الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ركعتين بحذائه في حاشية المقام، وليس بينه وبين الطواف أحد (1)، وفي رواية:(وليس بينه وبين الطواف سترة)، فهذا قد استدل به من قال: لا سترة في المسجد الحرام.
ولكن هذا الإستدلال غير ناهض؛ لوجوه منها:
الأول: أن الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن بعض أهله عن جده، ففي إسناده مجهول وهو الواسطة بين كثير وجده وفيه علة أخرى، وهي الاختلاف في إسناده (2).
الثاني: أنه فعل، وأحاديث الأمر بالسترة قول، وقد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة.
الثالث: أنه معارض بما هو أقوى منه، وهو ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم اتخاذ السترة سفرًا وحضرًا الثابت بالأحاديث الصحيحة. وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم بالسترة أمرًا صريحًا مطلقًا في نصوص كثيرة -كما تقدم-.
الرابع: أن الثابت في حديث جابر رضي الله عنه وغيره أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد فراغه من الطواف خلف المقام، فيكون المقام سترة له. قال جابر رضي الله عنه:(وطاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وصلى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت .. )(3) ولهذا قال السندي رحمه الله على حديث المطلب: (قلت: لكن المقام يكفي سترة، وعلى هذا فلا يصلح هذا الحديث دليلًا لمن يقول: لا حاجة في مكة إلى سترة، فليتأمل)(4).
ومن العلماء من يجيز المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام في حال الضرورة (5) كالزحام الشديد للمشقة، ولا أعلم لذلك دليلًا. لكني أقول؛ ليت الأمر اقتصر في المسجد الحرام على حال الضرورة، كأيام الحج، ورمضان -مثلًا-؛ لأن الواجب على العبد أن يتقي الله ما استطاع، ولكن صار المرور شيئًا عاديًا لدى عموم الناس، حتى إن بعضهم ليمر بين يدي المتنفلين ذهابًا وإيابًا لأدنى حاجة، دون أن يحسّ بحرج، وهذا مما يشاهد ويؤسف عليه، إذ لا ريب أن المرور بين يدي المصلي فيه تشويش عليه وأذية له، فالله المستعان.
الحكم الثامن لا يخرج من المسجد بعد الأذان
من آداب حضور المساجد: أن لا يخرج المسلم بعد الأذان إلا لعذر؛ لأن الخروج إعراض عما يقتضيه الأذان من طلب الإقبال وحضور المساجد لأداء الصلاة؛ ولئلا يكون الخروج ذريعة إلى الاشتغال عن صلاة الجماعة والتأخر عنها، وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين .. " الحديث (6).
قال ابن بطال: (يشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن من هذا المعنى؛
(1) أخرجه أحمد (6/ 399)، وأبو داود (2016)، وابن ماجه (2/ 986)، والنسائي (2/ 67، 5/ 235)، واللفظ له.
(2)
انظر السلسلة الضعيفة للألباني (928).
(3)
تقدم تخريجه قريبًا.
(4)
حاشية السندي على سنن النسائي (2/ 67).
(5)
انظر فتح الباري (1/ 576).
(6)
أخرجه البخاري (583)، ومسلم (389).
لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفرّ عند سماع الأذان، والله أعلم) (1).
وعن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة رضي الله عنه فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فاتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة:(أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم)(2).
وهذا المرفوع حكمًا الذي يحتج به؛ لأن الحكم على الشيء بأنه طاعة أو معصية لا يكون إلا بنص من الشارع، ولا يجزم الصحابي بذلك إلا وعنده علم منه، على أنه قد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع النداء في مسجدي هذا، ثم يخرج منه إلا لحاجة، ثم لا يرجع إليه إلا منافق"(3).
قال الترمذي رحمه الله بعد حديث أبي هريرة المتقدم: (وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، ألا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر؛ أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه) اهـ (4).
أما من خرج لعذر شرعي كوضوء فقد ورد الدليل بجوازه، وهو ما دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف، حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف، قال:"على مكانكم" فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه ماء، وقد اغتسل (5).
وكذا يجوز الخروج لمن كان إمامًا في مسجد آخر حضر درسًا أو محاضرة؛ لأن هذا عذر شرعي داخل في عموم الحاجة المنصوص على استثنائها.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج، لحاجة، وهو لا يريد الرجعة فهو منافق"(6).
وعن سعيد بن المسيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال: "لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا منافق، إلا أحد أخرجته حاجة وهو يريد الرجوع" (7).
والمعنى: أن فعله هذا فعل المنافق؛ إذ المؤمن حقًا ليس من شأنه ذلك، فالنفاق هنا النفاق العملي، وليس الاعتقادي، والله أعلم (8).
وبعض المؤذنين إذا أذن خرج إلى بيته أو لشغله، وهذا وإن كان يريد الرجوع لكن الأولى في حقه عدم الخروج؛ لأنني أخشى أن يكون خروجًا لغير حاجة، بل دعت إليه العادة والملل من الجلوس في المسجد حتى الإقامة لا سيما في الأوقات التي يتسع فيها الزمن بين الأذان والإقامة في غالب المساجد، والمؤذن أولى بالامتثال من غيره؛ لأنه يدعو الناس إلى حضور الصلاة والمبادرة إليها، ثم هو يخرج ولا يعود إلا قبيل الإقامة. فينبغي التنبه لذلك، والتنبيه عليه.
(1) شرح ابن بطال على البخاري (2/ 235)، فتح الباري (2/ 87).
(2)
أخرجه مسلم (3/ 162)، وغيره. وانظر أعلام الموقعين (3/ 160)، وفيه (قال عمار .. )، بدل (قال أبو هريرة).
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 501، 502)، ورواته محتج بهم في الصحيح، قاله في مجمع الزوائد (2/ 5)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 179).
(4)
جامع الترمذي (1/ 608 مع التحفة).
(5)
أخرجه البخاري (613)، ومسلم (605).
(6)
أخرجه ابن ماجه (1/ 123 صحيح ابن ماجه)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 179).
(7)
رواه أبو داود في المراسيل (ص 82)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 179).
(8)
قاله الألباني في المصدر المذكور.