الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَحْمَدُ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ.
فَجَعَلَهُ أَصْحَابُنَا رِوَايَةً فِي الْقِصَاصِ. وَلَيْسَ هَذَا بِرِوَايَةٍ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يُشْبِهُ الْقِصَاصَ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ بَدَنِيَّةٌ، تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَتُبْنَى عَلَى الْإِسْقَاطِ، فَأَشْبَهَتْ الْحُدُودَ، فَأَمَّا مَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ وَالْأَمْوَالَ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَسَائِرِ مَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى قَبُولِهَا فِي الطَّلَاقِ وَالْحُقُوقِ، فَيَدُلُّ عَلَى قَبُولِهَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْحُقُوقِ. وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا تُقْبَلُ فِي النِّكَاحِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ. فَعَلَى قَوْلِهِمَا، لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي الْمَالِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ، فَأَشْبَهَ حَدَّ الْقَذْفِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ حَقٌّ لَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَيَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، كَالْمَالِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْحُدُودَ.
[الْفَصْلُ الثَّالِثُ شُرُوطِ الشَّهَادَة]
(8410)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي شُرُوطِهَا، وَلَهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ؛ أَحَدُهَا، أَنْ تَتَعَذَّرَ شَهَادَةُ الْأَصْلِ؛ لَمَوْتٍ، أَوْ غَيْبَةٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ خَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، جَوَازُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ، قِيَاسًا عَلَى الرِّوَايَةِ وَأَخْبَارِ الدَّيَّانَاتِ وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شَاهِدُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا حَيَّيْنِ، رُجِيَ حُضُورُهُمَا، فَكَانَا كَالْحَاضِرَيْنِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ هَذَا، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْغَيْبَةِ الْبَعِيدَةِ وَنَحْوِهَا. وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ عَلَى هَذَا، فَيَزُولُ هَذَا الْخِلَافُ.
وَلَنَا، عَلَى اشْتِرَاطِ تَعَذُّرِ شَهَادَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ، أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْمَعَ شَهَادَةَ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ، وَكَانَ أَحْوَطَ لِلشَّهَادَةِ، فَإِنَّ سَمَاعَهُ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ، وَصِدْقَ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ مَظْنُونٌ، وَالْعَمَلُ بِالْيَقِينِ مَعَ إمْكَانِهِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ تُثْبِتُ نَفْسَ الْحَقِّ، وَهَذِهِ إنَّمَا تَثْبُتُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ ضَعْفًا؛ لِأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا احْتِمَالَانِ؛ احْتِمَالُ غَلَطِ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، وَاحْتِمَالُ غَلَطِ شَاهِدَيْ الْفَرْعِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَهْنًا فِيهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَنْتَهِضْ لِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ؛ لِأَنَّهُ خُفِّفَ فِيهَا، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَدُ، وَلَا الذُّكُورِيَّةُ، وَلَا الْحُرِّيَّةُ، وَلَا اللَّفْظُ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهَا فِي حَقِّ عُمُومِ النَّاسِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
وَلَنَا، عَلَى قَبُولِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِهَا بِغَيْرِ الْمَوْتِ، أَنَّهُ تَعَذَّرَتْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ، كَمَا لَوْ مَاتَ شَاهِدَا الْأَصْلِ، وَيُخَالِفُ الْحَاضِرَيْنِ؛ فَإِنَّ سَمَاعَ شَهَادَتِهِمَا مُمْكِنٌ، فَلَمْ يَجُزْ غَيْرُ ذَلِكَ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْغَيْبَةَ الْمُشْتَرَطَةَ لِسَمَاعِ شَهَادَةِ الْفَرْعِ، أَنْ يَكُونَ شَاهِدُ الْأَصْلِ بِمَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْهَدَ ثُمَّ يَرْجِعَ مِنْ يَوْمِهِ. وَهَذَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ تَشُقُّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِمِثْلِ هَذَا السَّفَرِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] .
وَإِذَا لَمْ يُكَلَّفْ الْحُضُورَ، تَعَذَّرَ سَمَاعُ شَهَادَتِهِ، فَاحْتِيجَ إلَى سَمَاعِ شَهَادَةِ الْفَرْعِ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: تُعْتَبَرُ مَسَافَةُ الْقَصْرِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ كُلٌّ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ، فِي التَّرَخُّصِ وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ. وَيُعْتَبَرُ دَوَامُ هَذَا الشَّرْطِ إلَى الْحُكْمِ، فَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَا الْفَرْعِ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى حَضَرَ شَاهِدَا الْأَصْلِ، وَقَفَ الْحُكْمُ عَلَى سَمَاعِ شَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِالْبَدَلِ، فَلَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِهِ، كَالْمُتَيَمِّمِ يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ حُضُورَهُمَا لَوْ وُجِدَ قَبْلَ أَدَاءِ شَهَادَةِ الْفَرْعِ، مَنَعَ، فَإِذَا طَرَأَ قَبْلَ الْحُكْمِ، مَنَعَ مِنْهُ، كَالْفِسْقِ. الشَّرْطُ الثَّانِي، أَنْ تَتَحَقَّقَ شُرُوطُ الشَّهَادَةِ، مِنْ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَنْبَنِي عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ جَمِيعًا، فَاعْتُبِرَتْ الشُّرُوطُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ. فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودُ الْفَرْعِ شُهُودَ الْأَصْلِ، فَشَهِدَا بِعَدَالَتِهِمَا وَعَلَى شَهَادَتِهِمَا، جَازَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا بِعَدَالَتِهِمَا، جَازَ، وَيَتَوَلَّى الْحَاكِمُ ذَلِكَ، فَإِنْ عَلِمَ عَدَالَتَهُمَا، حَكَمَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا بَحَثَ عَنْهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ: إنْ لَمْ يُعَدِّلْ شَاهِدَا الْفَرْعِ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، لَمْ يَسْمَعْ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُمَا؛ لِأَنَّ تَرْكَ تَعْدِيلِهِ يَرْتَابُ بِهِ الْحَاكِمُ.
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْرِفَا ذَلِكَ، فَيُرْجَعَ فِيهِ إلَى بَحْثِ الْحَاكِمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْرِفَا عَدَالَتَهُمَا وَيَتْرُكَاهَا، اكْتِفَاءً بِمَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ عَدَالَتِهِمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِمْرَارِ هَذَا الشَّرْطِ، وَوُجُودِ الْعَدَالَةِ فِي الْجَمِيعِ إلَى انْقِضَاءِ الْحُكْمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي شَاهِدِ الْأَصْلِ قَبْلَ هَذَا. وَإِنْ مَاتَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، لَمْ يَمْنَعْ الْحُكْمَ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ شُهُودُ الْأَصْلِ قَبْلَ أَدَاءِ الْفُرُوعِ شَهَادَتَهُمْ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَدَائِهَا، وَالْحُكْمِ بِهَا؛ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ مِنْ شَرْطِ سَمَاعِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ وَالْحُكْمِ، فَلَا يَجُوزُ جَعْلُهُ مَانِعًا، وَكَذَلِكَ إنَّ جُنُّوا؛ لِأَنَّ جُنُونَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِمْ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ، أَنْ يُعَيِّنَا شَاهِدَيْ الْأَصْلِ، وَيُسَمِّيَاهُمَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إذَا قَالَا: ذَكَرَيْنِ، حُرَّيْنِ، عَدْلَيْنِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ الصِّفَاتِ دُونَ الْعَيْنِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ عِنْدَهُمَا، مَجْرُوحَيْنِ عِنْدَ غَيْرِهِمَا؛ وَلِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ رُبَّمَا أَمْكَنَهُ جَرْحُ الشُّهُودِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ أَعْيَانَهُمَا، تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ، أَنْ يَسْتَرْعِيَهُ شَاهِدُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ، فَيَقُولَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ
عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَوْ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا. أَوْ سَمِعَ شَاهِدًا يَسْتَرْعِي آخَرَ شَهَادَةً يُشْهِدُهُ عَلَيْهَا، فَيَجُوزُ لِهَذَا السَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا لِحُصُولِ الِاسْتِرْعَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا أَنْ يَسْتَرْعِيَهُ بِعَيْنِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَالَ أَحْمَدُ: لَا تَكُونُ شَهَادَةً إلَّا أَنْ يُشْهِدَك، فَأَمَّا إذَا سَمِعْته يَتَحَدَّثُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ حَدِيثٌ. وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. فَأَمَّا إنْ سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِحَقٍّ، أَوْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ بِحَقٍّ يَعْزِيه إلَى سَبَبٍ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ. فَهَلْ يَشْهَدُ بِهِ؟ . قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي، أَنَّ لَهُ الشَّهَادَةَ بِهِ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَنِسْبَتِهِ لِلْحَقِّ إلَى سَبَبه، يَزُولُ الِاحْتِمَالُ، وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ، فَتَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَتِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَرْعَاهُ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا مَعْنَى النِّيَابَةِ، فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَمَنْ نَصْرَ الْأَوَّلَ قَالَ: هَذَا يَنْقُلُ شَهَادَتَهُ، وَلَا يَنُوبُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُ مِثْلَ شَهَادَتِهِ، وَإِنَّمَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ فَأَمَّا إنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي أَشْهَدُ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا. فَالْأَشْبَهُ أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَقُولَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ.
لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: اشْهَدْ. فَقَدْ أَمَرَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَسْتَرْعِهِ. وَمَا عَدَا هَذِهِ الْمَوَاضِعَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ فِيهَا عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِذَا سَمِعَهُ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَرْعِهِ الشَّهَادَةَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَعَدَهُ بِهَا. وَقَدْ يُوصَفُ الْوَعْدُ بِالْوُجُوبِ مَجَازًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْعِدَّةُ دَيْنٌ» . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالشَّهَادَةِ الْعِلْمَ، فَلَمْ يَجُزْ لِسَامِعِهِ الشَّهَادَةُ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ. جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ، فَكَذَا هَذَا. قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ الشَّهَادَةَ تَحْتَمِلُ الْعِلْمَ، وَلَا تَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ. الثَّانِي، أَنَّ الْإِقْرَارَ أَوْسَعُ فِي لُزُومِهِ مِنْ الشَّهَادَةِ؛ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ فِي الْمَجْهُولِ، وَأَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْعَدَدُ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَيَكُونُ أَقْوَيْ مِنْهَا، وَلِهَذَا لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَلَا يُحْكَمُ بِهَا.
وَلَوْ قَالَ شَاهِدُ الْأَصْلِ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا، فَاشْهَدْ بِهِ أَنْتَ عَلَيْهِ. لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُمَا شَهَادَتَهُ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهَا، وَلَا هُوَ شَاهِدًا بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ مَا سَمِعَ الِاعْتِرَافَ بِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَلَا شَاهَدَ سَبَبَهُ.