنْهَا، فَأَشْبَهَتْ الشَّهَادَةَ لَهُ بِالْمَالِ. وَأَمَّا الدَّافِعُ عَنْ نَفْسِهِ، فَمِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِجَرْحِ الشُّهُودِ، أَوْ تَشْهَدَ عَاقِلَةُ الْقَاتِلِ خَطَأً بِجَرْحِ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الدِّيَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ بِالْجَرْحِ فَقِيرَيْنِ، اُحْتُمِلَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَحْمِلَانِ شَيْئًا مِنْ الدِّيَةِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تُقْبَلَ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ أَنْ يُوسِرَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَيَحْمِلَا.
وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي الْبَعِيدِ الَّذِي لَا يَحْمِلُ لِبُعْدِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَمُوتَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَيَحْمِلَ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ بِقَضَاءِ الْحَقِّ، أَوْ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ. وَلَا شَهَادَةُ أَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِإِسْقَاطِ شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوَفِّرُ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَا شَهَادَةُ بَعْضِ غُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ عَلَى بَعْضِهِمْ بِإِسْقَاطِ دَيْنِهِ، أَوْ اسْتِيفَائِهِ. وَلَا بَعْضِ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِمَالٍ عَلَى آخَرَ، بِمَا يُبْطِلُ وَصِيَّتَهُ، إذَا كَانَتْ وَصِيَّتُهُ تَحْصُلُ بِهَا مُزَاحَمَتُهُ؛ إمَّا لِضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهُمَا، أَوْ لِكَوْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ بِمُعَيَّنٍ.
فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهِ مُتَّهَمٌ؛ لِمَا يَحْصُلُ بِشَهَادَتِهِ مِنْ نَفْعِ نَفْسِهِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، فَيَكُونُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ. وَقَدْ قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْإِسْلَامِ، أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ خَصْمٍ، وَلَا ظَنِينٍ. وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ. وَرَوَى طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ:«قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا شَهَادَةَ لَخَصْمٍ، وَلَا ظَنِينٍ» . وَمِمَّنْ رَدَّ شَهَادَةَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ شُرَيْحٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا.