الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَصِيدَةَ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، وَفِيهَا التَّشْبِيبُ بِسُعَادَ. وَلَمْ يَزُلْ النَّاسُ يَرْوُونَ أَمْثَالَ هَذَا، وَلَا يُنْكَرُ.
وَرَوَيْنَا أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ دَخَلَ مَجْلِسًا فِيهِ رَجُلٌ يُغَنِّيهِمْ بِقَصِيدَةِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ، فَلَمَّا دَخَلَ النُّعْمَانُ سَكَّتُوهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ فِيهَا ذِكْرَ أُمِّهِ، فَقَالَ النُّعْمَانُ: دَعُوهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا، إنَّمَا قَالَ:
وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ النِّسَاءِ
…
تَنْفَحُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانَهَا
وَكَانَ عِمْرَانُ بْنُ طَلْحَةَ فِي مَجْلِسٍ، فَغَنَّاهُمْ رَجُلٌ بِشِعْرٍ فِيهِ ذِكْرُ أُمِّهِ، فَسَكَّتُوهُ مِنْ أَجْلِهِ، فَقَالَ: دَعُوهُ، فَإِنَّ قَائِلَ هَذَا الشِّعْرِ، كَانَ زَوْجَهَا. فَأَمَّا الشَّاعِرُ، فَمَتَى كَانَ يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَمْدَحُ بِالْكَذِبِ، أَوْ يَقْذِفُ مُسْلِمًا أَوْ مُسْلِمَةً، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ تُرَدُّ، وَسَوَاءٌ قَذَفَ الْمُسْلِمَةَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: أَعْظَمُ النَّاسِ ذَنْبًا، رَجُلٌ يُهَاجِي رَجُلًا، فَيَهْجُو الْقَبِيلَةَ بِأَسْرِهَا.
وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ أَبَا دُلَامَةَ شَهِدَ عِنْدَ قَاضٍ، أَظُنُّهُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، فَخَافَ أَنْ يَرُدَّ شَهَادَتَهُ. فَقَالَ:
إنْ النَّاسُ غَطَّوْنِي تَغَطَّيْت عَنْهُمْ
…
وَإِنْ بَحَثُوا عَنِّي فَفِيهِمْ مَبَاحِثُ
فَقَالَ الْقَاضِي: وَمَنْ يَبْحَثُك يَا أَبَا دُلَامَةَ. وَغَرِمَ الْمَالَ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَمْ يُظْهِرْ أَنَّهُ رَدَّ شَهَادَتَهُ.
[فَصْل شَهَادَة قَارِئ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ]
(8369)
فَصْلٌ: فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ: أَمَّا قِرَاءَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَلْحِينٍ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ حَسَّنَ صَوْتَهُ، فَهُوَ أَفْضَلُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ» . وَرُوِيَ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» . وَقَالَ: «لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد» .
وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي مُوسَى: لَقَدْ مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ، وَأَنْتَ تَقْرَأُ، وَلَقَدْ أُوتِيتُ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَسْمَعُ، لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا.» وَرُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَبْطَأَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَالَ: أَيْنَ كُنْت يَا عَائِشَةُ؟ . فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنْت أَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقْرَأُ أَحْسَنَ مِنْ قِرَاءَتِهِ. فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَمَعَ قِرَاءَته، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا» .
وَقَالَ صَالِحٌ: قُلْت لِأَبِي: " زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ ". مَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: أَنْ يُحْسِنَهُ. وَقِيلَ لَهُ: مَا مَعْنَى: " مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ ". قَالَ: يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِ. وَهَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يَتَحَزَّنُ بِهِ، وَيَتَخَشَّعُ بِهِ، وَيَتَبَاكَى بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَوَكِيعٌ: يَسْتَغْنِي بِهِ.
فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّلْحِينِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ؛ فَإِنْ لَمْ يُفْرِطْ فِي التَّمْطِيطِ وَالْمَدِّ وَإِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَرَأَ، وَرَجَّعَ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ. قَالَ الرَّاوِي: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيَّ، لَحَكَيْت لَكُمْ قِرَاءَتَهُ. وَقَالَ عليه السلام:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» . وَقَالَ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ» . وَمَعْنَى أَذِنَ: اسْتَمَعَ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
فِي سَمَاعٍ يَأْذَنُ الشَّيْخُ لَهُ
وَقَالَ الْقَاضِي: هُوَ مَكْرُوهٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» . أَيْ: يَسْتَغْنِي بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُنْت امْرَأً زَمِنًا بِالْعِرَاقِ
…
عَفِيفَ الْمُنَاخِ كَثِيرَ التَّغَنِّي
قَالَ: وَلَوْ كَانَ مِنْ الْغِنَاءِ بِالصَّوْتِ، لَكَانَ مَنْ لَمْ يُغَنِّ بِالْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِرْتِيُّ: هَذَا قَوْلُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ. وَقِيلَ: يُحَسِّنُ صَوْتَهُ بِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّلْحِينِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا، لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى التَّغَنِّيَ فِي حَدِيثِ:«مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ، كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» . عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى أَذِنَ: اسْتَمَعَ، وَإِنَّمَا تُسْتَمَعُ الْقِرَاءَةُ، ثُمَّ قَالَ: يَجْهَرُ بِهِ. وَالْجَهْرُ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ، لَا صِفَةُ الِاسْتِغْنَاءِ.
فَأَمَّا إنْ أَفْرَطَ فِي الْمَدِّ وَالتَّمْطِيطِ وَإِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ، بِحَيْثُ يَجْعَلُ الضَّمَّةَ وَاوًا، وَالْفَتْحَةَ أَلِفًا، وَالْكَسْرَةَ يَاءً، كُرِهَ ذَلِكَ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُحَرِّمُهُ؛ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ الْقُرْآنَ، وَيُخْرِجُ الْكَلِمَاتِ عَنْ وَضْعِهَا، وَيَجْعَلُ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُك؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قَالَ: أَيَسُرُّك أَنْ يُقَالَ لَك: يَا مُوحَامَدُ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ الْأَلْحَانَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَرَمُهُ مِثْلَ حَرَمِ أَبِي مُوسَى. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: فَيُكَلَّمُونَ؟ فَقَالَ: لَا. كُلُّ ذَا. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّحْزِينِ وَالتَّرْتِيلِ وَالتَّحْسِينِ.
وَرَوَى بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِالْحُزْنِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِالْحُزْنِ» .