الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ، وَيَكُونَ حَلِيمًا، مُتَأَنِّيًا، ذَا فِطْنَةٍ وَتَيَقُّظٍ، لَا يُؤْتَى مِنْ غَفْلَةٍ، وَلَا يُخْدَعُ لِغِرَّةٍ، صَحِيحَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، عَالِمًا بِلُغَاتِ أَهْلِ وِلَايَتِهِ، عَفِيفًا، وَرَعًا، نَزِهًا، بَعِيدًا مِنْ الطَّمَعِ، صَدُوقَ اللَّهْجَةِ، ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ، لِكَلَامِهِ لِينٌ إذَا قَرُبَ، وَهَيْبَةٌ إذَا أَوْعَدَ، وَوَفَاءٌ إذَا وَعَدَ، وَلَا يَكُونُ جَبَّارًا، وَلَا عَسُوفًا، فَيَقْطَعُ ذَا الْحُجَّةِ عَنْ حُجَّتِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَاضِيًا حَتَّى تَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ؛ عَفِيفٌ، حَلِيمٌ، عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ، يَسْتَشِيرُ ذَوِي الْأَلْبَابِ، لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه، قَالَ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ سَبْعُ خِلَالٍ، إنْ فَاتَتْهُ وَاحِدَةٌ كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: الْعَقْلُ، وَالْفِقْهُ، وَالْوَرَعُ، وَالنَّزَاهَةُ، وَالصَّرَامَةُ، وَالْعِلْمُ بِالسُّنَنِ، وَالْحِكَمِ. وَرَوَاهُ سَعِيدٌ. وَفِيهِ: يَكُونُ فَهِمَا، حَلِيمًا، عَفِيفًا، صُلْبًا، سَآَّلًا عَمَّا لَا يَعْلَمُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: مُحْتَمِلًا لِلْأَئِمَّةِ؛ وَلَا يَكُونُ ضَعِيفًا، مَهِينًا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْسُطُ الْمُتَخَاصِمِينَ إلَى التَّهَاتُرِ وَالتَّشَاتُمِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَأَعْزِلَنَّ فُلَانًا عَنْ الْقَضَاءِ، وَلِأَسْتَعْمِلَن رَجُلًا إذَا رَآهُ الْفَاجِرُ فَرَّقَهُ.
(8224)
فَصْلٌ: وَلَهُ أَنْ يَنْتَهِرَ الْخَصْمَ إذَا الْتَوَى، وَيَصِيحَ عَلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ عَزَّرَهُ بِمَا يَرَى مِنْ أَدَبٍ أَوْ حَبْسٍ. وَإِنْ افْتَاتَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ: حَكَمْت عَلَيَّ بِغَيْرِ الْحَقِّ. أَوْ: ارْتَشَيْت. فَلَهُ تَأْدِيبُهُ. وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ.
وَإِنْ بَدَأَ الْمُنْكِرُ بِالْيَمِينِ، قَطَعَهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى خَصْمِك. فَإِنْ عَادَ نَهَرَهُ، فَإِنْ عَادَ عَزَّرَهُ إنْ رَأَى. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إسَاءَةُ الْأَدَبِ، فَلَهُ مُقَابَلَةُ فَاعِلِهِ، وَلَهُ الْعَفْوُ.
[فَصْلٌ الْقَضَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ]
(8225)
فَصْلٌ: وَإِنْ وَلَّى الْإِمَامُ رَجُلًا الْقَضَاءَ، فَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ، فَأَرَادَ السَّيْرَ إلَى بِلَادِ وِلَايَتِهِ، بَحَثَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ، وَيَتَعَرَّفَ مِنْهُمْ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، سَأَلَ فِي طَرِيقِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، سَأَلَ إذَا دَخَلَ الْبَلَدَ عَنْ أَهْلِهِ، وَمَنْ بِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ وَأَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالسَّتْرِ، وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِذَا قَرُبَ مِنْ الْبَلَدِ، بَعَثَ مَنْ يُعْلِمُهُمْ بِقُدُومِهِ لِيَتَلَقَّوْهُ، وَيَجْعَلُ قُدُومَهُ يَوْمَ الْخَمِيسَ إنْ أَمْكَنَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، قَدِمَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، ثُمَّ يَقْصِدُ الْجَامِعَ، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ إذَا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى التَّوْفِيقَ وَالْعِصْمَةَ وَالْمَعُونَةَ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَمَلَهُ صَالِحًا، وَيَجْعَلَهُ لِوَجْهِهِ خَالِصًا، وَلَا يَجْعَلَ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا، وَيُفَوِّضُ أَمَرَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فَيُنَادِي فِي الْبَلَدِ، أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ عَلَيْكُمْ قَاضِيًا، فَاجْتَمِعُوا لِقِرَاءَةِ عَهْدِهِ، وَقْتَ كَذَا وَكَذَا.
وَيَنْصَرِفُ إلَى مَنْزِلِهِ الَّذِي قَدْ أُعِدَّ لَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ؛ لِيَتَسَاوَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِيهِ، وَلَا يَشُقُّ عَلَى بَعْضِهِمْ قَصْدُهُ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا، أَمَرَ بِعَهْدِهِ فَقُرِئَ عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا التَّوْلِيَةَ، وَيَأْتُوا إلَيْهِ، وَيَعِدُ النَّاسَ يَوْمًا يَجْلِسُ فِيهِ لِلْقَضَاءِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إلَى مَنْزِلِهِ.
وَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْحُكْمِ، أَنْ يَبْعَثَ إلَى الْحَاكِمِ الْمَعْزُولِ فَيَأْخُذَ مِنْهُ دِيوَانَ الْحُكْمِ؛ وَهُوَ مَا فِيهِ وَثَائِقُ النَّاسِ مِنْ الْمَحَاضِرِ، وَهِيَ نُسَخُ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالسِّجِلَّاتُ نُسَخُ مَا حَكَمَ بِهِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ حُجَجِ النَّاسِ وَوَثَائِقِهِمْ مُودَعَةً فِي دِيوَانِ الْحُكْمِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، فَإِذَا انْتَقَلْت الْوِلَايَةُ إلَى غَيْرِهِ، كَانَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ، فَتَكُونُ مُودَعَةً عِنْدَهُ فِي دِيوَانِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَعَدَ بِالْجُلُوسِ فِيهِ إلَى مَجْلِسِهِ، عَلَى أَكْمَلِ حَالَةٍ وَأَعْدَلِهَا، خَلِيًّا مِنْ الْغَضَبِ، وَالْجُوعِ الشَّدِيدِ وَالْعَطَشِ، وَالْفَرَحِ الشَّدِيدِ وَالْحُزْنِ الْكَثِيرِ، وَالْهَمِّ الْعَظِيمِ، وَالْوَجَعِ الْمُؤْلِمِ، وَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَالنُّعَاسِ الَّذِي يَغْمُرُ الْقَلْبَ؛ لِيَكُونَ أَجْمَعَ لِقَلْبِهِ، وَأَحْضَرَ لِذِهْنِهِ، وَأَبْلَغَ فِي تَيَقُّظِهِ لِلصَّوَابِ، وَفِطْنَتِهِ لِمَوْضِعِ الرَّأْيِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» . فَنَصَّ عَلَى الْغَضَبِ، وَنَبَّهَ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ سَائِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَيُسَلِّمُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي طَرِيقِهِ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ حَتَّى يَأْتِيَ مَجْلِسَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ لِلنَّاسِ فَسِيحٍ، كَالرَّحْبَةِ وَالْفَضَاءِ الْوَاسِعِ أَوْ الْجَامِعِ. وَلَا يُكْرَهُ الْقَضَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ، فَعَلَ ذَلِكَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ خَلْدَةَ، قَاضٍ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْضُونَ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ خَصْمَانِ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْ لَا تَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ تَأْتِيك الْحَائِضُ وَالْجَنْبُ. وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ يَأْتِيهِ الذِّمِّيُّ وَالْحَائِضُ وَالْجُنُبُ، وَتَكْثُرُ غَاشِيَتُهُ، وَيَجْرِي بَيْنَهُمْ اللَّغَطُ وَالتَّكَاذُبُ وَالتَّجَاحُدُ، وَرُبَّمَا أَدَّى إلَى السَّبِّ وَمَا لَمْ تُبْنَ لَهُ الْمَسَاجِدُ. وَلَنَا، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِمَا قَدْ رَوَيْنَاهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: رَأَيْت عُمَرَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى الْقِبْلَةِ، يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ. وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَإِنْصَافٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَمْ يُكْرَهْ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا نَعْلَمُ صِحَّةَ مَا رَوَوْهُ عَنْ عُمَرَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ.
وَأَمَّا الْحَائِضُ، فَإِنْ عَرَضَتْ لَهَا حَاجَةٌ إلَى الْقَضَاءِ، وَكَّلَتْ، أَوْ أَتَتْهُ فِي مَنْزِلِهِ. وَالْجُنُبُ يَغْتَسِلُ وَيَدْخُلُ، وَالذِّمِّيُّ يَجُوزُ دُخُولُهُ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْلِسُ فِي مَسْجِدِهِ، مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ لِلْحُكُومَةِ وَالْفُتْيَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِمْ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يُطَالِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْحُقُوقِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرُبَّمَا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «تَقَاضَيْت ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ إلَيَّ، أَنْ ضَعْ مِنْ دَيْنِك الشَّطْرَ. فَقُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَقُمْ فَاقْضِهِ» .