الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووجه الدلالة على المنع: أن الجماعة الثانية لو كانت مشروعة بلا كراهة لصلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ولما اختار بيته على جماعة المسجد.
والجواب عن ذلك من وجهين:
الأول: أن أحاديث فضل صلاة الجماعة أكثر وأقوى سندًا من هذا الحديث، فإنه مختلف في صحته، وللعلماء فيه كلام. وقد ذكره الهيثمي ثم قال:(رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات).
وهذا لا يعني صحة الحديث، ولا أنه حسن، على أن في سنده أبا مطيع معاوية بن يحيى، وهو متكلم فيه، بل إن الحافظ الذهبي في الميزان لما ترجمه ذكر له أحاديث مناكير، ومنها هذا (1).
الثاني: على فرض صحة الحديث فليس فيه دلالة على المنع، وذلك من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الحديث ليس بنص على أنه صلى الله عليه وسلم جمع أهله فصلى بهم في المنزل، بل يحتمل أن يكون صلى بهم في المسجد، ويكون ميله إلى منزله لجمع أهله لا للصلاة فيه.
الثاني: سلمنا أنه صلى بهم في المنزل، فلا يثبت منه كراهة جماعة ثانية في المسجد، بل غاية ما يفيد أنه لو جاء رجل إلى مسجد قد صلي فيه فله أن لا يصلي فيه، بل يذهب إلى بيته ويصلي بأهله، وأما أنه لا يجوز له أن يصلي في ذلك المسجد بالجماعة، أو يكره له ذلك فلا دلالة للحديث عليه.
الثالث: لو ثبت من هذا الحديث كراهة تكرار الجماعة؛ لأجل أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في المسجد، فلآخر أن يستدل به على كراهة الصلاة فرادى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في المسجد لا منفردًا ولا بالجماعة، وعليه فالرسول صلى الله عليه وسلم ترك فضل المسجد النبوي ولم يصل فيه منفردًا، وهم يقولون: لو كانت الجماعة الثانية مشروعة بلا كراهة لما ترك فضل المسجد النبوي (2).
وإذا كان الحديث بهذه الاحتمالات فكيف يؤخذ به ويترك ما هو أوضح دلالة وأقوى سندًا؟ على أن المنع من إقامة جماعة ثانية قوي فيمن اعتاد التخلف عن الجماعة، وصار ديدنه إقامة جماعة ثانية. والله أعلم.
الحكم التاسع عشر من صلى ثم دخل مسجدًا صلى معهم
من آداب دخول المساجد أن من دخل مسجدًا فوجدهم يصلون وهو قد صلّى، فإنه يشرع له أن يصلي معهم، إدراكًا لفضل الجماعة، سواء كان الوقت وقت نهي أم لا، وتكون له نافلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"صلّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتك الصلاة معهم فصلّ، ولا تقل: إني قد صليت فلا أصلي"(3).
قال النووى: (وفي هذا الحديث: أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر والمغرب كباقي الصلوات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأمر بإعادة الصلاة ولم يفرق بين صلاة وصلاة، وهذا هو الصحيح في مذهبنا، ولنا وجه أنه لا يعيد الصبح والعصر؛ لأن الثانية نفل، ولا تنفل بعدهما، ووجه أنه لا يعيد المغرب؛ لئلا تصير شفعًا،
= أوهام" وانظر: مجمع الزوائد (2/ 45).
(1)
ميزان الاعتدال (4/ 139، 140).
(2)
انظر تحفة الأحوذي (2/ 9) وما بعدها.
(3)
أخرجه مسلم (648).
وهو ضعيف) (1) وقال في بداية المجتهد: (والتمسك بالعموم أقوى)(2).
وعن يزيد بن الأسود العامري قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته إذ هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، قال:"عليّ بهما"، فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال:"ما منعكما أن تصليا معنا؟ "، قالا: يا رسول الله! إنا قد صلينا في رحالنا؛ قال: "فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم؛ فإنهما لكما نافلة"(3).
قال الترمذي (وهو قول غير واحد من أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق قالوا: إذا صلى الرجل وحده ثم أدرك الجماعة فإنه يعيد الصلوات كلها في الجماعة، وإذا صلى المغرب وحده ثم أدرك الجماعة قالوا: فإنه يصليها معهم ويشفع بركعة، والتي صلى وحده هي المكتوبة عندهم)(4).
قال السندي: (وقوله: "فصليا معهم": هذا تصريح في عموم الحكم في أوقات الكراهة أيضًا، ورافع عن تخصيص الحكم بغير أوقات الكراهة؛ لاتفاقهم على أنه لا يصح استثناء المورد من العموم، والمورد صلاة الفجر). اهـ (5).
وقال في عون المعبود: (وظاهر الحديث حجة على من منع عن شيء من الصلوات كلها، ألا تراه عليه الصلاة والسلام يقول: "إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصلّ فيصل معه"؟ ولم يستثن صلاة دون صلاة)(6).
وقد أفتى بمقتضى ذلك إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله قال أبو داود: سمعت أحمد قال له رجل: إذا دخلت المسجد وقد صليت العصر وأقيمت الصلاة؟ قال: صلّ معهم، قيل: والظهر؟ قال: والصلوات كلها، قال أبو داود لأحمد: والمغرب إذا صليتها أضيف إليها ركعة؟ قال: نعم
…
(7).
وهذه الإعادة سببها حضور الجماعة، ولا فرق بين أن يصلي الأولى وحده أو يصلي مع جماعة، ولا فرق -أيضًا- في إعادتها مع الجماعة بين ما إذا أقيمت الصلاة وهو في المسجد، أو دخل المسجد وهم يصلون؛ لعموم الأدلة، ولئلا يكون قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به، والوقوع في عرضه وأنه ليس من المصلين.
وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث يزيد: "إذا أتيتما مسجد جماعة" أن ذلك مختص بالجماعة التي تقام في المسجد، لا التي قد تقام في غيره، فمن حضر جماعة يصلون في منزل لعذر وكان هو قد صلّى لم يصلّ معهم، فيحمل المطلق الوارد في بعض روايات الحديث على هذا المقيد، والله أعلم (8).
قال في المغني: (إذا أعاد المغرب شفعها برابعة، نص عليه أحمد؛ لأن هذه الصلاة نافلة، ولا يشرع
(1) شرح النووي (5/ 154).
(2)
بداية المجتهد (1/ 179).
(3)
تقدم تخريجه في الكلام على تحية المسجد وقت النهي.
(4)
جامع الترمذي (1/ 426).
(5)
حاشية السندي على النسائي (2/ 113).
(6)
عون المعبود (2/ 284)، وراجع مجموع الفتاوى (23/ 188).
(7)
مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص (48).
(8)
نيل الأوطار (3/ 107).