الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى أنه لو أدى الأمر إلى القرعة لكانت مشروعة فيه.
والمراد بالصف الأول: هو ما يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدمًا أو متأخرًا، وإن كان المتقدم حاز فضيلة التبكير فجمع بين الفضيلتين.
وفي الصف الأول مزايا عظيمة ينبغي للمسلم أن يهتم بها ويحرص على الظفر بها. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري طرفًا منها. فمن ذلك: المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين (1). ومن الناس من لا يهتم بالصف الأول مع إمكان الصلاة والجلوس فيه، فتراه يدخل المسجد مبكرًا ويقف متنفلًا وسط المسجد، أو في مؤخره، أو يقف في طرف الصف الأول مع خلوه من جهة الإمام، وهذا رغبة عن الخير، وزهد فيه، مبعثه الجهل أو عدم المبالاة باكتساب الفضائل، فالله المستعان.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فمن جاء أول الناس وصف في غير الأول فقد خالف الشريعة، وإذا ضم إلى ذلك إساءة الصلاة أو فضول الكلام أو مكروهه أو محرمه ونحو ذلك مما يصان المسجد عنه، فقد ترك تعظيم الشرائع، وخرج عن الحدود المشروعة من طاعة الله، وإن لم يعتقد نقص ما فعله ويلتزم اتباع أمر الله استحق العقوبة البليغة التي تحمله وأمثاله على أداء ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، والله أعلم)(2). وينبغي لطلبة العلم أن يتقدموا إلى الصف الأول؛ لأنهم داخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم .. "(3). قال النووى: (وفي هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف، فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها، وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من وراءهم .. )(4).
وقال في الإنصاف: (السنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والسن، وأن يلي الإمام أكملهم وأفضلهم، قال الإمام أحمد: يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن ويؤخر الصبيان)(5). وهذا الحكم -وهو الحث على الصف الأول والدنو من الإمام- خاص بالرجال، أما النساء إذا حضرن المساجد فيتعين في حقهن التأخر والبعد عن الإمام وعن صفوف الرجال، كما سيأتي بيانه في الباب الثالث، إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
المكان الفاضل في المسجد النبوي:
اعلم أن المكان الفاضل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أمام المحراب النبوي في الزيادة التي في قبلة المسجد، وليس ما يفهمه كثير من الناس من أن المكان الفاضل هو في المسجد القديم، الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم دون ما زاده عمر وعثمان رضي الله عنهما والذي هو موضع المحراب اليوم.
إن عمر رضي الله عنه كان يقف في تلك الزيادة ووراءه الصحابة رضي الله عنهم وهم متوافرون
(1) فتح الباري (2/ 208).
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 262).
(3)
أخرجه مسلم (432)، والنسائي (2/ 90)، وأبو داود (674).
(4)
شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 399، 400).
(5)
الإنصاف (2/ 285).
ومتفقون على أن هذا هو المكان الفاضل، وهل يظن بهم أنهم يتركون المكان الفاضل ويعتقدون أن الصلاة في غير موضعهم أفضل؟!
والناس اليوم يزدحمون للصلاة في موضع المسجد القديم اعتقادًا منهم أنه أفضل، فترى الصفوف تتكامل في ذلك الموضع دون الزيادة، وهذا وإن كان الدافع إليه محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لكن فيه مخالفات شرعية منها:
ترك وصل الصفوف وإتمام الأول فالأول، وقد ثبت ما يدل على الأمر بوصل الصفوف وأن من وصل صفًا وصله الله ومن قطع صفًا قطعه الله.
تفويت الصلاة في الصف الأول مع إمكانه لمن يحضر متقدمًا ولكنه يرغب عنه، ومن المعلوم أن الصف الأول هو الذي يلي الإمام، كما أسلفنا، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على المبادرة بحضور المساجد والدنو من الإمام، كما تقدم -أيضًا-.
أن في ذلك مخالفة لهدي الصحابة رضي الله عنهم فإن عمر رضي الله عنه أمَّ الصحابة في هذه الزيادة، ولا ريب أنهم كانوا يتسابقون للصلاة وراء الإمام ويحرصون على الصف الأول.
فليحرص المسلم على الصف الأول في المسجد النبوي كغيره من المساجد، ولا يغتر بمن يتأخر عنها ويصلي في موضع المسجد القديم.
ولا يقال: إن هذه الزيادة ليست من المسجد، فإن صلاة الصحابة فيها دال على أنها في حكم المسجد قطعًا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة أو كألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا أن يكون المسجد الحرام"(1)؛ فهذا لم يقصد به نفي مضاعفة الأجر في الإضافات الحادثة، ولكن المراد به -والله أعلم- نفي التضعيف في المساجد التي بناها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة كمسجد قباء، فأكد أن التضعيف خاص بمسجده بقوله:"هذا" ولم يقصد إخراج ما سيزاد فيه، والله أعلم (2).
وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلامًا نفيسًا حول هذا الموضوع، فأنقله هنا، يقول رحمه الله:(وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده صلى الله عليه وسلم حكم المزيد، تضعّف فيه الصلاة بألف صلاة، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد، فيجوز الطواف فيه والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجًا منه، ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده، والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون على العدول عن مسجده إلى غير مسجده، ويأمرون بذلك)، ثم قال: (وهنا الذي جاءت به الآثار، وهو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم، فإنهم قالوا: إن صلاة الفرض خلف الإمام أفضل، وهنا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة، وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما فإن كليهما مما زاد من قبلي المسجد، فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة، وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع، وإذا
(1) أخرجه البخاري (1133)، ومسلم (1394)، وراجع سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (2/ 403).
(2)
انظر وفاء الوفاء (1/ 358).