الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذكر أو سماع الخطبة أو ما فيه منفعة) (1).
وقد ورد في بعض طرق الحديث تقييد ذلك بالجمعة، وسأذكر ذلك -إن شاء الله- عند الكلام على أحكام حضور الجمعة.
الحكم العاشر تسوية الصفوف وإتمامها
من آداب حضور المساجد تسوية الصفوف إذا أقيمت الصلاة، ولقد أولى الإسلام صفوف المصلين عناية كبيرة، حيث أمر بتسوية الصفوف، وبين كيفية التسوية، وأظهر فضيلة تسويتها، والاهتمام بها.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة"، وفي رواية:"من إقامة الصلاة"(2).
وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول:"استووا، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم .. "(3).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لتسوُّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم"(4).
فهذه نصوص واضحة في وجوب تسوية الصفوف، قال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه:(باب إثم من لا يتم الصفوف)، وأورد فيه بسنده عن بشير بن يسار الأنصاري عن أنس بن مالك: أنه قدم المدينة، فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف)(5).
قال في فتح الباري: (يحتمل أن يكون البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله: "سووا صفوفكم"، ومن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ومن ورود الوعيد على تركه، فترجح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب، وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن، ومع الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنسًا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة)(6). وفي تسوية الصفوف ثواب عظيم دلت عليه السنة؛ فمن ذلك ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله"(7). وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1) نيل الأوطار (3/ 284).
(2)
أخرجه البخاري (690)، ومسلم (433)، والرواية الثانية للبخاري.
(3)
أخرجه مسلم (432).
(4)
أخرجه البخاري (685)، ومسلم (436).
(5)
أخرجه البخاري (724).
(6)
فتح الباري (2/ 210).
(7)
أخرجه أبو داود (666)، وأخرج آخره من قوله:"ومن وصل صفًا .. " ابن خزيمة (3/ 23)، والنسائي (2/ 93)، والحاكم (1/ 213)، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط مسلم لم يخرجاه" وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1/ 131).
"من سد فرجة رفعه الله بها درجة، وبنى له بيتًا في الجنة"(1). وعن عائشة أيضًا رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف"(2).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وما من خطوة أجرًا من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها"(3). فهذه الأحاديث تبين فضيلة تسوية الصفوف وسدّ الفرج، ومدح من يلين بين صاحبه إذا أمره بالاستواء، أو أراد دخولًا في الصف؛ لسد فرجة أو لضيق مكان فلا يمنعه، بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه بمنكبه، فهذا من خيار الناس (4). وأما كيفية تسوية الصف فقد دلت عليها نصوص كثيرة تقدم بعضها، ومنها -أيضًا- ما ورد عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري"، وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه، وفى رواية: قال أنس: (لقد رأيت أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه، ولو ذهبت تفعل ذلك اليوم لترى أحدهم كأنه بغل شموس)(5). والشموس: بضم المعجمة والميم: الفرس يستعصي على راكبه (6). وقال النعمان بن بشير رضي الله عنه: (فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه)(7).
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر"(8). ومن مجموع النصوص يتضح أن تسوية الصف تتحقق بما يلي:
إتمام الصف الأول فالأول، وسدّ الفرج بالتراص.
استقامة الصف وتعديله بالمحاذاة بين الأعناق والمناكب والركب والأكعب، بحيث لا يتقدم عنق على عنق، ولا منكب على منكب ولا صدر على صدر.
ألا يوسع المصلي بين قدميه؛ لأن ذلك يمنع التصاق منكب صاحبه بمنكبه.
التقارب فيما بين الصفوف، وفيما بينها وبين الإمام؛ فإن هذا من تسوية الصفوف (9).
وليس من تسوية الصف ما يفعله بعض الناس من ملاحقة من على يمينه ومن على يساره؛ ليلصق كعبه بكعب جاره، يفعل ذلك في القيام والركوع وبعد الرفع من الركوع. وهذا الفعل لا أصل له في تسوية الصفوف، وفيه أخطاء عديدة:
(1) رواه الطبراني في الأوسط (5793)، وانظر صحيح الترغيب (502).
(2)
أخرجه أحمد (5/ 316 الفتح الرباني)، وابن ماجه (997)، وغيرهما، وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط (6/ 103، 115، 141)، وروى الشطر الأول منه البزار (351 زوائده)، وإسناده حسن؛ لأن فيه ليث بن أبي سليم، وهو سيىء الحفظ، ويشهد له حديث ابن عباس الذي عند أبي داود (672)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (5/ 52)، وابن خزيمة (1566).
(4)
انظر معالم السنن للخطابي (1/ 334).
(5)
أخرجه البخاري (692)، والرواية الثانية لأبي يعلى في مسنده (4/ 30)، وسعيد بن منصور والإسماعيلي كما في فتح الباري (2/ 211). وسندها صحيح على شرط الشيخين كما في السلسلة الصحيحة (31).
(6)
المصباح المنير ص (322).
(7)
أخرجه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم (2/ 211 الفتح). انظر تغليق التعليق (2/ 302).
(8)
أخرجه أبو داود (671)، والنسائي (2/ 93)، وإسناده صحيح.
(9)
انظر: الشرح الممتع (3/ 13).
الأول: أن فيه اشتغالًا؛ فيه اشتغال بما لم يشرع، وإكثار من الحركة، واهتمام بعد القيام لملأ الفراغ، وفيه اشغال للجار بملاحقة قدمه.
الثاني: فيه توسيع للفرج بين المتصافين، ويظهر ذلك إذا هوى المأموم للسجود. وهذا يؤدي إلى عدم التصاق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبته، وكعبه بكعبه، فانظر كيف ضيّع هذا المصلي سنة من أجل فعل لا أصل له.
الثالث: فيه اقتطاع لمحل قدم غيره بغير حق، فإن جاره يفر منه وهو يلاحقه في مكانه الذي سبق إليه.
الرابع: فيه تفويت لتوجيه رؤوس القدمين إلى القبلة؛ لأن أكثر هؤلاء يلوي قدمه، ليلزقها بقدم جاره.
الخامس: أن رصّ الصفوف خاص بما يلي الإمام، فمن كان يمين الصف فحقه أن يسد الخلل ويتم الصف متجهًا إلى اليسار، ومن كان على يسار الإمام فيتجه إلى اليمين، وفي هذا الفعل مخالفة بينة لهذه السنة (1) ولا دليل لمن يفعل ذلك بقول النعمان بن بشير المتقدم:(فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه)، فإن المراد بالحديث -كما يقول الحافظ في الفتح- المبالغة في تعديل الصف، وسدّ خلله (2)؛ بدليل أن إلزاقه الركبة بالركبة حال القيام متعذر. وإنما ذكرت هذه الجزئية؛ لأني رأيت من يفعلها، ويحرص عليها ويناقش فيها، فرحم الله امرأ وقف عند السنة، ولم يفض به تطبيقها على الغلو والزيادة. ولا ينبغي للإنسان أن يقف بين السواري لغير حاجة؛ لما ورد عن معاوية ابن قرة، عن أبيه قال:(كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونطرد عنها طردًا)(3)، وله شاهد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه يتقوى به، يرويه عبد الحميد بن محمود قال: صليت مع أنس بن مالك يوم الجمعة فدفعنا إلى السواري، فتقدمنا وتأخرنا، فقال أنس:"كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(4). فهذا الحديث وما قبله نص صريح في أنه لا ينبغي للمصلين أن يصفوا بين السواري؛ لأن السواري تحول بينهم وبين اتصال الصف وتسويته (5). لكن إن ضاق المسجد فلا بأس، كالمسجد الحرام أو بعض المساجد الكبيرة، وذلك للحاجة، لكن لا ينبغي التساهل في هذا، كما يوجد في المسجد الحرام عند قلة الناس، عندما يلزمك بعض الناس بإتمام الصف ولو كان بين السواري مع إمكان التقدم أو التأخر، فالذي أراه أن مثل هذا الصف ينبغي تركه إذا لم يكن حاجة، أما إذا كان الصف صغيرًا قدر ما بين الساريتين فلا بأس؛ لعدم العلة، وهي انقطاع الصف على القول بها.
ولا بأس بالصلاة بين الساريتين في غير الجماعة كالنافلة، قال البخاري رحمه الله: (باب الصلاة بين
(1) انظر رسالة: (لا جديد في أحكام الصلاة)، بقلم: بكر أبو زيد (ص 9)، وما بعدها. مجموع فتاوى ابن عثيمين (13/ 51).
(2)
فتح الباري (2/ 211).
(3)
أخرجه ابن خزيمة (1567)، وابن ماجه (1002)، والحاكم (1/ 218)، والبيهقي (3/ 104)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وواففه الذهبي، وفي سنده: هارون بن مسلم، وهو مستور، لكن يشهد له ما بعده، وانظر السلسلة الصحيحة (335).
(4)
أخرجه أبو داود (2/ 370)، والترمذي (2/ 21)، والنسائي (1/ 131) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال الحافظ في الفتح (1/ 578): حديث أنس إسناده صحيح.
(5)
انظر فتح الباري (1/ 578).
السواري في غير جماعة)، وذكر حديث ابن عمر قال:(دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال، فأطال ثم خرج، كنت أول الناس دخل على أثره، فسألت بلالًا: أين صلّى؟ قال: بين العمودين المقدمين)(1).
وليحذر المصلي أن يقف في صف متأخر مع وجود أمكنة خالية في الصفوف الأول، كما يفعله بعض الناس عندما يقيمون صفًا أو صفوفًا وبينهم وبين الإمام صفوف شاغرة، فإن هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه
…
" الحديث، وتقدم قريبًا، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يأخرون حتى يؤخرهم الله" (2). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(ولا يصف في الطرقات والحوانيت مع خلو المسجد، ومن فعل ذلك استحق التأديب، ولمن جاء بعده تخطيه، ويدخل لتكميل الصفوف المتقدمة، فإن هذا لا حرمة له).
وقال: (بل إذا امتلأ المسجد بالصفوف صفوا خارج المسجد، فإن اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم، وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشى الناس فيه لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء، وكذلك إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة فإنه لا تصح صلاتهم في أظهر قول العلماء)(3). وقال أيضًا: (والسنة في الصفوف أن يتموا الأول فالأول، ويتراصون في الصف، فمن صلى في موخرة المسجد مع خلو ما يلي الإمام كانت صلاته مكروهة، والله أعلم)(4).
وختامًا أوجه نداء إلى أئمة المساجد أن يهتموا بتسوية الصفوف، ويأمروا المأمومين بذلك قبل تكبيرة الإحرام بألفاظ التسوية الثابتة في السنة؛ مثل: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، اعتدلوا، سوّوا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة، أتموا الصف الأول فالأول (5)، ونحو ذلك، ويختار من الألفاظ الواردة ما يناسب الحال، والأولى عدم زيادة:(رحمكم الله)؛ لعدم ورودها في أحاديث تسوية الصفوف.
ولا يكفي أن يقول الإمام ذلك دون أن يلتفت إلى المأمومين -كما عليه بعض الأئمة- ثم يكبر ويترك الخلل والفرجات، وعلى الإمام أن يحيي السنة المهجورة، فيأتي بنفسه إلى ناحية الصف لتسويته، أو يرسل رجلًا لتسوية الصف، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرف بنفسه على تسوية الصف، قال أبو مسعود -عقبة بن عمرو رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول:"استووا ولا تختلفوا .. "(6) ويقول البراء رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية، يمسح صدورنا ومناكبنا، ويقول:"لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"(7)، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأمر بتسوية الصفوف،
(1) انظر فتح الباري (1/ 578)، والسنن الكبرى للبيهقي (3/ 104).
(2)
انظر: القول المبين في أخطاء المصلين (ص 213)، والحديث الثاني تقدم تخريجه في الحكم الرابع من هذا الفصل.
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 410).
(4)
المصدر السابق (23/ 408).
(5)
انظر: المصنف لابن أبي شيبة (1/ 351).
(6)
تقدم قريبًا.
(7)
رواه أبو داود (664)، والنسائي (2/ 89، 90)، وابن خزيمة (3/ 24)، وإسناده صحيح، وانظر صحيح الترغيب (490).