الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَضَاءُ دِينِ وَالِدِهِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَيَحْتَاجُ أَنْ يَذْكُرَ تَرِكَةَ أَبِيهِ، وَيُحَرِّرَهَا، وَيَذْكُرَ قَدْرَهَا، كَمَا يَصْنَعُ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ تَحْرِيرُ دَيْنِهِ، وَمَوْتُ أَبِيهِ، وَأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ. وَإِنْ قَالَ: مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِبَعْضِ دَيْنِهِ. احْتَاجَ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الْقَدْرَ.
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فِي نَفْيِ تَرِكَةِ الْأَبِ مَعَ يَمِينِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ مَوْتَ أَبِيهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيَكْفِيهِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى نَفْي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ، وَقَدْ يَمُوتُ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ ابْنُهُ، وَيَكْفِيهِ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ مَا فِيهِ وَفَاءُ حَقِّهِ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يُخَلِّفْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخَلِّفُ تَرِكَةً فَلَا تَصِلُ إلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِيفَاءُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْمُدَّعِي تَحْرِيرَ الدَّعْوَى، فَهَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُلَقِّنَهُ تَحْرِيرَهَا؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى صَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي حُكُومَتِهِ.
[فَصْلٌ مَا يَفْعَلهُ الْحَاكِم إذَا حَرَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ]
(8277)
فَصْلٌ: إذَا حَرَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ، فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَ خَصْمَهُ الْجَوَابَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الْمُدَّعِي ذَلِكَ، لِأَنَّ شَاهِدَ الْحَالِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إحْضَارَهُ الدَّعْوَى إنَّمَا يُرَادُ لِيَسْأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَدْ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ سُؤَالِهِ، فَيَقُولُ لِخَصْمِهِ: مَا تَقُولُ فِيمَا يَدَّعِيهِ؟ فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ إلَّا بِمَسْأَلَةِ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ حَقٌّ لَهُ، فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إلَّا بِمَسْأَلَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ، هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُنَا.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْحَالَ تَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِ ذَلِكَ، فَاكْتُفِيَ بِهَا، كَمَا اُكْتُفِيَ بِهَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابَ، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ مُطَالَبَةَ الْحَاكِمِ بِذَلِكَ، فَيَتْرُكُ مُطَالَبَتَهُ بِهِ لِجَهْلِهِ، فَيَضِيعُ حَقُّهُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ قَبْلَ مَسْأَلَتِهِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، إنْ سَأَلَهُ الْخَصْمُ فَقَالَ: اُحْكُمْ لِي. حَكَمَ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَلْزَمْتُك ذَلِكَ، أَوْ قَضَيْت عَلَيْك لَهُ. أَوْ يَقُولَ: اُخْرُجْ لَهُ مِنْهُ. فَمَتَى قَالَ لَهُ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، كَانَ حُكْمًا بِالْحَقِّ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَقَالَ: لَا حَقَّ لَك قِبَلِي. فَهَذَا مَوْضِعُ الْبَيِّنَةِ، قَالَ الْحَاكِمُ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ حَضْرَمِيٌّ وَكِنْدِيٌّ، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي. فَقَالَ
الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي، وَفِي يَدِي، وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَك بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ» . وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي عَارِفًا بِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْبَيِّنَةِ، فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: أَلَك بَيِّنَةٌ؟ وَبَيْنَ أَنْ يَسْكُتَ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: أَلَك بَيِّنَةٌ؟ فَذَكَرَ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً، لَمْ يَقُلْ لَهُ الْحَاكِمُ: أَحْضِرْهَا. لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَرَى.
وَإِذَا أَحْضَرَهَا لَمْ يَسْأَلْهَا الْحَاكِمُ عَمَّا عِنْدَهَا حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ فَلَا يَسْأَلُهُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، فَإِذَا سَأَلَهُ الْمُدَّعِي سُؤَالَهَا، قَالَ: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ فَلْيَذْكُرْهَا، إنْ شَاءَ؟ وَلَا يَقُولُ لَهُمَا: اشْهَدَا. لِأَنَّهُ أَمْرٌ. وَكَانَ شُرَيْحٌ يَقُولُ لِلشَّاهِدَيْنِ: مَا أَنَا دَعَوْتُكُمَا، وَلَا أَنْهَاكُمَا أَنْ تَرْجِعَا، وَمَا يَقْضِي عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ غَيْرُكُمَا، وَإِنِّي بِكُمَا أَقْضِي الْيَوْمَ، وَبِكُمَا أَتَّقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ عَلَيْهِمَا مَا يُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهِمَا، رَدَّهَا. كَمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدٌ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مَخْرُوطُ الْكُمَّيْنِ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: أَتُحْسِنُ أَنْ تَتَوَضَّأَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْسُرْ عَنْ ذِرَاعَيْك. فَذَهَبَ يَحْسُرُ عَنْهُمَا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: قُمْ، فَلَا شَهَادَةَ لَك.
وَإِنْ أَدَّيَا الشَّهَادَةَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَا: بَلَغَنَا أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفًا، أَوْ سَمِعْنَا ذَلِكَ. رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا. وَشَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ اتَّكَأَ عَلَيْهِ بِمِرْفَقِهِ حَتَّى مَاتَ. فَقَالَ شُرَيْحٌ: أَتَشْهَدُ أَنَّهُ قَتَلَهُ؟ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ اتَّكَأَ عَلَيْهِ بِمِرْفَقِهِ حَتَّى مَاتَ. قَالَ أَتَشْهَدُ أَنَّهُ قَتَلَهُ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّهُ اتَّكَأَ عَلَيْهِ بِمِرْفَقِهِ حَتَّى مَاتَ. قَالَ: قُمْ، لَا شَهَادَةَ لَك.
وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةً صَحِيحَةً، وَعَرَفَ الْحَاكِمُ عَدَالَتَهُمْ، قَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ: قَدْ شَهِدَا عَلَيْك، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكِ مَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمَا، فَبَيِّنِهِ عِنْدِي.
فَإِنْ سَأَلَ الْإِنْظَارَ، أَنْظِرْهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ. فَإِنْ لَمْ يَجْرَحْ حَكَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ وَضَحَ عَلَى وَجْهٍ لَا إشْكَالَ فِيهِ. وَإِنْ ارْتَابَ بِشَهَادَتِهِمْ، فَرَّقَهُمْ، فَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ عَنْ شَهَادَتِهِ وَصِفَتِهَا، فَيَقُولُ: كُنْت أَوَّلَ مَنْ شَهِدَ، أَوْ كَتَبْت، أَوْ لَمْ تَكْتُبْ، وَفِي أَيِّ مَكَان شَهِدْت، وَفِي أَيِّ شَهْرٍ، وَأَيِّ
يَوْمٍ؟ وَهَلْ كُنْت وَحْدَك، أَوْ مَعَك غَيْرُك؟ فَإِنْ اخْتَلَفُوا، سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ اتَّفَقُوا بَحَثَ عَنْ عَدَالَتِهِمْ.
وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ هَذَا دَنْيَالُ. وَيُقَالُ: فَعَلَهُ سُلَيْمَانُ، وَهُوَ صَغِيرٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ سَبْعَةَ نَفَرٍ خَرَجُوا، فَفُقِدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَأَتَتْ زَوْجَتُهُ عَلِيًّا، فَدَعَا السِّتَّةَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَأَنْكَرُوا، فَفَرَّقَهُمْ، وَأَقَامَ كُلَّ وَاحِدٍ عِنْدَ سَارِيَةٍ، وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ، وَدَعَا وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَسَأَلَهُ فَأَنْكَرَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. فَظَنَّ الْبَاقُونَ أَنَّهُ قَدْ اعْتَرَفَ، فَدَعَاهُمْ فَاعْتَرَفُوا، فَقَالَ لِلْأَوَّلِ: قَدْ شَهِدُوا عَلَيْك، وَأَنَا قَاتِلُك. فَاعْتَرَفَ، فَقَتَلَهُمْ.
وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُمَا، بَحَثَ عَنْهَا، فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُمَا، قَالَ لِلْمُدَّعِي: زِدْنِي شُهُودًا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، عَرَّفَهُ الْحَاكِمُ أَنَّ لَك يَمِينَهُ.
وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لَهُ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةِ مُسْتَحَقِّهَا، كَنَفْسِ الْحَقِّ. فَإِنْ اسْتَحْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، أَوْ بَادَرَ الْمُنْكِرُ فَحَلَفَ، لَمْ يُعْتَدَّ بِيَمِينِهِ. لِأَنَّهُ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا.
وَإِذَا سَأَلَهَا الْمُدَّعِي، أَعَادَهَا لَهُ؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ تَكُنْ يَمِينَهُ. وَإِنْ أَمْسَكَ الْمُدَّعِي عَنْ إحْلَافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَرَادَ إحْلَافَهُ بِالدَّعْوَى الْمُتَقَدِّمَةِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْقِطْ حَقَّهُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا أَخَّرَهَا. وَإِنْ قَالَ: أَبْرَأْتُك مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ. سَقَطَ حَقُّهُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْإِبْرَاءِ مِنْ الْيَمِينِ.
فَإِنْ اسْتَأْنَفَ الدَّعْوَى، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ الدَّعْوَى الَّتِي أَبْرَأَهُ فِيهَا مِنْ الْيَمِينِ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ الدَّعْوَى، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَهُ يَمِينًا أُخْرَى، لَا فِي هَذَا الْمَجْلِسِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِجَمَاعَةٍ فَرَضُوا بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ، جَازَ، وَسَقَطَتْ دَعْوَاهُمْ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُمْ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِبَيِّنَةٍ وَاحِدَةٍ لِجَمَاعَةٍ، جَازَ سُقُوطُهُ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ حَتَّى يَحْلِفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَمِينًا.
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ، فَإِذَا رَضِيَ بِهَا اثْنَانِ، صَارَتْ الْحُجَّةُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاقِصَةً، وَالْحُجَّةُ النَّاقِصَةُ لَا تَكْمُلُ بِرِضَى الْخَصْمِ، كَمَا لَوْ رَضِيَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَإِذَا رَضِيَا بِهِ، جَازَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ رِضَاهُمَا بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ، أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَعْضُ الْيَمِينِ، كَمَا أَنَّ الْحُقُوقَ إذَا قَامَتْ بِهَا بَيِّنَةٌ وَاحِدَةٌ، لَا يَكُونُ لِكُلِّ حَقٍّ بَعْضُ الْبَيِّنَةِ، فَأَمَّا إنْ حَلَّفَهُ لِجَمِيعِهِمْ يَمِينًا وَاحِدَةً بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، لَمْ تَصِحَّ يَمِينُهُ. بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ.
وَقَدْ حَكَى الْإِصْطَخْرِيُّ، أَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ، حَلَّفَ رَجُلًا بِحَقِّ لِرَجُلَيْنِ يَمِينًا وَاحِدَةً، فَخَطَّأَهُ أَهْلُ عَصْرِهِ.
وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: لِي بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ.
قَالَ لَهُ الْحَاكِمُ: لَك يَمِينُهُ، فَإِنْ شِئْت فَاسْتَحْلِفْهُ، وَإِنْ شِئْت أَخَّرْته إلَى أَنْ تُحْضِرَ بَيِّنَتَك، وَلَيْسَ لَك مُطَالَبَتُهُ بِكَفِيلٍ، وَلَا مُلَازَمَتُهُ حَتَّى تُحْضِرَ الْبَيِّنَةَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ» . فَإِنْ أَحْلَفَهُ، ثُمَّ حَضَرَتْ بَيِّنَتُهُ، حَكَمَ بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ مُزِيلَةً لِلْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْبَيِّنَةُ بَطَلَتْ الْيَمِينُ، وَتَبَيَّنَ كَذِبُهَا.
وَإِنْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، وَأُرِيدُ يَمِينَهُ ثُمَّ أُقِيمُ بَيِّنَتِي. لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَسْتَحْلِفُهُ، وَإِنْ نَكِلَ قَضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي الِاسْتِحْلَافِ فَائِدَةً، وَهُوَ أَنَّهُ رُبَّمَا نَكِلَ، فَقَضَى عَلَيْهِ، فَأَغْنَى عَنْ الْبَيِّنَةِ.
وَلَنَا، قَوْلُهُ عليه السلام:«شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَك إلَّا ذَلِكَ» . وَ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ فَصْلُ الْخُصُومَةِ بِالْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يُشْرَعْ غَيْرُهَا مَعَ إرَادَةِ الْمُدَّعِي إقَامَتَهَا وَحُضُورَهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَطْلُبْ يَمِينَهُ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ بَدَلٌ، فَلَمْ يَجِبْ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُبْدَلِهَا، كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ مَعَ مُبْدَلَاتِهَا، وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: لَا أُرِيدُ إقَامَتَهَا، وَإِنَّمَا أُرِيدُ يَمِينَهُ أَكْتَفِي بِهَا.
اسْتَحْلَفَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حَقُّهُ، فَإِذَا رَضِيَ بِإِسْقَاطِهَا، وَتَرْكِ إقَامَتِهَا، فَلَهُ ذَلِكَ، كَنَفْسِ الْحَقِّ. فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَرَادَ الْمُدَّعِي إقَامَةَ بَيِّنَتِهِ، فَهَلْ يَمْلِكُ ذَلِكَ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تَبْطُلُ بِالِاسْتِحْلَافِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً.
وَالثَّانِي، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ إقَامَتِهَا، وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ إقَامَتِهَا، يَفْتَحُ بَابَ الْحِيلَةِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَا أُرِيدُ إقَامَتَهَا. لِيَحْلِفَ خَصْمُهُ، ثُمَّ يُقِيمُهَا. فَإِنْ كَانَ لَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فِي الْأَمْوَالِ، عَرَّفَهُ الْحَاكِمُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ، وَيَسْتَحِقُّ، فَإِنْ قَالَ: لَا أَحْلِفُ أَنَا، وَأَرْضَى بِيَمِينِهِ. اسْتَحْلَفَ لَهُ، فَإِذَا حَلَفَ، سَقَطَ الْحَقُّ عَنْهُ، فَإِنْ عَادَ الْمُدَّعِي بَعْدَهَا، فَقَالَ: أَنَا أَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِي. لَمْ يَسْتَحْلِفْ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ.
ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِعْلُهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا، فَأَمْكَنَهُ أَنْ يُسْقِطَهَا، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ. وَإِنْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَبَذَلَ الْيَمِينَ، فَقَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا: يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَقُولُ لَهُ: إنْ حَلَفْت، وَإِلَّا جَعَلْتُك نَاكِلًا، وَقَضَيْت عَلَيْك. ثَلَاثًا، فَإِنْ حَلَفَ، وَإِلَّا حَكَمَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ إذَا سَأَلَهُ الْمُدَّعِي ذَلِكَ.
فَإِنْ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى، فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ، حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُجِيبَ، وَلَا يَجْعَلُهُ بِذَلِكَ نَاكِلًا. ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فِي الْمُجَرَّدِ.