الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال النووي: (هذا فيه أن السنة أن لا يرفع اليدين في الخطبة، وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم، وحكى القاضي عن بعض السلف وبعض المالكية إباحته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى. وأجاب الأولون بأن هذا الرفع كان لعارض)(1).
وقال الشوكاني: (والحديث يدل على كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء وأنه بدعة)(2).
وقال أبو شامة في ذكر بدع الجمعة: (وأما رفع أيديهم عند الدعاء فبدعة قديمة) وتبعه على ذلك السيوطي في كتابه: (الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع)(3).
وجاء في الاختبارات لابن تيمية: (ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة، وهو أصح الوجهين لأصحابنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يشير بإصبعه إذا دعا، وأما في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر)(4).
الحكم السابع في تحية المسجد والإمام يخطب
إذا دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يصلي تحية المسجد ركعتين خفيفتين ولا يزيد عليهما؛ ليفرغ لسماع الخطبة.
وذلك لما ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين" وفي رواية: "فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما"(5).
فهذا دليل صريح على أن الداخل والإمام يخطب لا يجلس حتى يصلي ركعتين تحية المسجد، وهو حجة على من قال بعدم مشروعيتها حال الخطبة، وما أجابوا به عن هذا الحديث وأمثاله فهو غير ناهض، وما أحسن قول الإمام النووي رحمه الله عن هذا الحديث.
(وهذا نص صريح لا يتطرق إليه تأويل، ولا أظن عالمًا يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحًا فيخالفه)(6). كما أن حديث أبي قتادة: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" يتناول بعمومه وقت أداء التحية حال الخطبة.
وليست الركعتان سنة قبلية للجمعة، فإنه لا سنة للجمعة قبلها -كما تقدم- بل يصلي الداخل قبل صعود الإمام نفلًا مطلقًا غير مقيد بعدد. وإنما هما تحية المسجد (7). لكن لو دخل المسجد والمؤذن يؤذن، فهل يصلي التحية حال الأذان؛ ليفرغ لاستماع الخطبة، أو يجيبه ثم يصلي بعد فراغه؟ الظاهر أنه يصلي تحية المسجد ولا يتابع المؤذن في هْذه الحال؛ لأن استماع الخطبة آكد. فإن إجابة المؤذن مستحبة عند الجمهور، كما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري"(8).
(1) شرح مسلم للنووي (5/ 411).
(2)
نيل الأوطار (3/ 308).
(3)
الباعث (ص 142)، والأمر بالاتباع (ص 247).
(4)
الاختيارات (ص 80)، وانظر فتح الباري (2/ 412).
(5)
أخرجه البخاري (888، 1113)، ومسلم (875).
(6)
شرح مسلم (6/ 412)، وانظر شرح المهذب (4/ 551، 552).
(7)
انظر: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لأبي شامة (159، 160).
(8)
الفتح (2/ 93).
وقد حكى الطحاوي رحمه الله في "شرح معاني الآثار"(1) عن قوم من السلف القول بالوجوب، وهو ظاهر من صيغة الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن"(2).
وقد ذكر العلماء أن هذا الأمر صُرِفَ عن الوجوب ما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع مؤذنًا أمسك وإلا أغار، فسمع رجلًا يقول: الله أكبر الله أكبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "على الفطرة". ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خرجت من النار" فإذا هو راعي معزى (3).
لكن يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب المؤذن فقال مثل ما قال، إذ ليس في الحديث ما ينفي ذلك، ثم إن هذا فعل، والأمر السابق قول، والفعل منه صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة (4). والأظهر أن الصارف عن الوجوب قول صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ومن معه:"إذا حضرت الصلاة فؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم"(5)، ووجه الدلالة: أن المقام مقام تعليم، والحاجة داعية إلى بيان كل ما يحتاجه هؤلاء الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد لبثوا عنده عشرين يومًا، وقد لا يكون عندهم علم ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في متابعة الأذان، فلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذلك مع دعاء الحاجة إليه علم أن المتابعة غير واجبة (6).
وقد ورد في الموطأ عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي: أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذن "قال ثعلبة" جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منا أحد (7). قال النووى في شرح المهذب على هذا الأثر: وفيه جواز الكلام حال الأذان (8). اهـ. وعلى ما تقدم فإن صح كون الأمر بإجابة المؤذن للاستحباب لصلاحية ما تقدم لصرف الأمر عن الوجوب.
فالحكم واضح بالنسبة لمسألتنا وهي أنه يقدم تحية المسجد حال الأذان؛ ليفرغ لأمر واجب، وهو استماع الخطبة.
وإن قلنا: إن الأمر للوجوب فالظاهر أن استماع الخطبة آكد، بدليل تحريم الكلام حال الخطبة ووجوب الإنصات، ولا يحرم الكلام حال الأذان، ومما يؤيد ذلك أن الداخل مأمور بأن يتفرغ لسماع الخطبة ما أمكنه ذلك ولو بتخفيف تحية المسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فليركع ركعين وليتجوز فيهما". قال في نيل الأوطار: (فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة؛ ليتفرغ لسماع الخطبة). اهـ (9).
وقد رأيت في المغني لابن قدامة: (وإن دخل المسجد فسمع المؤذن استحب له انتظاره ليفرغ، ويقول مثل ما يقول جمعًا بين الفضيلتين، وإن لم يقل كقوله وافتتح الصلاة فلا بأس، نص عليه أحمد)(10).
(1) شرح معاني الآثار (1/ 146).
(2)
أخرجه البخاري (2/ 90)، ومسلم (4/ 327).
(3)
أخرجه مسلم برقم (382)، وانظر شرح معاني الآثار (1/ 146).
(4)
انظر: فتح الباري (2/ 93)، ونيل الأوطار (2/ 59).
(5)
أخرجه البخاري (631) ومسلم (674).
(6)
انظر: الشرح الممتع (2/ 75).
(7)
أخرجه مالك في الموطأ (1/ 103)، وصححه النووي في شرح المهذب (4/ 550)، وانظر: تمام المنة (ص 339).
(8)
شرح المهذب (4/ 550).
(9)
نيل الأوطار (3/ 293).
(10)
المغني (2/ 89).