الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن الاهتمام بالطاعة في هذا اليوم شأن الصالحين من سلف هذه الأمة، وأعني به الاهتمام الذي يتحول إلى واقع عملي يرضى عنه المسلم. وأكثر الناس اليوم يرون أن يوم الجمعة يوم نوم وكسل، ومن آثاره التأخر عن الحضور على الجمعة؛ لأنه مسبوق بليلة سهر على ما حرم الله عند غالب الناس. والله المستعان! ولقد استقر في أذهان الناس عمومًا أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، لكنهم لا يعملون بمقتضى علمهم. إن علينا أن نتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان من هديه -كما يقول ابن القيم- تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره (1)، ومن تعظيم هذا اليوم أن نعمل ما شرع لنا من أحكام، وأن نتأدب ما سنّ لنا من آداب.
وقد ورد النهي الأكيد، والوعيد الشديد في التخلف عن صلاة الجمعة والتهاون بحضورها.
فعن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: "لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين"(2).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: "لقد هممت أن آمر رجلًا، يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم"(3).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره (4).
والأحاديث في هذا كثيرة (5)، وفيها دلالة واضحة على عظيم شأن صلاة الجمعة، وأن من تركها أو تساهل بها فهو على خطر عظيم؛ إنه متوعّد بالختم على قلبه، فلا تغشاه رحمة الله تعالى، ولا ألطافه، فلا يزكيه ولا يطهره، بل ييقى دنسًا، تغشاه ظلمات الذنوب والمعاصي.
فعلى من كان متساهلًا بهذه الفريضة العظيمة إما كسلًا أو خروجًا في نزهة أو صيد أو حضور مباراة أو نحو ذلك من الموانع التي ظهرت في هذا الزمان - أن يبادر بالتوبة النصوح، فيقلع ويندم ويعزم على أن لا يعود، عسى الله أن يتوب عليه.
أحكام الاستعداد للجمعة
الحكم الأول غسل الجمعة:
يتأكد في حق من أراد حضور الجمعة أن يغتسل سواء كان به رائحة يحتاج إلى إزالتها أو لا، وعليه أن يقصد بذلك الغسل غسل الجمعة لا يقصد به النظافة أو التبرد فحسب، لأجل أن يؤجر على نيته.
وقد تعددت النصوص على بيان أهمية غسل الجمعة ومنزلته في نظر الإسلام، بل أكدت النصوص أهمية الغسل في كل أسبوع مرة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا، يغسل فيه رأسه وجسده"(6).
(1) زاد المعاد (1/ 375).
(2)
أخرجه مسلم (865).
(3)
أخرجه مسلم (652).
(4)
أخرجه أبو يعلى (3/ 156) موقوفًا بإسناد صحيح، كما قال المنذري في الترغيب (1/ 511).
(5)
ذكره المنذري في الترغيب (1/ 508).
(6)
رواه البخاري (856)، ومسلم (849).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل"(1).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم"(2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء الجمعة فليغتسل
…
" الحديث (3).
فهذه النصوص تدل على أن المسلم مطالب بالغسل مرة على الأقل في كل سبعة أيام؛ ليبقى نظيفًا نشيطًا، ولم يترك الإسلام تنظيف الرأس وتنقيته للأهواء والظروف ولا لانتظار الجنابة التي قد يطول أمرها ولا سيما من ليس له زوج، بل أكد ذلك على المسلم وحثه على الإكثار منه، وهذا غسل راتب مسنون للنظافة في كل أسبوع وإن لم يشهد الجمعة (4).
ولا خلاف في استحباب الغسل يوم الجمعة، كما أنه لا خلاف في أن الصلاة جائزة بدونه، وإنما الخلاف في وجوبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ويستحب الغسل في ذلك اليوم، وعن جماعة يجب، ودليل وجوبه أقوى من دليل وجوب الوتر، ومن الوضوء من مس النساء ومن القهقهة ومن الرعاف ومن الحجامة ومن القيء، ومن دليل وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)(5).
وعند تأمل النصوص الواردة في غسل الجمعة يلوح لك رجحان القول بالوجوب، وهو قول الظاهرية وجماعة من الصحابة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وحكى عن مالك (6)، فقد ورد في بعض الأحاديث التصريح بالوجوب، وفي بعضها الأمر به وفي بعضها أنه حق على كل مسلم، والوجوب يثبت بأقل من هنا (7).
وأما تأويل لفظ: (واجب وحق) الواردة في بعض النصوص السابقة بتأكيد المشروعية، وحمل الأمر على الندب، جمعًا بين الأحاديث فهو مسلك لا تطمئن إليه النفس، ولا يطلب الجمع بمثل هذا.
والأحاديث القاضية بالغسل فيها حكم زائد على الأحاديث المفيدة لاستحبابه فلا تعارض بينهما، والواجب الأخذ بما تضمن الزيادة (8).
وأوضح دليل القائلين بالاستحباب -وهم الجمهور- حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع، وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصا فقد لغا"(9).
قال الحافظ في التلخيص: (إنه من أقوى ما استدل به على عدم فرضية الغسل يوم الجمعة)(10).
(1) رواه البخاري (854)، ومسلم (844).
(2)
رواه البخاري (855)، ومسلم (846).
(3)
رواه ابن ماجه (1098) بإسناد حسن، وانظر الزوائد للبوصيري (1/ 208).
(4)
انظر كتاب (في الصلاة صحة ووقاية) للدكتور: فارس علوان (ص 31)، وانظر مجموع الفتاوى (21/ 307).
(5)
نسبه في كتاب (القول المبين)(ص 352) إلى كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم" ولم أعثر عليه فيه، وانظر زاد المعاد (1/ 386).
(6)
انظر: المغني (3/ 224)، المحلى (2/ 13)، معالم السنن (1/ 211)، فتح الباري (2/ 361).
(7)
نيل الأوطار (1/ 272).
(8)
انظر تمام المنة (ص 120).
(9)
رواه مسلم (857).
(10)
التلخيص الحبير (2/ 72).
قال في فتح الباري: (وأجيب عنه: بأنه ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ "من اغتسل" فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء)(1).
ومنها حديث سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"(2).
وهذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه خلاف بين أهل العلم، فلا يقاوم الأحاديث الصحيحة القاضية بالوجوب.
قال ابن حزم بعد أن ساق هذا الحديث وما في معناه: لو صحت لم يكن فيه نص ولا دليل على أن غسل الجمعة ليس بواجب، وإنما فيها أن الوضوء نعم العمل وأن الغسل أفضل، وهذا لا شك فيه، وقد قال الله تعالى:{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 110].
فهل دل هذا اللفظ على أن الإيمان والتقوى ليس فرضًا؟! -حاشا لله من هذا- ثم لو كان في جميع هذه الأحاديث نص على أن غسل الجمعة ليس فرضًا لما كان في ذلك حجة؛ لأن ذلك كان يكون موافقًا لما كان عليه الأمر قبل قوله عليه الصلاة والسلام: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" و"على كل مسلم".
وهذا القول منه عليه الصلاة والسلام حكم زائد ناسخ للحالة الأولى بيقين لا شك فيه، ولا يحل ترك الناسخ بيقين والأخذ بالمنسوخ) (3). وعلى ما تقدم فالظاهر -إن شاء الله- أن غسل الجمعة واجب، فمن تركه فقد قصّر فيما وجب عليه، وصلاته صحيحة إذا كان طاهرًا، فإن الأصل في الأمر أنه للوجوب، ولا يصرف عنه على الندب إلا بدليل، وقد ورد الأمر بالغسل صريحًا، ثم تأيد في معنى الوجوب بورود النص الصريح الصحيح بأن غسل الجمعة واجب.
ومثل هذا الذي هو قطعي الدلالة والذى لا يحتمل التأويل لا يجوز أن يؤول لأدلة أخرى، بل تؤول الأدلة الأخرى إن كان في ظاهرها المعارضة له، والله أعلم (4).
وقد ورد في بعض النصوص أن الفضل المرتب على التبكير للجمعة لا يحصل إلا لمن اغتسل، وذلك كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم
(1) فتح الباري (2/ 362).
(2)
رواه أبو داود (354)، والترمذي (497) وحسنه، ورواه أحمد (5/ 8، 11، 15، 16، 22) والنسائي (3/ 94)، ورواه ابن ماجه من حديث أنس (1091). قال الحافظ في الفتح (2/ 362): (ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها: رواية الحسن عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن الثلاثة، وابن خزيمة وابن حبان وله علتان: إحداهما: أنه من عنعنة الحسن، والأخرى: أنه اختلف عليه فيه
…
). لكن من قال: عن الحسن سمع من سمرة؛ صحح الحديث، وعلة الاختلاف في وصله وإرساله منتفية، فقد ورد وصله من طرق صحيحة، فقد ورد من طريق أبان بن يزيد عن قتادة عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وورد من طريق سعيد الجحدري موصولًا، وتابعه ويزيد بن زريع وهمام بن يحيى، وقد صحح الحديث مرفوعًا الدارقطني وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة وابن حجر والألباني.
(3)
المحلى (2/ 14).
(4)
انظر فتح الباري (2/ 360) وما بعدها، ونيل الأوطار (1/ 272)، والرسالة للشافعي وتعليق أحمد شاكر (ص 302) وما بعدها وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد بحاشية الصنعاني (3/ 113).