الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلاف له وإن اعتقد المأموم أن القصر أفضل، لأن فضيلة الجماعة آكد، يؤيد ذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه"(1).
لكن إذا دخل المسافر المسجد وقد صلّى الإمام ركعتين من الظهر -مثلًا- فهل تجزئه الركعتان الباقيتان باعتبار أنها صلاته لو كان منفردًا أم يلزمه الإتمام؟
الجواب: يلزمه الإتمام؛ لما ورد عن أبي مِجْلَز -واسمه: لاحق بن حميد- قال: قلت لابن عمر: المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم -يعني: المقيمين- أتجزئه الركعتان أو يصلي بصلاتهم؟ قال: فضحك، وقال: يصلي بصلاتهم (2).
وعلى هذا فإذا أدرك المسافر مع المقيم ركعة فأكثر أتم الصلاة؛ لأنه أدرك الجماعة، واقتدى بمقيم في جزء من صلاته، فلزمه الإتمام.
أما لو صلى مسافر خلف إمام يصلي التراويح فهل تجزئه الركعتان؟ هذا مبين على مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل.
والأظهر الجواز، لدخوله في عموم "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليم"، وهذا صلى ركعتين كإمامه، فلم يختلف عليه، وأما الاختلاف المنهي عنه فهو الاختلاف في الأفعال الظاهرة، بدليل تفسيره صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالأفعال الظاهرة، كما في بقية الحديث، والله أعلم (3).
لكن إذا أدرك المسافر أقل من ركعة كأن يدرك إمامه في التشهد فهل يتم أو يقصر؟ هذا مبني على الخلاف فيما تدرك به الجماعة؛ فمن قال: تدرك بركعة، قال: له أن يقصر؛ لأن الجماعة فاتته، فهو كمن صلى منفردًا. نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله، وبه قال مالك وجماعة من السلف: أن من أدرك أقل من ركعة فإنه يقصر، ومن قال: تدرك الجماعة بإدراك التشهد قال: يتم هذا المسافر صلاته؛ لأنه أدرك الجماعة (4).
والقول بأن الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة هو المختار في هذه المسألة، -كما تقدم- وذلك لأن المأموم لم يدرك مع الإمام شيئًا يحتسب له به؛ لأن ما دون الركعة لا يعتد به في الصلاة، لكونه يستقبل جميع صلاته منفردًا، والله أعلم (5).
الحكم الثاني والعشرون لا يحجز مكانًا في المسجد
اعتاد بعض الناس حجز مكان في بعض المساجد، خلف الإمام، إما بفرش سجادة معينة، أو وضع عصا، ونحو ذلك، وصاحب المكان إما في منزله أو عمله، وهذه الظاهرة تكثر في المسجد الحرام ولا سيما في رمضان، حيث اعتاد أناس فرش سجاجيد في المسجد الحرام، ولا سيما عند الأعمدة يلازمون الصلاة فيها، ولا يكتفون بأماكن أنفسهم، بل يحجزون لأولادهم وأقربائهم وأصدقائهم، ويبذلون دريهمات لفئة من الناس يقومون بفرشها قبل مجيئهم، وطرد الناس عنها. وهذا العمل مخالف لنصوص
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
رواه البيهقي (3/ 157)، وقال في الإرواء (3/ 22): سنده صحيح.
(3)
انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (23/ 385).
(4)
انظر مجموع الفتاوى (23/ 243).
(5)
انظر المغني (3/ 145)، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي (2/ 156)، ومجموع الفتاوى (23/ 330، 333).
الشريعة وما عليه سلف هذه الأمة من وجوه:
الأول: أن المصلي مأمور بالتقدم إلى المسجد والقرب من الإمام بنفسه، لا بعصاه ولا بسجادته، وغالب من يصنع ذلك حريص على الصف الأول، لكن هذا الحرص أدى إلى مخالفة السنة.
الثاني: أن فيه مخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإتمام الصف الأول -كما تقدم- وإتمامه مطلوب حتى قبل الإقامة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا"(1).
ومن فهم أنه يدرك فضل الصف الأول وفضيلة التقدم بتقديم عصاه، وأنه يحصل على ذلك ولو جاء متأخرًا فقد أخطأ في الفهم، وأساء التصرف، فإن الفضل لا يحصل بتقدم السجادة، ولا العصا، بل الإنسان نفسه، ولا يبعد أن هذا الشخص يفوته من الأجر ويحصل له من الإثم بقدر تأخره؛ لأنه منع غيره، وخالف أمر الشرع، وكيف يكون مأجورًا بفعل ما نهى عنه الشرع؟
ولا يبعد أن تكون صلاة المتحجر ناقصة؛ لأن المعاصي إذا لم تبطل الأعمال فإنها تنقصها.
الثالث: أن الناس في بيوت الله سواء، لا أحقية إلا للمتقدم، والسبق إلى المساجد يكون بالبدن لا بالعصا، فمن وضع عصاه أو نحوها وتأخر فقد غصب طائفة من المسجد، ومنع السابقين إلى المسجد أن يصلوا فيها، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ولا ريب أن السابق يستحق هذا المكان بسبقه، ولكن هذا المتحجر ظلمه حقه فهو عاص بذلك.
ومن تقدم ووجد الصف الأول قد تحجره أحد فصلى في الصفوف المتأخرة كان أفضل وأعظم أجرًا؛ لأنه ما تقدم بنفسه إلا وهو يريد فضيلة السبق وأجر الصف الأول، فمنع ذلك بغير حق، فحصل على الفضل بنيته وقصده، وفات المتحجر الأجر بسبب فعله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ليس لأحد أن يتحجر من المسجد شيئًا، لا سجادة يفرشها قبل حضوره، ولا بساطًا، ولا غير ذلك، وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، لكن يرفعها ويصلي مكانها في أصح قولي العلماء، والله أعلم).
وقال أيضًا: (ليس لأحد أن يتقدم ما يفرش له في المسجد ويتأخر هو، وما فرش له لم يكن له حرمة، بل يزال ويصلي مكانه على الصحيح)(2).
الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير (3)، قال ابن الأثير: (معناه أن يألف الرجل مكانًا معلومًا من المسجد مخصوصًا به، يصلي فيه، كالبعير لا يأوي من عطن إلا
(1) تقدم تخريجه.
(2)
مجموع الفتاوى (22/ 123) و (23/ 410)، وانظر الفتاوى السعدية (ص 184).
(3)
أخرجه أحمد (24/ 292) وأبو داود (862) والنسائي (2/ 214)، وابن ماجه (1429)، والحاكم (1/ 229) من طريق جعفر بن عبد الله الأنصاري عن تميم بن محمود، عن عبد الرحمن بن شبل. به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، مع أنه قال في الميزان (1/ 360) في ترجمة:(تميم بن محمود): "قال البخاري: في حديثه نظر، روى عنه عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي" والحق أنه مجهول، فإنه ما روى عنه إلا جعفر الأنصاري - كما ذكر البحاري في تاريخه الكبير (2/ 154) وهو راوي الحديث السابق عنه، وقد ذكره العقيلي في "الضعفاء" (1/ 170) وذكر حديثه هذا. ثم قال: ولا يتابع عليه. اهـ.
إلى مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخًا) (1). قال في كشاف القناع: (ويكره اتخاذ غير الإمام مكانًا بالمسجد لا يصلي فرضه إلا فيه؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن إبطال المكان كإبطال البعير، ولا بأس باتخاذ مكان لا يصلي إلا فيه في النفل؛ للجمع بين الأخبار)(2).
إن ملازمة الإنسان لمكان خاص في المسجد قد يفقده لذة العبادة؛ لكثرة إلفه له وحرصه عليه، كما أنه قد يؤدي إلى الشهرة والرياء والسمعة، وفيه الحرمان من تكثير مواضع العبادة التي تشهد له يوم القيامة (3). وبعض الملازمين لمكان خاص يحقد على غيره إذا رآه في مكانه، وربما دعاه ذلك إلى إزاحة من سبقه إليه، أو التضجر منه.
ورحم الله إمام السنة أبا عبد الله أحمد بن حنبل الذي قال عنه المروزي: (كان أبو عبد الله يقوم خلف الإمام، فجاء يومًا وقد تجافى الناس أن يصلي أحد في ذلك الموضع، فاعتزل وقام في طرف الصف، وقال: نهي أن يتخذ الرجل مصلاه مثل مربض البعير)(4).
الخامس: أن تقديم المفارش أو العصي يجعل صاحبها يتأخر عن الحضور اتكالًا على ذلك، وهذا مشاهد، فإذا حضر تخطى رقاب الناس وآذاهم فجمع بين التخطي والتأخر.
السادس: أن في التحجير ترفعًا على الآخرين، وإحساسًا بالفارق الذي قد يفضي بصاحبه إلى الغرور والكبر، دون أن يشعر به صاحبه، وإنك لترى شيئًا من ذلك باديًا على وجوه كثير من المتحجرين في المسجد الحرام، وكيف يتخطون رقاب الناس على أماكنهم بلا مبالاة، ويمرون بينهم وبين سترتهم وهم يتنفلون، وهذا من الشهرة والرياء.
السابع: أن هذا التحجر يحدث النزاع ويسبب العداوة والشحناء في أفضل البقاع، وهي المساجد التي لم تبن إلا لذكر الله تعالى وعبادته، وكم رأينا وسمعنا نزاعًا يقع في بيت الله الحرام حول هذه الأماكن المحجوزة، ولا سيما مع من يقومون بذود الناس عنها!
الثامن: أن هولاء المتحجرين -ولا سيما في المسجد الحرام- إذا كان في الصف الذي أمامهم فرجة محاذية لأحدهم لم يتقدم لسدها خوفًا على مكانه، بل منهم من لا يرص الصف، بل يطلب من غيره أن يقترب؛ لئلا يزول عن مكانه.
وهذا مخالف لنصوص الشريعة القاضية بسد الفرج والتراص في الصفوف. أما من كان في المسجد ووضع عصاه أو سجادته في مقدم الصف وصلى أو قرأ في مكان آخر؛ ليستند إلى عمود، أو ليراجع حفظه، ونحو هذا فلا حرج عليه، بشرط ألا يتخطى رقاب الناس، ولا يؤذيهم إذا جاء إلى مكانه، وإن كان الأولى عدم مثل ذلك متى وجد عنه مندوحة (5).
ومن تقدم إلى المسجد وفي نيته انتظار الصلاة ثم عرض له عارض من وضوء ونحوه فقام لا حرج
(1) النهاية في غريب الحديث (5/ 204).
(2)
كشاف القناع (1/ 494).
(3)
شرح فتح القدير (1/ 422)، والدين الخالص للسبكي (3/ 203).
(4)
بدائع الفوائد لابن القيم (3/ 82)، وانظر في هنا الموضوع مجموع الفتاوى (2/ 189، 193، 195)، والفتاوى السعدية، للشيخ عبد الرحمن السعدي (ص 182) وما بعدها.
(5)
انظر الفتاوى السعدية (ص 186).
عليه في وضع عصا ونحوه حتى يرجع، وإذا رجع فهو أحق بمكانه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به"(1).
قال النووي: (قال أصحابنا: هذا في حق من جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلًا، ثم فارقه ليعود إليه، كإرادة الوضوء، أو لشغل يسير ثم يعود، لا يبطل اختصاصه به، وله أن يقيم من خالفه وقعد فيه، وعلى القاعد أن يطيعه، واختلف: هل يجب عليه؟ على وجهين: أصحهما الوجوب)، قال:(ولا فرق بين أن يقوم منه ويترك له فيه سجادة ونحوها أم لا. والله أعلم)(2).
ومن سبق إلى مكان في المسجد فهو أحق به، فلا يجوز إقامته من موضعه الذي سبق له سواء كان شريفًا أو وضيعًا، صغيرًا أو كبيرًا، إلا إذا حصل منه أذى، كآكل الثوم وشارب الدخان، فإنه يخرج من المسجد، كما تقدم أول الكتاب.
وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا (3).
وهذا الحديث عام في كل المجالس، ولكنه خاص بالمجالس المباحة وفي مقدمتها المساجد، قال ابن أبي جمرة:(والناس في المباح كلهم سواء، فمن سبق إلى شيء استحقه، ومن استحق شيئًا فأخذه منه بغير حق فهو غصب، والغصب حرام)(4). وينبغي للجالسين في المسجد وغيره أن يتوسعوا وينضم بعضهم إلى بعض حتى يفضل من الجمع فجوة تسع الداخل، ولا سيما في مثل المسجد الحرام والجوامع الكبيرة، حيث يكون حصول فجوات بواسطة انضمام بعض الجالسين إلى بعض، شريطة ألا يحصل مضايقة وعدم ارتياح في العبادة من صلاة أو غيرها؛ لأن هؤلاء المتقدمين أولى من هذا المتأخر. واعلم أن ما ذكرنا في الأمر الرابع من النهي عن اتخاذ مكان في المسجد لا يصلي الرجل إلا فيه لا يشمل المنزل؛ بدليل حديث عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وفيه: أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: فوددت أنك تأتي فتصلي من بيتي مكانًا، اتخذه مصلى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سأفعل"
…
الحديث (5).
قال الحافظ في فوائد الحديث: (وفيه أن النهي عن استيطان الرجل مكانًا إنما هو في المسجد العام)(6). فإن قيل: ما الجواب عما ورد في حديث يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى عند هذه الأسطوانة، قال: فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها (7)؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن هذا محمول على النفل، وليس في الفرض، فيكون هذا الحديث مخصصًا لعموم النهي، جمعًا
(1) أخرجه مسلم (2179)، وأبو داود (4853).
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 412).
(3)
أخرجه البخاري (5914)، ومسلم (2177).
(4)
انظر بهجة النفوس لابن أبي جمرة (4/ 194).
(5)
أخرجه البخاري (415)، ومسلم (33).
(6)
فتح الباري (3/ 62).
(7)
أخرجه البخاري (502)، ومسلم (509).