الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يصليا. فقال: "علي بهما"، فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال:"ما منعكما أن تصليا معنا"؟ فقالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا، قال:"فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد الجماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة"(1).
فهذا صريح في جواز إعادة الجماعة لمن دخل مسجدًا وأهله يصلون بعد الفجر وهو وقت نهي.
ومن ذلك -أيضًا-: ركعتا الطواف، لحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى آية ساعة شاء من ليل أو نهار"(2).
فهذه الأحاديث وغيرها مخصصة لعموم حديث "لا صلاة"، وحديث تحية المسجد عام محفوظ لم يدخله التخصيص، وأحاديث النهي ليس فيها حديث واحد عام باق على عمومه، بل كلها مخصوصة، والعام والذي لم يدخله التخصيص مقدم على العام الذي دخله التخصيص (3).
ومما يؤيد إخراج تحية المسجد من عموم النهي غير ما ذكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتحية المسجد حال الخطبة، كما سيأتي إن شاء الله. والنهي عن الصلاة في وقت الخطبة أشد؛ لأن السامع منهي عن كل ما يشغله عن الاستماع حتى الصلاة حيث أمر الشرع بتخفيفها، فإذا فعلت تحية المسجد وقت الخطبة ففعلها في سائر الأوقات أولى (4).
ثم إن تحية المسجد كغيرها من ذوات الأسباب تفوت إذا أخرت عن وقت النهي ويحرم المصلي ثوابها، وهذا بخلاف النفل المطلق، فإنه إذا منع منه المكلف وقت النهي ففي غيره من الأوقات متسع لفعله، فلا تضييق عليه ولا حرمان، بل قد يكون في المنع من الصلاة في بعض الأوقات مصلحة للمكلف من إجمام نفسه وإقبالها على فعل الطاعة بنشاط، وهذا أمر ملحوظ (5).
وعلى هذا فتحمل أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المذكورة على ما لا سبب له، كالنفل المطلق، ويخص منها ما له سبب كتحية المسجد. وهذا هو الرأي المختار -إن شاء الله- وبه تجتمع الأدلة، ويعمل بها كلها (6). والله أعلم.
لا صلاة إذا أقيمت الصلاة
اعلم أن النافلة لا تشرع إذا دخل المسجد والإمام في الفريضة، أو قد شرع المؤذن في الإقامة، أو دخل والصلاة ستقام، فلا تصلِّ تحية المسجد في هذه الحالات؛ وذلك لعموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"(7). وعند ابن حبان: "إذا أخذ المؤذن في الإقامة"(8).
(1) أخرجه أبو داود (2/ 283)، والترمذي (219)، والنسائي (2/ 112)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
والفرائص بالصاد: جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها. قاله في النهاية (3/ 431).
(2)
أخرجه الترمذي (3/ 604)، والنسائي (1/ 284)، وأحمد (4/ 80)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3)
انظر مجموع الفتاوى (23/ 185، 195)، وأعلام الموقعين لابن القيم (2/ 322).
(4)
انظر مجموع الفتاوى (23/ 192، 193).
(5)
انظر مجموع الفتاوى (23/ 187، 196).
(6)
انظر فتح الباري (2/ 59)، وتعليق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عليه-.
(7)
أخرجه مسلم (710)، وأبو داود (4/ 143)، والترمذي (2/ 481)، والنسائي (2/ 16).
(8)
صحيح ابن حبان (3/ 307)، ورجال إسناده ثقات.
قال النووي: (الحكمة فيه أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام، والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالنافلة)(1).
وقال القاضي: (وفيه حكمة أخرى: وهو النهي عن الاختلاف على الأئمة)(2).
قال العراقي: (إن قوله "فلا صلاة" يحتمل أن يراد: فلا يشرع حينئذ في صلاة عند إقامة الصلاة، ويحتمل أن يراد: فلا يشتغل بصلاة وإن كان قد شرع فيها قبل الإقامة، بل يقطعها المصلي؛ لإدراك فضيلة التحرم، أو أنها تبطل بنفسها وإن لم يقطعها المصلي، يحتمل كلًا من الأمرين)(3).
واعلم أنه لا فرق في منع التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة بين الراتبة أو غيرها، كما أنه لا فرق بين ركعتي الفجر أو غيرهما، وما يتوهمه بعض الناس من جواز ركعتي الفجر ولو كان الإمام في المكتوبة؛ بحجة طول القراءة وأنه يتمكن من أدائها قبل الركوع فهذا غير صحيح، وصلاته باطلة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"(4). وأداء ركعتين والصلاة قد أقيمت ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون مردودًا على صاحبه، وما كان مردودًا على صاحبه فهو فاسد، كيف وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما تقدم، فيكون أشد ردًا.
وأما ما ورد من زيادة: (فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الصبح) فهي كما قال ابن القيم: (زيادة كاسمها لا أصل لها).
وقال البيهقي: (هذه الزيادة لا أصل لها)؛ وذلك لأن في إسنادها حجاج بن نصير الفساطيطي، وعباد بن كثير الثقفي:(وهما ضعيفان). وفي التقريب: أن الأول ضعيف، والثاني متروك (5).
لكن إذا أقيمت الصلاة وهو في تحية المسجد، أو في راتبة، فهل يقطعها؟ ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يقطعها؛ لعموم "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". فإن الحديث عام يشمل من شرع في النافلة بعد سماع الإقامة للفريضة، أو كان قد شرع في النافلة وسمع الإقامة بعد ذلك، وقد أخرج ابن أبي شيبة عن بيان قال:(كان قيس بن أبي حازم يؤمنا فأقام المؤذن للصلاة وقد صلى ركعة، قال: فتركها، ثم تقدم فصلى بنا)(6).
ولأجل أن يدرك الفريضة من أولها بإدراك تكبيرة الإحرام بعد تكبير الإمام، كما ذكر النووي سابقًا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا كبر فكبروا"(7) وهذه الجملة تدل على أن تكبير المأموم يقع عقب تكبير الإمام فلا يقارنه ولا يتقدم عليه، بدليل رواية أبي داود:"ولا تركعوا حتى يركع، ولا تسجدوا حتى يسجد".
القول الثاني: أنه لا يقطعها بل يتمها، واستدل من قال بهذا بعموم قوله تعالى:{ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33].
(1) شرح النووي على مسلم (5/ 230).
(2)
شرح صحيح مسلم للقاضي عياض (3/ 46).
(3)
انظر: نيل الأوطار (3/ 97).
(4)
أخرجه مسلم (1718)، وأخرجه البخاري تعليقًا في البيوع وموصولًا في الصلح. انظر فتح الباري (4/ 355)، وأخرجه أبو داود (4606)، وابن ماجه (14).
(5)
انظر أعلام الموقعين (2/ 356)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 483)، ومجموع الفتاوى (23/ 264).
(6)
المصنف لابن أبي شيبة (2/ 79).
(7)
أخرجه البخاري (371)، ومسلم (411)، وهو من حديث أنس رضي الله عنه وقد ورد اللفظ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورواه أبو داود (2/ 314)، من حديث أبي هريرة.
ووجه الدلالة: أن قطع النافلة وعدم إتمامها إبطال للمؤدي، والآية تنهي عن إبطال الأعمال مطلقًا، فيدخل ذلك في عمومها، قال الشوكاني في فتح القدير:(والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال كائنًا ما كان، من غير تخصيص بنوع معين)(1).
وأجابوا عن حديث أبي هريرة -المتقدم- بأن النهي متوجه إلى الشروع في غير تلك المكتوبة. وأما إتمام المشروعة قبل الإقامة فضروري لا اختياري، فلا يدخل في النهي المستفاد من الحديث، عملًا بعموم الآية.
القول الثالث: التفصيل: وهو أنه إذا كان في الركعة الثانية فلا يقطعها بل يتمها خفيفة، وإن كان في الركعة الأولى فإنه يقطعها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة"(2). فمن صلى ركعة قبل الإقامة فقد أدرك ركعة من الصلاة سالمة من المعارض الذي هو الإقامة، فيكون قد أدرك الصلاة بإدراكه الركعة فيتمها خفيفة، ومن كان في الركعة الأولى ولو في السجدة الثانية منها فإنه يقطعها؛ لأنه لم تتمّ له هذه الصلاة، ولم تخلص له حيث لم يدرك منها ركعة قبل النهي عن النافلة (3).
يقول العلامة المباركفوري في شرح المشكاة: (الراجح عندي: أن يقطع عند الإقامة إن بقيت عليه ركعة، فإن أقل الصلاة ركعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة بعد الإقامة إلا المكتوبة" فلا يجوز له أن يصلي ركعة بعد الإقامة، وأما إذا أقيمت الصلاة وهو في السجدة أو التشهد فلا بأس لو لم يقطعها؛ لأنه لا يصدق عليه أنه صلى صلاة، أكما: ركعة بعد الإقامة
…
) (4).
وأما الآية فيجاب عليها بثلاثة أجوبة:
الأول: أنها عامة والحديث خاص، والخاص يقضي على العام، ولا يخالفه، كما في الأصول، فيكون إبطال النافلة بإقامة الصلاة مخصّصًا من عموم الآية بمقتضى الحديث.
الثاني: أن سياق الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] يدل على -والله أعلم- أن الإبطال إنما يكون بمعصية الله تعالى أو معصية رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الآية أمر بطاعة الله وطاعة رسوله ونهي عن المعصية المؤدية إلى إبطال الأعمال.
الثالث: أن قطع النافلة إذا أقيمت الفريضة لا معصية فيه، بل هو عين الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم القائل:"إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة".
قال في المحلى: (فإن قيل: قال الله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم}! قلنا: نعم هذا حق وما هو أبطلها، ولو تعمد إبطالها لكان مسيئًا. ولكن الله عز وجل أبطلها عليه، كما تبطل بالحدث، وبمرور ما يبطل الصلاة مروره، ونحو ذلك)(5).
وعلى القول بأنه يقطعها فإنه لا يحتاج إلى تسليم -على أرجح الأقوال- بل يخرج منها ويلحق
(1) فتح القدير (5/ 41).
(2)
أخرجه البخاري (555)، ومسلم (607)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
الممتع (4/ 238)، مجموع فتاوى ابن عثيمين (15/ 99).
(4)
المرقاة شرح المشكاة (2 - 71).
(5)
المحلى (3/ 112).