المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب: أسرار الصلاة - الجامع لأحكام الصلاة - عادل بن سعد

[عادل بن سعد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌باب: أسرار الصلاة

- ‌شروط الصلاة تسعة:

- ‌وأما فروضه فستة:

- ‌باب: أحكام الصلاة

- ‌(شروط الصلاة تسعة):

- ‌(أركان الصلاة أربعة عشر ركنًا):

- ‌(مبطلات الصلاة ثمانية):

- ‌(واجبات الصلاة ثمانية):

- ‌(فرائض الوضوء ستة أشياء):

- ‌(شروط الوضوء خمسة):

- ‌(نواقض الوضوء ثمانية):

- ‌أحكام وآداب الحضور إلى المساجد

- ‌المسجد، وفضل بنائه، وما ينبغي فيه

- ‌وجوب صلاة الجماعة والتحذير من التهاون فيها

- ‌أحكام حضور المساجد

- ‌ في أحكام الخروج إلى المسجد

- ‌الحكم الأول الخروج في أحسن هيئة

- ‌أولًا: الزينة الظاهرة، ويراد بها:

- ‌(1) جمال الثياب:

- ‌(2) ستر الفخذين:

- ‌(3) ستر العاتق:

- ‌(4) ستر الرأس:

- ‌(5) لا يغطي فاه في الصلاة:

- ‌ثانيًا: مما يتعلق بحسن الهيئة: الاهتمام بطيب الرائحة

- ‌ثالثًا: السواك

- ‌الحكم الثاني المبادرة بالحضور إلى المسجد

- ‌فضائل المبادرة إلى المسجد وفوائدها

- ‌الاتصاف بصفة من يظلهم الله في ظله:

- ‌أن المبادر في صلاة ما انتظر الصلاة:

- ‌صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له:

- ‌المشي إلى المسجد بسكينة:

- ‌دخول المسجد داعيًا:

- ‌تحصيل الصف الأول:

- ‌تحصيل ميمنة الصف:

- ‌الدعاء بين الأذان والإقامة:

- ‌الصلاة قبل الإقامة:

- ‌إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام:

- ‌التأمين مع الإمام:

- ‌الصلاة بخشوع:

- ‌الحكم الثالث الدعاء عند الخروج إلى الصلاة

- ‌الحكم الرابع الذهاب إلى المسجد ماشيًا

- ‌الحكم الخامس المشي بسكينة ووقار

- ‌الحكم السادس لا يشبك بين أصابعه

- ‌الحكم السابع في حضور الصبيان المساجد

- ‌الحكم الثامن في دخول الجنب والحائض المسجد

- ‌أحكام حضور المسجد

- ‌الحكم الأول تعاهد النعلين

- ‌الحكم الثاني تقديم اليمنى عند الدخول

- ‌الحكم الثالث الدعاء عند دخول المسجد

- ‌الحكم الرابع التقدم للصف الأول

- ‌المكان الفاضل في المسجد النبوي:

- ‌الحكم الخامس السلام على من في المسجد

- ‌الحكم السادس صلاة تحية المسجد

- ‌حكم تحية المسجد

- ‌تحية المسجد وقت النهي

- ‌لا صلاة إذا أقيمت الصلاة

- ‌تحية المسجد الحرام

- ‌سقوط تحية المسجد

- ‌الحكم السابع الصلاة إلى سترة

- ‌السترة في المسجد الحرام:

- ‌الحكم الثامن لا يخرج من المسجد بعد الأذان

- ‌الحكم التاسع وظيفة الجالس في المسجد

- ‌قراءة القرآن

- ‌الحذر من الكلام الباطل وما لا فائدة فيه:

- ‌الحذر من رفع الصوت:

- ‌الحذر من البيع والشراء في المسجد:

- ‌الحذر من استدعاء النوم بالنعاس:

- ‌الحكم العاشر تسوية الصفوف وإتمامها

- ‌الحكم الحادي عشر في صلاة المنفرد خلف الصف

- ‌الحكم الثاني عشر الدخول مع الإمام على أي حال

- ‌الحالة الأولى: أن يكون الإمام قائمًا

- ‌الحالة الثانية: أن يكون الإمام راكعًا

- ‌الحالة الثالثة: أن يكون الإمام ساجدًا أو بين السجدتين

- ‌الحالة الرابعة: أن يكون الإمام في التشهد

- ‌الحكم الثالث عشر ما تدرك به الجماعة

- ‌الحكم الرابع عشر في صفة الصلاة

- ‌الحكم الخامس عشر في الذكر بعد الصلاة

- ‌الحكم السادس عشر في الفصل بين الفريضة والنافلة

- ‌الحكم السابع عشر من دخل المسجد وقد فاتته الصلاة فوجد من يصلي صلّى معه

- ‌الحكم الثامن عشر إقامة جماعة غير معتادة لمن فاتتهم الصلاة

- ‌الحكم التاسع عشر من صلى ثم دخل مسجدًا صلى معهم

- ‌الحكم العشرون اختلاف نية الإمام والمأموم

- ‌الحكم الحادي والعشرون إذا صلى المسافر خلف المقيم أتم

- ‌الحكم الثاني والعشرون لا يحجز مكانًا في المسجد

- ‌الحكم الثالث والعشرون لا يهجر المسجد الذي يليه

- ‌الحكم الرابع والعشرون في إيذاء المصلين والتشويش عليهم

- ‌(1) تخطي الرقاب:

- ‌(2) مضايقة المصلين:

- ‌(3) رفع الصوت بالقراءة:

- ‌(4) المرور بين يدي المصلي:

- ‌(5) رفع الصوت بالكلام:

- ‌الحكم الخامس والعشرون في المسألة في المسجد

- ‌الحكم السادس والعشرون في الأكل في المسجد

- ‌أحكام حضور الجمعة

- ‌فضل يوم الجمعة، والتحذير من التهاون بالصلاة

- ‌أحكام الاستعداد للجمعة

- ‌الحكم الأول غسل الجمعة:

- ‌الحكم الثاني حسن اللباس

- ‌الحكم الثالث السواك للجمعة

- ‌الحكم الرابع الطيب يوم الجمعة

- ‌الحكم الخامس المبادرة إلى حضور المسجد:

- ‌الحكم السادس المشي إلى الجمعة

- ‌الحكم السابع في السفر يوم الجمعة

- ‌أحكام حضور مسجد الجمعة

- ‌الحكم الأول الحذر من تخطي الرقاب وأذية الآخرين:

- ‌(1) التفرقة بين اثنين:

- ‌(2) تخطي رقاب المصلين:

- ‌الحكم الثاني القرب من الإمام

- ‌الحكم الثالث التنفل قبل دخول الإمام

- ‌الحكم الرابع الاشتغال بالذكر وتلاوة القرآن

- ‌الحكم الخامس الإنصات والاستماع للخطبة

- ‌الحكم السادس لا يرفع يديه عند الدعاء في الخطبة

- ‌الحكم السابع في تحية المسجد والإمام يخطب

- ‌الحكم الثامن بم تدرك الجمعة

- ‌الحكم التاسع الصلاة بعد الجمعة

- ‌الحكم العاشر إذا اجتمع العيد والجمعة

- ‌أحكام حضور المرأة المسجد

- ‌أولًا: حكم حضور المرأة المسجد:

- ‌ثانيًا: شروط حضور المرأة المسجد:

- ‌أهم الأحكام التي تنفرد بها المرأة عن الرجل في الصلاة

- ‌موقف المرأة خلف الإمام:

- ‌موقف إمامة النساء:

- ‌مرور المرأة بين يدي المصلي:

- ‌باب: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم

- ‌استقبال الكعبة

- ‌القيام

- ‌صلاة المريض جالسًا

- ‌الصلاة في السفينة

- ‌القيام والقعود في صلاة الليل

- ‌الصلاة في النعال والأمر بها

- ‌الصلاة على المنبر

- ‌السترة ووجوبها

- ‌ما يقطع الصلاة

- ‌الصلاة تجاه القبر

- ‌النية

- ‌التكبير

- ‌رفعُ اليدين

- ‌وضع اليمنى على اليسرى والأمر به

- ‌وضعهما على الصدر

- ‌النظر إلى موضع السجود والخشوع

- ‌أدعية الاستفتاح

- ‌القراءة

- ‌القراءةُ آيةً آيةً

- ‌ركنية (الفاتحة) وفضائلها:

- ‌نسخ القراءة وراء الإمام في الجهرية

- ‌وجوب القراءة في السرية

- ‌التأمين وجهر الإمام به

- ‌قراءته صلى الله عليه وسلم بعد الفاتحة

- ‌جمعه صلى الله عليه وسلم بين النظائر وغيرها في الركعة

- ‌جواز الاقتصار على الفاتحة

- ‌الجهر والإسرار في الصلوات الخمس وغيرها

- ‌الجهر والإسرار في القراءة في صلاة الليل

- ‌ما كان يقرؤه صلى الله عليه وسلم في الصلوات

- ‌1 - صلاة الفجر:

- ‌القراءة في سنة الفجر

- ‌2 - صلاة الظهر:

- ‌قراءته صلى الله عليه وسلم آيات بعدَ الفاتحة في الأخيرتين

- ‌وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة

- ‌3 - صلاة العصر:

- ‌4 - صلاة المغرب:

- ‌القراءة في سنة المغرب

- ‌5 - صلاة العشاء:

- ‌6 - صلاة الليل:

- ‌7 - صلاة الوتر:

- ‌8 - صلاة الجمعة:

- ‌9 - صلاة العيدين:

- ‌10 - صلاة الجنازة:

- ‌ترتيل القرآءة وتحسين الصوت بها

- ‌الفتح على الإمام

- ‌الاستعاذة والتفلُ في الصلاة لدفع الوسوسة

- ‌الركوع

- ‌صفة الركوع

- ‌وجوب الطمأنينة في الركوع

- ‌أذكار الركوع

- ‌إطالة الركوع

- ‌النهي عن قراءة القرآن في الركوع

- ‌الاعتدال من الركوع وما يقول فيه

- ‌إطالة هذا القيام، ووجوب الاطمئنان فيه

- ‌السجود

- ‌الخرور إلى السجود على اليدين

- ‌وجوب الطمأنينة في السجود

- ‌أذكار السجود

- ‌النهي عن قراءة القرآن في السجود

- ‌إطالة السجود

- ‌فضل السجود

- ‌السجود على الأرض والحصير

- ‌الرفع من السجود

- ‌الإقعاء بين السجدتين

- ‌وجوب الاطمئنان بين السجدتين

- ‌الأذكار بين السجدتين

- ‌جلسة الاستراحة

- ‌الاعتماد على اليدين في النهوض إلى الركعة

- ‌وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة

- ‌التشهد الأول

- ‌جلسة التشهد

- ‌تحريك الإصبع في التشهد

- ‌وجوب التشهد الأول ومشروعية الدعاء فيه

- ‌صيغ التشهد

- ‌الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وموضعها، وصيغها

- ‌فوائد مهمة في الصلاة على نبي الأمة

- ‌القيام إلى الركعة الثالثة ثم الرابعة

- ‌القنوت في الصلوات الخمس للنازلة

- ‌القنوت في الوتر

- ‌التشهد الأخير

- ‌وجوب التشهد

- ‌وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌وجوب الاستعاذة من أربع قبل الدعاء

- ‌الدعاء قبل السلام وأنواعه

- ‌التسليم:

- ‌وجوب السلام

- ‌باب: سجود السهو

- ‌ الزيادة

- ‌السلام قبل تمام الصلاة

- ‌النقص

- ‌1 - نقص الأركان:

- ‌2 - نقص الواجبات:

- ‌الشك

- ‌سجود السهو على المأموم

- ‌حكم تارك الصلاة

- ‌ما يترتب على الردة بترك الصلاة أو غيرها

- ‌أولًا: من الأحكام الدنيوية:

- ‌ثانيًا: الأحكام الأخروية المترتبة على الردة

- ‌مخالفات الطهارة

- ‌مخالفات الصلاة

- ‌بعض المخالفات المتعلقة بالمساجد

- ‌مخالفات تتعلق بالجمعة

- ‌مخالفات الطهارة

- ‌مخالفات تتعلق بالصلاة

- ‌مخالفات تتعلق بالمساجد

- ‌مخالفات تتعلق بالجمعة

- ‌فتاوى الصلاة وحكم تاركها

- ‌حكم ترك الصلاة عمدًا

- ‌حكم تارك الصلاة

- ‌هل وجوب الصلاة مع جماعة في المسجد مرتبط بسماع الأذان

- ‌صلاة الحارس

- ‌الحركة في الصلاة

- ‌حكم العبث والحركة في الصلاة

- ‌شرود الذهن في الصلاة

- ‌ذكر سجود السهو

- ‌حكم نسيان سجود السهو

- ‌منع السائقين من أداء صلاة الجماعة

- ‌وقت صلاة العشاء

- ‌حكم تأخير الصلاة إلى الليل

- ‌حكم تأخير صلاة الفجر عن وقتها

- ‌حكم التهاون بالصلاة

- ‌المصافحة بعد الصلاة

- ‌قراءة الفاتحة

- ‌صلاة المفترض خلف المتنفل

- ‌إدراك المسبوق للتشهد الأخير

- ‌حكم أخذ المصحف من المسجد ومد الظهر جدا في أثناء السجود، والعبث في الصلاة

- ‌كيفية أداء‌‌ الصلاة في الطائرة

- ‌ الصلاة في الطائرة

- ‌تقسيم الوتر

- ‌الحكمة من إدخال قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد

- ‌حكم الصلاة في مسجد فيه قبر

- ‌حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر

- ‌وجوب أداء الصلاة في الجماعة

- ‌ترديد الأذان

- ‌من سمع النداء ولم يذهب للمسجد

- ‌فضل الجماعة

- ‌حكم التهاون بصلاة الجماعة

- ‌الصلاة بالثياب الخفيفة الواصفة

- ‌أكل البصل والثوم عند الصلاة

- ‌حكم أكل الكراث والبصل والثوم وإتيان المسجد

- ‌ساعة الإجابة يوم الجمعة

- ‌حكم الذهاب إلى المساجد البعيدة للصلاة خلف القارئ الجيد

- ‌صلاة التراويح

- ‌القرآن يوم الجمعة والابتهالات قبل الفجر

- ‌القراءة قبل صلاة الفجر بمكبرات الصوت

- ‌تنبيه الإمام حتى ينتظر

- ‌انتظار الإمام المأمومين في أثناء الركوع

- ‌المدخنة أمام المصلين

- ‌الصلاة أمام المدفأة

- ‌معيار الإطالة والتخفيف في الصلاة .. السنة وليس الأهواء

- ‌السنة تسوية الصفوف

- ‌استعمال السواك

- ‌المسبوق منفرد فلا يسمح للمار بين يديه

- ‌الإمام حسن الصوت ينشط المصلين

- ‌إمام لا يجيد قراءة القرآن

- ‌حكم إمامة المرأة للنساء

- ‌الصلاة خلف الحليق والمسبل

- ‌حكم إمامة المسبل

- ‌الإطالة في الدعاء

- ‌تتبع الأئمة

- ‌تقليد القراءة في صلاة التراويح

- ‌تغيير الصوت في دعاء القنوت

- ‌دعاء الاستخارة .. متى يكون

- ‌دق جرس الباب وأنا في الصلاة

- ‌أتمم ما نسيت ما دام الوقت قصيرًا

- ‌متابعة الإمام

- ‌السترة أمام المصلي

- ‌الصلاة في الثوب الذي فيه صور

- ‌صلاة الجماعة وتأخير الصلاة

- ‌الصلاة الجهرية والأذان للمنفرد

- ‌لا صلاة لمنفرد خلف الصف

- ‌الائتمام بالمنفرد

- ‌الائتمام بالمنفرد أيضًا

- ‌جلسة الاستراحة ليست واجبة

- ‌الإسراع والركض لإدراك الصلاة

- ‌من أين يبدأ الصف

- ‌المسافر لمدة سنتين هل يقصر الصلاة

- ‌حكم من مات وهو تارك للصلاة والصوم

- ‌مراعاة ترتيب السور عند القراءة

- ‌فعل المكروه وحكم فاعله

- ‌الصلاة جماعة في مبنى منفصل عن الإمام

- ‌ترك النساء الصلاة بحجة العذر كذبًا

- ‌رد السلام أثناء الخطبة

- ‌إذا صلى الإمام وهو جنب

الفصل: ‌باب: أسرار الصلاة

‌باب: أسرار الصلاة

(1)

اعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون المحبين، ولذة أرواح الموحدين، وبستان العابدين ولذة نفوس الخاشعين، ومحك أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين.

هداهم إليها، وعرَّفهم بها، وأهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين، رحمة بهم، وإكراما لهم، لينالوا بها شرف كرامته، والفوز بقربه لا لحاجة منه اليهم، بل منَّة منه، وتفضَّلا عليهم، وتعبد بها قلوبهم وجوارحهم جميعا، وجل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين وأعظمهما؛ وهو إقباله على ربه سبحانه، وفرحه وتلذذه بقربه، وتنعمه بحبه، وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميله عبوديته ظاهرًا وباطنًا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه.

ولما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة وأشباهها من داخل فيه وخارج عنه، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخلع والعطايا، ودعاه إليها كل يوم خمس مرات، وجعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة، لذة ومنفعة ومصلحة ووقار لهذا العبد، الذي قد دعاه إلى تلك المأدبة ليست في اللون الآخر، لتكمل لذة عبده في كل من ألوان العبودية ويُكرمه بكل صنفٍ من أصناف الكرامة، ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مُكفرا لمذموم كان يكرهه بإزائه، ويثيبه عليه نورًا خاصًا، فإن الصلاة نور وقوة في قلبه وجوارحه وسعة في رزقه، ومحبة في العباد له، وإن الملائكة لتفرح وكذلك بقاع الأرض، وجبالها وأشجارها، وأنهارها تكون له نورًا وثوابًا خاصًا يوم لقائه.

فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه، وخلع عليه بخلع القبول، وأغناه، وذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة، قد ناله من الجوع والقحط والجدب والظمأ والعري والسقم ما ناله، فصدر من عنده وقد أغناه وأعطاه من الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه.

ولما كانت الجدُوب متتابعة على القلوب، وقحطُ النفوس متواليًا عليها، جدْد له الدعوة آلة هذه المأدبة وقتًا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مُستسقيًا، طالبًا إلى من بيده غيثُ القلوب، وسَقيُها مستمطرًا سحائب رحمته لئلا يَيبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان، وكلأ الإحسان وعشبه وثماره، ولئلا تنقطع مادة النبات من الروح والقلب، فلا يزال القلب في استسقاء واستمطار هكذا دائمًا، يشكو إلى ربه جدبه، وقحطه، وضرورته إلى سُقيا رحمته، وغيث بره، فهذا دأب العبد أيام حياته.

فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة، فالغفلة هي قحط القلوب وجلبها، وما دام العبد في ذكر الله والإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة، فإذا تمكنت الغفلة منه، واستحكمت صارت أرضه خرابًا ميتة، وسنته جرداء يابسة، وحريق الشهوات يعمل فيها من كل جانب كالسَّمائم.

فتصير أرضه بورًا بعد أن كانت مخصبة بأنواع النبات، والثمار وغيرها، وإذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزت أرض إيمانه وأعماله وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، فإذا ناله القحط والجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها وخضرتها ولينها وثمارها من الماء، فإذا منعت من الماء يبسَت عروقها وذبلت أغصانها، وحُبست ثمارها، وربما يبست الأغصان والشجرة، فإذا مددت منها غصنًا إلى نفسك لم يمتد، ولم ينْقَد لك، وانكسر، فحينئذ تقتضي حِكمة قيم البستان قَطع تلك الشجرة وجعلَها وقودًا للنار.

(1) من كتاب أسرار الصلاة للإمام ابن القيم.

ص: 5

فكذلك القلب، إنما ييبس إذا خلا من توحيد الله وحبه ومعرفته وذكره ودعائه، فتصيبه حرارة النفس، ونار الشهوات، فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها، والانقياد إذا قُدتها، فلا تصلح بعدُ هي والشجرة إلا للنار، {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]، فإذا كان القلب ممطورًا بمطر الرحمة، كانت الأغصان لينة مُنقادة رطبة، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك، وأقبلت سريعة لينة وادعة، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان ومادتها من رطوبة القلب وريه، فالمادة تعمل عملها في القلب والجوارح، وإذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البر؛ لأن مادة القلب وحياته قد انقطعت منه فلم تنتشر في الجوارح، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية، ولله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخصه، وطاعة مطلوبة منها، خلقت لأجلها وهيئت لها.

والناس بعد ذلك ثلاثة أقسام:

أحدهما: من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له، وأريد منها، فهذا هو الذي تاجر الله بأربح التجارة، وباع نفسه لله بأربح البيع.

والصلاة وُضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعًا لقيام القلب بها وهذا رجلٌ عرَف نعمة الله فيما خُلق له من الجوارح وما أنعم عليه من الآلاء، والنعم، فقام بعبوديته ظاهرًا وباطنًا واستعمل جوارحه في طاعة ربه، وحفظ نفسه وجوارحه عما يُغضب ربه ويشينه عنده.

والثاني: من استعمل جوارحه فيما لم تُخلق له، بل حبسها على المخالفات والمعاصي، ولم يطلقها، فهذا هو الذي خابَ سعيه، وخسرت تجارته، وفاته رضا ربه عز وجل عنه، وجَزيل ثوابه، وحصل على سخطه وأليم عقابه.

والثالث: مَن عطل جوارحه، وأماتها بالبطالة والجهالة، فهذا أيضًا خاسر بائر أعظم خسارة من الذي قبله، فإن العبد إنما خُلق للعبادة والطاعة لا للبطالة.

وأبغض الخلق إلى الله العبد البطال الذي لا في شغل الدنيا ولا في سعي الآخرة.

بل هو كل على الدنيا والدين، بل لو سعى للدنيا ولم يسع للآخرة كان مذمومًا مخذولًا، وكيف إذا عطل الأمرين، وإن امرءًا يسعى لدنياه دائما، ويذهل عن أُخراه، لا شك خاسر.

فالرجل الأول، كرجل أُقطع أرضًا واسعة، وأعين على عمارتها بآلات الحرث، والبذر وأعطي ما يكفيها لسقيها وحرثها، فحرثها وهيَّأها للزراعة، وبذر فيها من أنواع الغلات، وغرس فيها من أنواع الأشجار والفواكه المختلفة الألوان ثم أحاطها بحائط، ولم يهملها بل أقام عليها الحرس، وحصنها من الفساد والمفسدين، وجعل يتعاهدها كل يوم فيُصلح ما فسد منها، ويغرس فيها عوض ما يبس، وينقي دغلها ويقطع شوكها، ويستعين بغلتها على عمارتها.

والثاني: بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض، وجعلها مأوى السباع والهوام، وموضعًا للجيف والأنتان، وجعلها معقلًا يأوى إليه فيها كل مفسد ومؤذ ولصٍّ، وأخذ ما أعين به من حرثتها وبذارها وصلاحها، فصرفه وجعله معونة ومعيشة لمن فيها، من أهل الشر والفساد.

والثالث: بمنزلة رجل عطلها وأهملها وأرسل الماء ضائعًا في القفار والصحاري فقعد مذمومًا محسورًا.

فهذا مثال أهل اليقظة، وأهل الغفلة، وأهل الخيانة.

فالأول: مثال أهل اليقظة، والاستعداد لما خلقوا له.

ص: 6

والثاني: مثال أهل الخيانة.

والثالث: مثال لأهل الغفلة.

فالأول: إذا تحرْك أو سَكَن، أو قام أو قعد، أو أكل أو شرب، أو نام، أو لبس، أو نطق، أو سكت كان كله له لا عليه، وكان في ذكر وطاعة وقربة ومزيد.

والثاني: إذا فعل ذلك كان عليه لا له، وكان في طرد وإبعاد وخُسران.

والثالث: إذا فعل ذلك كان في غفلة وبطالة وتفريط.

فالأول: يتقلب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة والقربة.

والثاني: يتقلب في ذلك بحكم الخيانة والتعدي، فإن الله لم يملكه ما ملّكه ليستعين به على مخالفته، فهو جان متعد خائن لله تعالى في نعمه عليه معاقبٌ على التنعم بها في غير طاعته.

والثالث: يتقلب في ذلك ويتناوله بحكم الغفلة والهوى ونهمة النفس وطبعها، لم يتمتع بذلك ابتغاء رضوان الله تعالى والتقرب إليه، فهذا خسرانه بين واضح، إذ عطل أوقات عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح والتجارات.

فدعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس، رحمة منه بهم، وهيأ لهم فيها أنواع العبادة؛ لينال العبد من كل قول وفعل وحركة وسكون حظه من عطاياه.

وكان سرُّ الصلاة ولُبها إقبال القلب فيها على الله، وحضوره بكليته بين يديه، فإذا لم يقبل عليه واشتغل بغيره ولهى بحديث نفسه، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرًا من خطاياه وزله مستمطرًا سحائب جوده وكرمه ورحمته، مستطعمًا له ما يقيت قلبه، ليقوى به على القيام في خدمته، فلما وصل إلى باب الملك، ولم يبق إلا مناجته له، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينًا وشمالًا، أو ولاه ظهره، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك، وأقلّه عنده قدرًا عليه، فآثره عليه، وصيره قلبة قلبه، ومحل توجهه، وموضع سره، وبعث إيمانه وخدمه ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضًا عنه ويعتذروا عنه، وينوبوا عنه في الخدمة، والملك يشاهد ذلك ويرى حاله مع هذا، فكرم الملك وجوده وسعة بره وإحسانه تأبى أن يصرف عنه تلك الخدم والأتباع، فيصيبه من رحمته وإحسانه؛ لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين، وبين الرضخ لمن لا سهم له:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف: 19]، والله سبحانه وتعالى خلق هنا النوع الإنساني لنفسه واختصه له، وخلق كل شيء له، ومن أجله كما في الأثر الإلهي:"ابن آدم خلقتك لنفسي، وخلقت كل شيء لك، فبحقي عيك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له".

وفي أثر آخر: "ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كلّ شيء، وأنا أحب إليك من كلّ شيء".

وجعل سبحانه وتعالى الصلاة سببًا موصلًا إلى قُربه، ومناجاته، ومحبته والأنس به.

وما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة والجفوة والقسوة، والإعراض والزَّلات، والخطايا، فيبعده ذلك عن ربه، وينحيه عن قربه، فيصير بذلك كأنه أجنبيًا من عبوديته، ليس من جملة العبيد، وربما ألقى بيده إلى أسر العدو له فأسره، وغله، وقيَّده، وحبسه في سجن نفسه وهواه.

فحظه ضيق الصدر، ومعالجة الهموم، والغموم، والأحزان، والحسرات، ولا يدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمة ربه الرحيم الودود أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة، مختلفة الأجزاء، والحالات بحسب اختلاف الأحداث التي كانت من العبد، وبحسب شدة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية.

ص: 7

فبالوضوء يتطهر من الأوساخ، ويُقدم على ربه متطهرًا، والوضوء له ظاهر وباطن: فظاهره: طهارة البدن، وأعضاء العبادة.

وباطنه وسره: طهارة القلب من أوساخ الذنوب والمعاصي وأدرانه بالتوبة؛ ولهذا يقرن تعالى بين التوبة والطهارة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول: "اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين".

فكمَّل له مراتب العبدية والطهارة، باطنًا وظاهرًا، فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة.

فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز وجل، والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه وبذلك يخلص من الإباق.

وبمجيئه إلى داره، ومحل عبوديته يصير من جملة خدمه، ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم والمستحبة عند آخرين.

والعبد في حال غفلته كالآبق من ربه، قد عطّل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خُلق لها فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه، فإذا وقف بين يديه موقف التذلل والانكسار، فقد استدعى عطف سيده عليه، وإقباله عليه بعد الإعراض عنه.

وأُمر بأن يستقبل القبلة -بيته الحرام- بوجهه، ويستقبل الله عز وجل بقلبه، لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيده عليه، وألقى بيديه مسلمًا مستسلمًا ناكس الرأس، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه، طرفة عين، لا يمنة ولا يسرة، خاشع قد توجه بقلبه كله إليه.

وأقبل بكليته عليه، ثم كبره بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه لسانه في التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كل شيء، وصدق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه، فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دل على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل عن الله بغيره، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله، وكان قوله "الله أكبر" بلسانه دون قلبه؛ لأن قلبه مقبل على غير الله، معظمًا له، مجلًا، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير، أخرجه من لبس رداء التكبر المنافي للعبودية، ومنعه من التفات قلبه إلى غير الله، إذا كان الله عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء فمنعه حق قوله: الله أكبر والقيام بعبودية التكبير من هاتين الآفتين، اللتين هُما من أعظم الحُجب بينه وبين الله تعالى.

فإذا قال: "سبحانك اللهم وبحمدك" وأثنى على الله تعالى بما هو أهله، فقد خرج بذلك عن الغفلة وأهلها، فإن الغفلة حجاب بينه وبين الله.

وأتى بالتحية والثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيمًا له وتمهيدًا، وكان ذلك تمجيدًا ومقدمة بين يدي حاجته.

فكان في الثناء من آداب العبودية، وتعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه، ورضاه عنه، وإسعافه بفضله حوائجه.

فإذا شرع في القراءه قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإنه أحرص ما يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقامات العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته، فهو أحرص شيء على صرفه عنه، وانتفاعه دونه بالبدن والقلب، فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه وعطله، وألقى

ص: 8

فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام بحق العبودية بين يدي الرب تبارك وتعالى، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه وليحي قلبه، ويستنير ما يتدبره ويتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة قلبه، ونعيمه وفلاحه، فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة.

ولما علم الله سبحانه وتعالى حَسَد العدو للعبد، وتفرْغه له، وعلم عجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه، ويلتجئ إليه في صرفه عنه، فيكتفي بالاستعاذة من مؤونة محاربته ومقاومته، وكأنه قيل له: لا طاقة لك بهذا العدو، فاستعذ بي أعيذك منه، واستجر بي أجيرك منه، وأكفيكه وأمنعك منه.

وقال لي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يومًا: إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته، ومدافعته، وعليك بالراعي فأستغث به فهو يصرف عنك الكلب، ويكفيكه.

فإذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أبعده عنه.

فأفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقع في رياضه المونقة وشاهد عجائبه التي تبهر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكان الحائل بينه وبين ذلك، النفس والشيطان، فإن النفس منفعلة للشيطان، سامعة منه، مطيعة فإذا بَعُدَ عنها، وطُرد ألم بها الملَك، وثبتها وذكرها بما فيه سعادتها ونجاتها.

فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن، فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض لمقته وسخطه، بأن يناجيه ويخاطبه، وقلبه معرِض عنه، ملتفت، إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته، ويكون بمنزلة رجل قربه ملك من ملوك الدنيا، وأقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك، وقد ولاه قفاه، أو التفت عنه بوجهه يَمنَة ويسرة، فهو لا يفهم ما يقول الملك، فما الظن بمقت الملك لهذا.

فما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين وقيوم السماوات والأرضين.

فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحه وقفة يسيرة، ينتظر جواب ربه له، وكأنه يسمعه وهو يقول:"حمدني عبدي" إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقفَ لحظة ينتظر قوله: "أثنى عليَّ عبدي".

فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} انتظر قوله: "مجدني عبدي".

فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتظر قوله تعالى: "هذا بيني وبين عبدي".

فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها انتظر قوله: "هذا لعبدي ولعبدي ما قال".

ومَن ذاق طعم الصلاة عَلمَ أنه لا يقوم مقام التكبير والفاتحة غيرهما مقامها، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها، فلَكل عبوديته من عبودية الصلاة سر وتأثير وعبودية لا تحصل في غيرها، ثم لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووجد يخُصها لا يوجد في غيرها.

فعند قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تجد تحت هذه الكلمة إثبات كلّ كمال للرب وصفًا واسمًا، وتنزيهه سُبحَانه وبحمده عن كلِّ سوء، فعلًا ووصفًا واسمًا، وإنما هو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه، مُنزه عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه.

فأفعاله كلّها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل ولا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال، ونعوت جلال، وأسماؤه كلّها حُسنى.

وحمده تعالى قد ملأ الدنيا والآخرة، والسموات والأرض، وما بينهما وما فيهما، فالكون كله ناطق

ص: 9

بحمده، والخلق والأمر كله صادر عن حمده، وقائم بحمده، ووجوده وعدمه بحمده، فحمدُه هو سبب وجود كل شيء موجود، وهو غاية كل موجود، وكل موجود شاهد بحمده، فإرساله رسله بحمده، وإنزاله كتبه بحمده، والجنة عُمرت بأهلها بحمده، والنَار عُمرت بأهلها بحمده، كما أنها إنما وجدتا بحمده.

وما أُطيع إلا بحمده، وما عُصي إلا بحمده، ولا تسقط ورقة إلا بحمده، ولا يتحرك في الكون ذرة إلا بحمده، فهو سبحانه وتعالى المحمود لذاته، وإن لم يحمده العباد.

كما أنه هو الواحد الأحد، وإن لم يوحِّده العباد، وهو الإله الحقُّ وإن لم يؤلهه، سبحانه هو الذي حمِد نفسه على لسان الحامد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى قال على لسان نبيه: سَمعَ اللهُ لمن حَمدَه".

فهو الحامدُ لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه هو الذي أجرى الحمدَ على لسانه وقلبه، وأجزأه بحمده فله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، علانيته وسره.

فهذه المعرفة نبذة يسيرة من معرفة عبودية الحمد، وهي نقطة من بحر لُجي من عبوديته.

ومن عبوديته أيضًا: أن يعلم أن حمده لربه نعمة مِنه عليه، يستحق عليها الحمد، فإذا حمده عليها استحق على حمده حمدًا آخر، وهلم جرا.

فالعبد ولو استنفد أنفاسه كلّها في حمد ربه على نعمة من نعمه، كان ما يجب عليه من الحمد عليها فور ذلك، وأضعاف أضعافه، ولا يُحصي أحد البتة ثناء عليه بمحمدته، ولو حمده بجميع المحامد فالعبد سائر إلى الله بكل نعمة من ربه، يحمده عليها، فإذا حَمده على صرفها عنه، حمده على إلهامه الحمدُ.

قال الأوزاعي: "سمعت بعض قوال ينشد في حمام لك الحمدُ إمّا على نعمة وإما على نقمة تُدفع".

ومن عبودية الحمد: شهود العبد لعجزه عن الحمد، وأن ما قام به منه، فالرب سبحانه هو الذي ألهمه ذلك، فهو محمود عليه، إذ هو الذي أجراه على لسانه وقلبه، ولولا الله ما اهتدى أحد.

ومن عبودية الحمد: تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرها وباطنها على ما يحب العبد منها وما يكره، بل على تفاصيل أحوال الخلق كلّهم، برهم وفاجرهم، علويهم وسفليهم، فهو سبحانه المحمود على ذلك كلّه في الحقيقة، وإن غاب عن شهود العبد حكمة ذلك، وما يستحق الرب تبارك وتعالى من الحمد على ذلك والحمد لله: هو إلهام من الله للعباد، فمستقل ومستكثر على قدر معرفة العبد بربه.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: "فأقع ساجدًا فيلهمني الله محامد أحمده بها لم تخطر على بالي قط".

ثم لقول العبد: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} من العبودية شهود تفرده سبحانه بالربوبية وحده، وأنه كما أنه رب العالمين، وخالقهم، ورازقهم، ومدبر أمورهم، وموجدهم، ومغنيهم، فهو أيضًا وحده إلههم، ومعبودهم، وملجأهم ومفزعهم عند النوائب، فلا ربَّ غيره، ولا إله سواه.

عنوان: عبودية {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .

ولقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عبودية تخصه سبحانه، وهي شهود العبد عموم رحمته.

وشمولها لكلّ شيء، وسعتها لكل مخلوق وأخذ كل موجود بنصيبه منها، ولا سيما الرحمة الخاصَّة بالعبد وهي التي أقامته بين يدي ربه: أقم فلانًا - ففي بعض الآثار أن جبرائيل يقول كل ليلة أقم فلانًا، وأنم فلانًا فبرحمته للعبد أقامه في خدمته يناجيه بكلامه، ويتملقه ويسترحمه ويدعوه ويستعطفه ويسأله هدايته ورحمته، وتمام نعمته عليه دنياه وأخراه فهذا من رحمته بعبده، فرحمته وسعت كل شيء، كما أن

ص: 10

حمده وسع كل شيء، وعلمه وسع كل شيء، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، وغيره مطرود محروم قد فاتته هذه الرحمة الخاصة فهو منفي عنها.

عنوان: عبودية {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .

ويعطي قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} عبوديته من الذل والانقياد، وقصد العدل والقيام بالقسط، وكف العبد نفسه عن الظلم والمعاصي، وليتأمل ما تضمنته من إثبات المعاد وتفرد الربِّ في ذلك بالحكم بين خلقه، وأنه يوم يدين الله فيه الخلق بأعمالهم من الخير والشر، وذلك من تفاصيل حمده، وموجبه كما قال تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75].

ويروى أن جميع الخلائق يحمدونه يومئذ أهل الجنة وأهل النار، عدلًا وفضلًا، ولما كان قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إخبارًا عن حمد عبده له قال: حمدني عبدي.

ولما كان قوله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إعادة وتكريرًا لأوصاف كماله قال: "أثنى علي عبدي"، فإن الثناء إنما يكون بتكرار المحامد، وتعداد أوصاف المحمود، فالحمد ثنْاء عليه، و {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وصفه بالرحمة.

ولما وصف العبد ربه بتفرُّده بملك يوم الدين وهو الملك الحق، مالك الدنيا والآخرة؛ وذلك متضمن لظهور عدله، وكبريائه وعظمته، ووحدانيته، وصدق رُسله، سمَّى هذا الثناء مجدًا فقال:"مجدني عبدي" فإن التمجيد هو: الثناء بصفات العظمة، والجلال، والعدل، والإحسان.

فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتظر جواب ربه له: "هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل".

وتأمل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما، وميز الكلمة التي لله سبحانه وتعالى، والكلمة التي للعبد، وفِقهِ سر كون إحداهما لله، والأخرى للعبد، وميز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والتوحيد الذي تقتضيه كلمة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} ، وفِقهَ سر كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما، والدعاء بعدهما، وفِقه تقديم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} ، وتقديم المعمول على العامل مع الإتيان به مؤخرًا أوجز وأخصر، وسر إعادة الضمير مرة بعد مرة.

قلت: أراد تقديم العبادة -وهي العمل- على الاستعانة، فالعبادة لله والاستعانة للعبد، فالله هو المعبود، وهو المستعان على عبادته، فإياك نعبد؛ أي إياك أريد بعبادتي، وهو يتضمن العمل الصالح الخالص، والعلم النافع الدال على الله، معرفة ومحبة، وصدقًا وإخلاصًا، فالعبادة حق الرب تعالى على خلقه، والاستعانة تتضمن استعانة العبد بربه على جميع أموره، وهي القول المتضمن قسم العبد.

(فكل عبادة لا تكون لله وبالله) فهي باطلة مضمحلة، (وكل استعانة تكون بغير الله) وحده فهي خذلان وذل.

وتأمل علم ما ينفع العباد وما تدفع عنهم كل واحدة من هاتين الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية نفعًا ودفعًا وكيف تدخل العبد هاتان الكلمتان في صريح العبودية.

وتأمل علم كيف يدور القرآن كله من أوْله إلى آخره عليهما، وكذلك الخلق، والأمر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة، وكيف تضمْنتا لأجل الغايات، وأكمل الوسائل، وكيف أتى بهما بضمير

ص: 11

المخاطب الحاضر، دون ضمير الغائب، وهذا موضوع يستدعي كتابًا كبيرًا، ولولا الخروج عما نحن بصدده لأوضحناه وبسطناه، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب:"مراحل السائرين بين منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" وفي كتاب "الرسالة المصرية".

ثم ليتأمل العبد ضرورته وفاقته إلى قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الذي مضمونه معرفة الحق، وقصده وإرادته والعمل به، والثبات عليه، والدعوة إليه، والصبر على أذى المدعو إليه فباستكمال هذه المراتب الخمس يستكمل العبد الهداية وما نقص منها نقص من هدايته.

ولما كان العبد مفتقرًا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه، بل وفي جميع ما يأتيه، ويذره من:

* أمور فعلها على غير الهداية علمًا وعملًا وإرادة، فهو محتاج إلى التوبة منها والتوبة منها هي من الهداية.

* وأمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها.

* وأمور قد هُدى إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية في كمالها على الهدى المستقيم، وأن يزداد هدى إلى هداه.

* وأمور هو محتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثل ما حصل له في ماضيها.

* وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية فيها اعتقادًا صحيحًا.

* وأمور يعتقد فيها خلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد الباطل، وتُثبت فيه ضده.

* وأمور من الهداية: هو قادر عليها، ولكن لم يخلق له إرادة فعلها، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة.

* وأمور منها: هو غير قادر على فعلها مع كونه مريد لها، فهو محتاج في هدايته إلى إقدار عليها.

* وأمور منها: هو غير قادر عليها ولا مريد لها، فهو محتاج إلى خلق القدرة عليها والإرادة لها لتتم له الهداية.

* وأمور: هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادًا وإرادة، وعلمًا وعملًا، فهو محتاج إلى الثبات عليها واستدامتها، فكانت حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات، وفاقته إليها أشد الفاقات، ولهذا فرض عليه الرب الرحيم هذا السؤال على العبيد كلّ يوم وليلة في أفضل أحواله، وهي الصلوات الخمس، مرات متعددة، لشدة ضرورته وفاقته إلى هذا المطلوب.

* ثم بين أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال، وهو اليهود، والنصارى وغيرهم.

فانقسم الخلق إذًا إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية:

مُنعم عليه: بحصولها له واستمرارها وحظه من المنعم عليهم، بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامها.

وضالٌ: لم يُعطَ هذه الهداية ولم يُوفق لها.

ومغضوب عليه: عَرفها ولم يوفق للعمل بموجبها.

فالضال: حائد عنها، حائر لا يهتدى إليها سبيلا.

والمغضوب عليه: متحير منحرف عنها؛ لانحرافه عن الحق بعد معرفته به مع علمه بها.

فالأول المنعم عليه قائم بالهدى، ودين الحق علمًا وعملًا واعتقادًا والضال عكسه، منسلخ منه

ص: 12

علمًا وعملًا.

والمغضوب عليه لا يرفع بها رأسًا، عارف به علمًا منسلخ عملًا، والله الموفق للصواب.

ولولا أن المقصود التنبيه على المضادة والمنافرة التي بين ذوق الصلاة، وذوق السماع، لبسطنا هذا الموضوع بسطًا شافيًا، ولكن لكل مقام مقال، فلنرجع إلى المقصود.

وشرع له التأمين في آخر هذا الدعاء تفاؤلًا بإجابته، وحصوله، وطابعًا عليه، وتحقيقًا له، ولهذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمين عليه حين سمعُوهم يجهرون به في صلاتهم.

ثم شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيمًا لأمر الله، وزينةً للصلاة، وعبودية خاصةً لليدين كعبودية باقي الجوارح، واتباعًا لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حليةُ الصلاة، وزينتها وتعظيم لشعائرها.

ثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من رُكن إلى ركن، كالتلبية في إنتقالات الحاجِّ، من مشعر إلى مشعر، فهو شعار الصلاة، كما أن التلبية شعار الحج، (مميز ليعلم أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى وتكبيره بعبادته وحده).

ثم شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعًا لعظمة ربه، واستكانة لهيبته وتذللًا لعزته.

فثناء العبد على ربه في هذا الركن؛ هو أن يحني له صلبه، ويضع له قامته، وينكس له رأسه، ويحني له ظهره، ويكبره مُعظمًا له، ناطقًا بتسبيحه، المقترن بتعظيمه.

فاجتمع له خضوع القلب، وخضوع الجوارح، وخضوع القول على أتم الأحوال، ويجتمع له في هذا الركن من الخضوع والتواضع والتعظيم والذكر ما يفرق به بين الخضوع لربه، والخضوع للعبيد بعضهم لبعض، فإن الخضوع وصف العبد، والعظمة وصف الرب.

وتمام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع، ويتضاءل لربه، بحيث يمحو تصاغره لربه من قلبه كل تعظيم فيه لنفسه، ولخلقه ويثبت مكانه تعظيمه ربه وحده لا شريك له.

وكلما استولى على قلبه تعظيم الرب، وقوى خرج منه تعظيم الخلق، وازداد تصاغره هو عند نفسه فالركوع للقلب بالذات، والقصد والجوارح بالتبع والتكملة.

ثم شرع له أن يحمد ربه، ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن هيئاته، منتصب القامة معتدلها فيحمد ربه ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن تقويم، بأن وفقه وهداه لهذا الخضوع الذي قد حرمه غيره.

ثم نقله منه إلى مقام الاعتدال والاستواء، واقفًا في خدمته، بين يديه كما كان في حالة القراءة في ذلك، ولهذا شرع له من الحمد والمجد نظير ما شرع له من حال القراءة في ذلك.

ولهذا الاعتدال ذوق خاص وحال يحصل للقلب، ويخصه سوى ذوق الركوع وحاله، وهو ركن مقصود لذاته كركن الركوع والسجود سواء.

ولهنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطيلُه كما يطيل الركوع والسجود، ويُكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد، كما ذكرناه في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاته وكان في قيام الليل يُكثر فيه من قول:"لربي الحَمد، لربي الحمد" ويكررها.

ثم شرع له أن يكبر ويدنو ويخر ساجدًا، ويُعطي في سجوده كل عضو من أعضائه حظه من العبودية، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه، مسندة راغمًا له أنفه، خاضعًا له قلبه، ويضع أشرف ما فيه -وهو وجهه- بالأرض ولا سيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدًا على الأرض معفرًا له وجهه وأشرف ما فيه بين يدي سيده، راغمًا أنفه، خاضعًا له قلبه وجوارحه، متذللًا لعظمة ربه، خاضعًا لعزته،

ص: 13

منيبًا إليه، مستكينًا ذلًا وخضوعًا وانكسارًا، قد صارت أعاليه ملويةً لأسافله.

وقد طابق قلبُه في ذلك حال جسده، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي الله، وقد سجد معه أنفه ووجهه، ويداه وركبتاه، ورجلاه فهذا العبد هو القريب المقرَّب فهو أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.

وشرع له أن يُقل فخذيه عن ساقيه، وبطنه عن فخذيه وعَضُديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزءٍ منه حظه من الخضوع لا يحمل بعضه بعضًا.

فأحرى به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كلها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربه وهو ساجد". [رواه مسلم (482) عن أبي هريرة رضي الله عنه].

ولما كان سجود القلب خضوعه التام لربه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم القيامة، كما قيل لبعض السلف:

هل يسجد القلب؟

قال: "أي والله سجدة لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله عز وجل". [هذا القول عزاه ابن تيمية لسهل بن عبد الله التستري كما في مجموع الفتاوى (21/ 287) (23/ 138)].

إشارة إلى إخبات القلب، وذلّه، وخضوعه، وتواضعه وإنابته وحضوره مع الله أينما كان، ومراقبته له في الخلاء والملأ، ولما بنيت الصلاة على خمس: القراءة والقيام والركوع والسجود والذكر.

سميت باسم كل واحد من هذه الخمس:

فسمّيت "قيامًا" لقوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2]، وقوله:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].

و"قراءة" لقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20].

وسمّيت "ركوعًا" لقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48].

و"سجودًا" لقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98]، {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].

و"ذكرًا" لقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9].

وأشرف أفعالها السجود، وأشرف أذكارها القراءة، وأول سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} افتتحت بالقراءة، وخُتمت بالسجود، فوضعت الركعة على ذلك، أولها قراءة وآخرها سجود.

ثم شرع له أن يرفع رأسه، ويعتدل جالسًا، ولما كان هذا الاعتدال محفوفًا بسجودين؛ سجود قبله، وسجود بعده، فينتقل من السجود إليه، ثم منه إلى السجود الآخر، كان له شأن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الجلوس بين السجدتين بقدر السجود يتضرع إلى ربه فيه، ويدعوه ويستغفره، ويسأله رحمته، وهدايته ورزقه وعافيته، وله ذوق خاص، وحال للقلب غير ذوق السجود وحالهن؛ فالعبد في هذا القعود يتمثل جاثيًا بين يدي ربه، مُلقيًا نفسه بين يديه، مُعتَذرًا إليه مما جَناَه، راغبًا إليه أن يغفر له ويرحمه، مستَعديًا له

ص: 14

على نفسه الأمَّارة بالسوء.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر الاستغفار في هذه الجلسة فيقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي"، ويكثر من الرغبة فيها إلى ربه.

فمثل أيها المصلي نفسك فيها بمنزلة غريم عليه حق، وأنت كفيل به، والغريم مماطل مخادع، وأنت مطلوب بالكفالة، والغريم مطلوب بالحق، فأنت تستعدي عليه حتى تستخرج ما عليه من الحق، لتتخلص من المطالبة، والقلب شريك النفس في الخير والشر، والثواب والعقاب، والحمد والذم.

والنفس من شأنها الإباق والخروج من رقِّ العبودية، وتضييع حقوق الله عز وجل وحقوق العباد التي قبلها، والقلب شريكها إن قوي سلطانها وأسيرها، وهي شريكته وأسيرته إن قوى سلطانه.

فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله تعالى مستعديًا على نفسه، معتذرًا من ذنبه إلى ربه ومما كان منها، راغبًا إليه أن يرحمه ويغفر له ويرحمه ويهديه ويرزقه ويعافيه، وهذه الخمس كلمات، قد جمعت جماع خير الدنيا والآخرة فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا وفي الآخرة، ودفع المضار عنه في الدنيا والآخرة، وقد تضمّن هذا الدعاء ذلك كله.

فإن الرزق يجلب له مصالح دنياه وأخراه ويجمع رزق بدنه ورزق قلبه وروحه، وهو أفضل الرازقين.

والعافية تدفع مضارها.

والهداية تجلب له مصالح أخراه.

والمغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا والآخرة.

والرحمة تجمع ذلك كلّه. والهداية تعمُّ تفاصيل أموره كلّها.

وشرع له أن يعودَ ساجدًا كما كان، ولا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد؛ وذلك لفضل السجود وشرفه وقرب العبد من ربِّه وموقعه من الله عز وجل، حتى إنَّه أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد، وهو أشهر في العبودية وأعرق فيها من غيره من أركان الصلاة؛ ولهذا جُعل خاتمة الركعة، وما قبله كالمقدمة بين يديه، فمحلّه من الصلاة محل طواف الزيارة، وكما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك وهو طائف كما قال ابن عمر لمن خطب ابنته وهو في الطواف فلم يرد عليه فلما فرغ من الطواف قال: أتذكر أمرًا من أمور الدنيا ونحن نتراءى لله سبحانه وتعالى في طوافنا.

ولهذا والله أعلم، جُعل الركوع قبل السجود تدريجًا وانتقالًا من الشيء إلى ما هو أعلى منه.

وشُرع له تكرير هذه الأفعال والأقوال؛ إذ هي غذاء القلب والروح التي لا قوام لهما إلا بها، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل لقمة بعد لقمة حتى يشبع، والشرب نفسًا بعد نفس حتى يَروى، فلو تناول الجائع لقمة واحدة ثم دفع الطعام من بين يديه فإذا كانت يغني عنه تلك اللقمة؟ وربما فتحت عليه باب الجوع أكثر مما به؛ ولهذا قال بعض السلف:"مثل الذي يصلي ولا يطمئن في صلاته كمثل الجائع إذا قدم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتين ماذا تغني عنه ذلك".

وفى إعادة كل قول أو فعل من العبودية والقرب، وتنزيل الثانية منزلة الشكر على الأولى، وحصول مزيد خير وإيمان من فعلها، ومعرفة وإقبال وقوة قلب، وانشراح صدر وزوال درنٍ ووسخٍ عن القلب بمنزلة كسل الثوب مرَّة بعد مرَّة.

فهذه حكمة الله التي بَهَرت العقول حكمته في خلقه وأمره، ودلت على كمال رحمته ولطفه، وما لم

ص: 15

تحط به علمًا منها أعلى وأعظم وأكبر وإنما هذا يسير من كثير منها.

فلما قضى صلاته وأكملها ولم يبق إلا الانصراف منها، فشرع الجلوس في آخرها بين يدي ربه مُثنيًا عليه بما هو أهله، فأفضل ما يقول العبد في جلوسه هذه التحيات التي لا تصلح إلا لله، ولا تليق بغيره.

ولما كان من عادة الملوك أن يحيوا بأنواع التحيات من الأفعال والأقوال المتضمنة للخضوع لهم، والذل، والثناء عليهم وطلب البقاء، والدوام لهم، وأن يدوم ملكهم.

فمنهم: من يحيي بالسجود ومنهم من يحيي بالثناء عليه.

ومنهم: من يحيي بطلب البقاء، والدوام له.

ومنهم: من يجمع له ذلك كله فيسجد له، ثم يثني عليه، ثم يدعي له بالبقاء والدوام.

وكان الملك الحق المبين، الذي كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه أولى بالتحيات كلها من جميع خلقه، وهي له بالحقيقة وهو أهلها؛ ولهذا فُسرت التحيات بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام، وحقيقتها ما ذكرته، وهي تحيات المُلك والمَلك والمليك.

فالله سبحانه هو المتصف بجميع ذلك، فهو أولى به فهو سبحانه المَلك، وله المُلك، فكل تحية تحيي بها ملك من سجود أو ثناء، أو بقاء، أو دوام فهي لله على الحقيقة؛ ولهذا أتى بها مجموعة معرفة بالألف واللام إرادة للعموم، وهي جمع تحية، تحيا بها الملوك، وهي "تُفعُلة" من الحياة، وأصلها "تحييه" على وزن "تكرمه"، ثم أدغم إحدى اليائين في الآخر فصارت "تحيَّة" فإذا كان أصلها من الحياة، والمطلوب منها لمن تحي بها دوام الحياة، كما كانوا يقولون لملوكهم:

لك الحياة الباقية، ولك الحياة الدائمة.

وبعضهم يقول: عش عشرة آلاف سنة.

واشتق منها: أدام الله أيامك أو أيامه، وأطال الله بقاءك.

ونحو ذلك مما يراد به دوام الحياة والملك، فذلك جميعه لا ينبغي إلا لله الحي القيوم الذي لا يموت.

الذي كل مَلكٍ سواه يموت، وكل مُلك سوى ملكه زائل.

ثم عطف عليها الصلوات بلفظ الجمع والتعريف؛ ليشمل ذلك كلما أُطلق عليه لفظ الصلاة خصوصًا وعمومًا، فكلّها لله ولا تنبغي إلا له، فالتحيات له ملكًا، والصلوات له عبودية واستحقاقًا، فالتحيات لا تكون إلا لله، والصلوات لا تنبغي إلا له.

ثم عطف عليها بالطيبات، وهذا يتناول أمرين: الوصف والملك.

فأما الوصفُ: فإنه سبحانه طيب، وكلامه طيب، وفعله كله طيب، ولا يصدر منه إلا طيب، ولا يضاف إليه إلا الطيب، ولا يصعد إليه إلا الطيب.

فالطيبات له وصفًا وفعلًا وقولًا ونسبةً، وكلّ طيب مضاف إليه طيب، فله الكلمات الطيبات والأفعال، وكل مضاف إليه كبيته وعبده، وروحه وناقته، وجنته دار الطيبين، فهي طيبات كلّها، وأيضًا فمعاني الكلمات الطيبات لله وحده، فإنها تتضمن تسبيحه، وتحميده، وتكبيره، وتمجيده، والثناء عليه بآلائه وأوصافه؛ فهذه الكلمات الطيبات التي يثنى عليه بها، ومعانيها له وحده لا شريك له: كسبحانك اللهمَّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك.

وكسبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

وسبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم، ونحو ذلك. وكلّ طيّب له وعنده ومنه وإليه، وهو طيب

ص: 16

لا يقبل إلا طيّبًا، وهو إله الطيبين وربهم، وجيرانه في دار كرامته، هم الطيبون.

فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن، كيف لا تنبغي إلا لله؟ وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن "سبحان الله" تتضمن تنزيهه عن كل نقص وعيب وسوء عن خصائص المخلوقين وشبههم.

و"الحمد لله" تتضمن إثبات كلّ كمال له قولًا، وفعلًا، ووصفًا على أتمِّ الوجوه، وأكملها أزلًا وأبدًا.

و"لا إله إلا الله" تتضمن انفراده بالإلهية، وأن كل معبود سواه باطل، وأنه وحده الإله الحق، وأن من تأله غيره فهو بمنزلة من اتخذ بيتًا من بيوت العنكبوت، يأوي إليه، ويسكنه من الحرِّ والبرد، فهل يغني عنه ذلك شيئًا.

و"الله أكبر" تتضمن أنه أكبر من كلِّ شيء، وأجل، وأعظم، وأعز وأقوى وأمنع، وأقدر، وأعلم، وأحكم، فهذه الكلمات لا تصح هي ومعانيها إلا لله وحده.

ثم شرع له أن يسلِّم على سائر عباد الله الصالحين، وهم عباده الذين اصطفى بعد الثناء، وتقديم الحمد لله فطابق ذلك قوله:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، وكأنه امتثال له، وأيضًا فإن هنا تحية المخلوق فشرعت بعد تحية الخالق وقدم في هذه التحية أولى الخلق بها وهو النبي صلى الله عليه وسلم، الذي نالت أمته على يده كل خير، وعلى نفسه، وبعده يأتي الثناء على سائر عباد الله الصالحين، وأخصهم بهذه التحية الأنبياء والملائكة، ثم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وأتباع الأنبياء مع عمومها كل عبد صالح في السماء والأرض.

ثم شرع له بعد هذه التحية السلام على من يستحق السلام عليه خصوصًا وعمومًا.

ثم شرع له أن يشهد شهادة الحق التي بنيت عليها الصلاة، والصلاة حق من حقوقها، ولا تنفعه إلا بقرينتها وهي الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وختمت بها الصلاة كما قال عبد الله بن مسعود:"فإذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك، فإن شئت فقم وإن شئت فاجلس".

وهذا إما أن يحمل على انقضائها إذا فرغ منه حقيقة، كما يقوله الكوفيون، أو على مقاربة انقضائها ومشارفته، كما يقول أهل الحجاز وغيرهم، وعلى التقديرين فجعلت شهادة الحق خاتمة الصلاة. كما شرع أن تكون هي خاتمة الحياة.

"فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".

وكذلك شرع للمتوضئ أن يختتم وضوءه بالشهادتين، ثم لما قضى صلاته أذن له أن يسأل حاجته.

وشرع له أن يتوسل قبلها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها من أعظم الوسائل بين يدي الدعاء، كما في السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، وليصل على رسوله ثم ليسل حاجته".

ثم جعل الدعاء لآخر الصلاة كالختم عليها.

فجاءت التحيات على ذلك، أولها حمد لله، والثناء عليه ثم الصلاة على رسوله ثم الدعاء آخر الصلاة، وأَذِنَ النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي بعد الصلاة عليه أن يتخير من المسألة ما يشاء.

ونظير هذا ما شرع لمن سمعٍ الأذان: أن يقول كما يقول المؤذن. وأن يقول رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا. وأن يسأل الله لرسوله الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه المقام المحمود. ثم ليصل عليه. ثم يسأل حاجته.

ص: 17

فهذه خمس سنن في إجابة المؤذن لا ينبغي الغفلة عنها.

وسرُّ الصلاة وروحها ولبُّها، هو إقبال العبد على الله بكليّته فيها، فكما أنه لا ينبغي أن يصرف وجهه عن القبلة إلى غيرها فيها، فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربِّه إلى غيره فيها.

بل يجعل الكعبة -التي هي بيت الله- قبلة وجهه وبدنه، ورب البيت تبارك وتعالى قبلة قلبه وروحه، وعلى حسب إقبال العبد على الله في صلاته، يكون إقبال الله عليه، وإذا أعرضَ أعرض الله عنه، كما تدين تُدان.

والإقبال في الصلاة على ثلاثة منازل:

* إقبال العبد على قلبه فيحفظه ويصلحه من أمراض الشهوات والوساوس، والخطرات المُبطلة لثواب صلاته أو المنقصة لها.

* والثاني: إقباله على الله بمراقبته فيها حتى يعبده كأنه يراه.

* والثالث: إقباله على معاني كلام الله، وتفاصيله وعبودية الصلاة ليعطها حقها من الخشوع والطمأنينة وغير ذلك.

فباستكمال هذه المراتب الثلاث يكون قد أقام الصلاة حقًا، ويكون إقبال الله على المصلي بحسب ذلك.

فإذا انتصب العبد قائمًا بين يديه، بإقباله على قيُّومية الله وعظمته فلا يتفلت يمنة ولا يسرة.

وإذا كبَّر الله تعالى كان إقباله على كبريائه وإجلاله وعظمته.

وكان إقباله على الله في استفتاحه على تسبيحه والثناء عليه وعلى سُبحات وجهه، وتنزيهه عمَّا لا يليق به، ويثني عليه بأوصافه وكماله.

فإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، كان إقباله على ركنه الشديد، وسلطانه وانتصاره لعبده، ومنعه له منه وحفظه من عدوه.

وإذا تلى كلامه كان إقباله على معرفته في كلامه كأنه يراه ويشاهده في كلامه كما قال بعض السلف: لقد تجلّى الله لعباده في كلامه.

والناس في ذلك على أقسام ولهم في ذلك مشارب، وأذواق فمنهم البصير، والأعور، والأعمى، والأصم، والأعمش، وغير ذلك، في حال التلاوة والصلاة، فهو في هذه الحال ينبغي له أن يكون مقبلًا على ذاته وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه وأحكامه وأسمائه.

وإذا ركع كان إقباله على عظمة ربه، وإجلاله وعزه وكبريائه، ولهذا شرع له في ركوعه أن يقول:"سبحان ربي العظيم".

فإذا رفع رأسه من الركوع كان إقباله على حمد ربه والثناء عليه وتمجيده وعبوديته له وتفرده بالعطاء والمنع.

فإذا سجد، كان إقباله على قربه، والدنو منه، والخضوع له والتذلل له، والافتقار إليه والانكسار بين يديه، والتملق له.

فإذا رفع رأسه من السجود جثى على ركبتيه، وكان إقباله على غنائه وجوده، وكرمه وشدّة حاجته إليهنّ، وتضرعه بين يديه والانكسار؛ أن يغفر له ويرحمه، ويعافيه ويهديه ويرزقه.

فإذا جلس في التشهد فله حال آخر، وإقبال آخر يشبه حال الحاج في طواف الوداع، واستشعر قلبه

ص: 18

الانصراف من بين يدي ربه إلى أشغال الدنيا والعلائق والشواغل التي قطعه عنها الوقوف بين يدي ربه وقد ذاق قلبه التألم والعذاب بها قبل دخوله في الصلاة، فباشر قلبه روح القرب، ونعيم الإقبال على الله تعالى، وعافيته منها وانقطاعها عنه مدّة الصلاة، ثم استشعر قلبه عوده إليها بخروجه من حمى الصلاة، فهو يحمل همَّ انقضاء الصلاة وفراغه منها ويقول: ليتها اتصلت بيوم اللقاء.

ويعلم أنه ينصرف من مناجاته مَن كلّ السعادة في مناجته، إلى مناجاة من كان الأذى والهم والغم والنكد في مناجاته، ولا يشعر بهذا وهذا إلا من قلبه حي معمور بذكر الله ومحبته، والأنس به، ومن هو عالم بما في مناجاة الخلق ورؤيتهم، ومخالطهم من الأذى والنكد، وضيق الصدر وظلمة القلب، وفوات الحسنات، واكتساب السيئات، وتشتيت الذهن عن مناجاة الله تعالى عز وجل.

ولما كان العبد بين أمرين من ربه عز وجل:

أحدهما: حكم الرب عليه في أحواله كلها ظاهرًا وباطنًا، واقتضاؤه من القيام بعبودية حكمه، فإن لكلّ حكم عبودية تخصه، أعني الحكم الكوني القدري.

والثاني: فعل، يفعله العبد عبودية لربه، وهو موجب حكمه الديني الأمري.

وكلا الأمرين يوجبان بتسليم النفس إلى الله سبحانه، ولهذا اشتق له اسم الإسلام من التسليم، فإنه لما سلّم لحكم ربه الديني الأمري، ولحكمه الكوني القدري، بقيامه بعبودية ربه فيه لا باسترساله معه في الهوى، والشهوات، والمعاصي، ويقول: قدَّر عليّ استحق اسم الإسلام فقيل له: مسلم.

ولما اطمأن قلبه بذكر الله، وكلامه، ومحبته وعبوديته سكن إلىٍ ربه، وقرب منه، وقرَّت به عينه فنال الأمان بإيمانه ونال السعادة بإحسانه، وكان قيامه بهذين الأمرين أمرًا ضروريًا أي لا حياة له، ولا فلاح ولا سعادة إلا به.

ولما كان ما بُلي به من النفس الأمارة، والهوى المقتضي لمرادها والطباع المطالبة، والشيطان المغوي، يقتضون منه إضاعة حظه من ذلك، أو نقصانه، اقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم أن شَرَعَ له الصلاة مُخلِفة عليه ما ضاع عليه من ذلك، رادَّة عليه ما ذهب منه، مجددة له ما ذهب من عزمه وما فقده، وما أخلِقَ من إيمانه، وجعل بين كل صلاتين برزخًا من الزمان حكمة ورحمة، ليُجمّ نفسه، ويمحو بها ما يكتسبه من الدرن، وجعل صورتها على صورة أفعاله، خشوعًا وخضوعًا وانقيادًا وتسليمًا وأعطى كل جارحة من جوارحه حظَّها من العبودية، وجعل ثمرتها وروحها إقباله على ربه فيها بكليته، وجعل ثوابها ومحلها الدخول عليه تبارك وتعالى، والتزين للعرض عليه تذكيرًا بالعرض الأكبر عليه يوم القيامة.

وكما أن الصوم ثمرته تطهير النفس، وثمرة الزكاة تطهير المال، وثمرة الحج وجوب المغفرة، وثمرة الجهاد تسليم النفس إليه، التي اشتراها سبحانه من العباد، وجعل الجنة ثمنها؛ فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، وإقبال الله سبحانه على العبد، وفي الإقبال على الله في الصلاة جميع ما ذكر من ثمرات الأعمال وجميع ثمرات الأعمال في الإقبال على الله فيها.

ولهذا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت قرة عيني في الصوم، ولا في الحج والعمرة، ولا في شيء من هذه الأعمال وإنما قال:"وجعلت قرة عيني في الصلاة".

وتأمل قوله: "وجلت قرة عيني في الصلاة" ولم يقل: "بالصلاة"، إعلامًا منه بأن عينه لا تقر إلا بدخوله كما تقر عين المحب بملابسته لمحبوبه وتقر عين الخائف بدخول في محل أنسه وأمنه، فقرة العين بالدخول في الشيء أتم وأكمل متى قرت العين به قبل الدخول فيه، ولما جاء إلى راحة القلب من تعبه

ص: 19

ونصبه قال: "يا بلال أرحنا بالصلاة".

أي أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل كما يستريح التعبان إذا وصل إلى مأمنه ومنزله وقرَّ فيه، وسكن وفارق ما كان فيه من التعب والنصب.

وتأمل كيف قال: "أرحنا بالصّلاة" ولم يقل: "أرحنا منها"، كما يقوله المتكلف الكاره لها، الذي لا يصليها إلا على إغماض وتكلف، فهو في عذاب ما دام فيها، فإذا خرج منها وجد راحة قلبه ونفسه؛ وذلك أنَّ قلبه ممتلئ بغيره، والصلاة قاطعة له عن أشغاله ومحبوباته الدنيوية، فهو معذَّب بها حتى يخرج منها، وذلك ظاهر في أحواله فيها، من نقرها، والتفات قلبه إلى غير ربه، وترك الطمأنينة والخشوع فيها، ولكن قد عَلِمَ أنَّه لا بدّ له من أدائها، فهو يؤديها على أنقص الوجوه، قائل بلسانه ما ليس في قلبه ويقول بلسان قلبه حتى نصلي فنستريح من الصلاة، لا بها.

فهذا لونٌ وذاك لونٌ آخر.

ففرق بين مَن كانت الصلاة لجوارحه قيدًا ثقيلًا، ولقلبه سجنًا ضيقًا حرجًا، ولنفسه عائقا، وبين مَن كانت الصلاة لقلبه نعيمًا، ولعينه قرة ولجوارحه راحة، ولنفسه بستانًا ولذة.

فالأول: الصلاة سجن لنفسه، وتقييد لجوارحه عن التورط في مساقط الهلكات، وقد ينال بها التكفير والثواب، أو ينال من الرحمة بحسب عبوديته لله تعالى فيها، وقد يعاقب على ما نقص منها.

والقسم الآخر: الصلاة بستان له، يجد فيها راحة قلبه، وقرة عينه، ولذَّة نفسه، وراحة جوارحه، ورياض روحه، فهو فيها في نعيم يتفكَّه، وفي نعيم يتقلَّب يوجب له القرب الخاص والدنو، والمنزلة العالية من الله عز وجل، ويشارك الأولين في ثوابهم، بل يختص بأعلاه، وينفرد دونهم بعلو المنزلة والقربة، التي هي قدر زائد على مجرد الثواب.

ولهذا تَعِدُ الملوك من أرضاهم بالأجر والتقريب، كما قال السحرة لفرعون:{أَئِنَّ لَنَا لَأجرًا إِن كُنا نَحنُ الغالبينَ} [الشعراء: 41]، {قَالَ نَعَمْ وَإنكم لَمِنَ المقربِينَ} [الأعراف: 114].

فوعدهم بالأجر والقرب، وهو علو المنزلة عنده.

فالأول: مَثَله مثل عبد دخل الدار، دار الملك، ولكن حيل بينه وبين رب الدار بسترٍ وحجاب، فهو محجوب من وراء الستر فلذلك لم تقر عينه بالنظر إلى صاحب الدار والنظر إليه؛ لأنه محجوب بالشهوات، وغيوم الهوى ودخان النَفس، وبخار الأماني، فالقلب منه بذلك وبغيره عليل، والنفس مُكبَّة على ما تهواه، طالبة لحظها العاجل.

فلهذا لا يريد أحد من هؤلاء الصلاة إلا على إغماض، وليس له فيها راحة، ولا رغبة ولا رهبة فهو في عذاب حتى يخرج منها إلى ما فيه قرة عينه من هواه ودنياه.

والقسم الآخر: مَثَلُهُ كمثل رَجُلٍ دخَل دار الملك، ورفع الستر بينه وبينه، فقرَّت عينه بالنظر إلى الملك، بقيامه في خدمته وطاعته، وقد أتحفه الملك بأنواع التحف، وأدناه وقربه، فهو لا يحب الانصراف من بين يديه، لما يجده من لذَّة القرب وقرة العين، وإقبال الملك عليه، ولذة مناجاة الملك، وطيب كلامه، وتذلُّله بين يديه، فهو في مزيد مناجاة، والتحف وافدة عليه مِن كلِّ جهة، ومكان وقد اطمأنت نفسه، وخشع قلبه لربه وجوارحه، فهو في سرورٍ وراحةٍ يعبد الله، كأنه يراه، وتجلى له في كلامه، فأشد شيء عليه انصرافه من بين يديه، والله الموفق المُرشد المعين، فهذه إشارة ونبذة يسيرة في ذوق الصلاة، وسرّ من أسرارها وتجل من تجلياتها.

ص: 20