الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجل وراءه ربنا ولك الحمد، حمدًا طيبًا مباركًا فيه فلما انصرف قال:"من المتكلم"؟ قال: أنا، قال:"رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول"(1).
قال في فتح الباري: (استدل به على جواز رفع الصوت بالذكر ما لم يشوش على من معه)(2) اهـ.
وهذا إذا لم يكن بصفة دائمة وإلا حصل التشويش قطعًا (3). ومن التشويش أن يكبر المسبوق بصوت مرتفع إذا أراد الدخول في الصلاة، وقد يكون المصلون مع الإمام في السجود، فإذا سمعوا تكبير المسبوق ظنوه تكبير الإمام فرفعوا رؤوسهم قبل أن يرفع الإمام من السجود (4). ومن التشويش على المصلين -أيضًا- عدم إغلاق الوسائل الحديثة للاتصال كجهاز الهاتف النقال، والنداء، فينبغي للمصلي إغلاقها قبل دخوله المسجد، لئلا يشوش على نفسه وعلى غيره من إخوانه المصلين.
وما تقدم من النهي عن الكلام في المسجد لا يعنى أن الكلام يحرم فيه بل هو مباح -على الراجع من قولي أهل العلم- إذا خلا من المحاذير السابقة، وهي التشويش على المصلين أو الإعراض عن الصلاة والتشاغل عنها، لكن لا بد من ملاحظة أن المساجد لم تبن إلا لذكر الله تعالى والصلاة، وما يتبع ذلك من تدريس العلم، وموعظة الناس، وقد ورد عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، كثيرًا كان لا يقوم من مصلاه، الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون، ويبتسم (5).
قال القرطبي: (هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم يدل على استحباب لزوم موضع صلاة الصبح، للذكر والدعاء إلى طلوع الشمس؛ لأن ذلك الوقت وقت لا يصلّى فيه، وهو بعد صلاة مشهودة، وأشغال اليوم بعد لم تأت، فيقع الذكر والدعاء على فراغ قلب وحضور فهم، فيرتجى فيه قبول الدعاء، وسماع الأذكار .. ).
ثم نقل عن بعض العلماء كراهة الحديث في هذا الوقت، وأن قوله "وكانوا يتحدثون .. " فصل آخر من سيرة أخرى في وقت آخر .. ثم قال:(وهذا فيه نظر، بل يمكن أن يقال: إنهم في ذلك الوقت كانوا يتكلمون؛ لأن الكلام فيه جائز غير ممنوع، اذ لم يرد في ذلك منع، وغاية ما هنالك أن الإقبال في ذلك الوقت على ذكر الله تعالى أفضل وأولى، ولا يلزم من ذلك أن يكون الكلام مطلوب الترك في ذلك الوقت. والله تعالى أعلم)(6).
الحكم الخامس والعشرون في المسألة في المسجد
المساجد بيوت الله تعالى، بنيت لذكره ودعائه وعبادته، لا للتكسب وجمع حطام الدنيا، ولذا منع البيع والشراء، ونشد الضالة، وسائر الصناعات في المساجد؛ لهذا المعنى.
وبناء على ذلك فالمساجد لا تصلح مكانًا للسؤال، وجمع المال، مع ما في ذلك من إيذاء المصلين
(1) أخرجه البخاري (2/ 284).
(2)
فتح الباري (2/ 287).
(3)
المصدر السابق.
(4)
المسجد في الإسلام (ص 83).
(5)
أخرجه مسلم (670).
(6)
انظر: إكمال المعلم (2/ 646)، والمفهم (2/ 295)، هذا وأما حديث:"الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" فلا أصل له. كما قال العراقي في تخريج أحاديث "الإحياء"(1/ 152) وكذا قال غيره من أئمة الحديث.
والذاكرين والتشويش عليهم.
وقد وردت النصوص بجواز إعطاء الفقير من غير مسألة، وذلك بأن يعرف فقره وحاجته، فيعطى زكاة أو صدقة ونحو ذلك، أو تقسم أموال في المسجد، فيعطى مع الناس، فله أن يأخذ ما يأتيه.
ويدل لذلك ما ورد عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال من البحرين، فقال:"أنثروه في المسجد" وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال: يا رسول الله، أعطي، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذ"، فحثا في ثوبه ثم ذهب يقلّه فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، اؤمر بعضهم يرفعه إليّ، قال:"لا"، قال: فارفعه أنت عليّ، قال:"لا" فنثر منه ثم احتمله، فألقاه على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبًا من حرصه فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثمّ منها درهم (1).
وقد بوب البخاري رحمه الله على هذا الحديث بقوله: (باب القسمة وتعليق القنو في المسجد).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (المقصود بهذا الباب: أن المسجد يجوز أن يوضع فيه أموال الفيء وخمس الغنيمة وأموال الصدقة ونحوها من أموال الله التي تقسم بين مستحقيها) وقال: (وفى الحديث جواز قسمة مال الفيء في المسجد ووضعه فيه، وهو مقصود البخاري بتخريج هذا الحديث فيه)(2).
أما إذا سأل الفقير في المسجد فإن من أهل العلم من منع السؤال والإعطاء مطلقًا، ولعل القائلين بذلك نظروا على العمومات الدالة على صيانة المسجد من كل ما سوى العبادات، وأقرب شيء تقاس المسألة عليه قياسًا جليًا نشد الضالة، والجامع بينهما: البحث والمطالبة بأمر مادي دنيوي، والعلة في المقيس أظهر؛ لأن ناشد الضالة يبحث عن ماله دون شبهة، ومع ذلك أمر الشارع بالدعاء عليه بألا ترد عليه، أما السائل فهو لا يطلب ماله، بل يطلب أموال الناس.
ومن أهل العلم من رخّص إذا كان السائل مضطرًا، ولم يحصل بسؤاله في المسجد ضرر، من إيذاء المصلين والتشويش عليهم، أو المرور بين أيديهم ونحو ذلك (3).
واستدلوا على ذلك بحديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينًا"؟!! فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز بيد عبد الرحمن فأخذتها منه، فدفعتها إليه (4).
قالوا: فهذا دليل على أن الصدقة على الفقير في المسجد ليست مكروهة، وأن السؤال في المسجد جائز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقرّ أبا بكر رضي الله عنه عليها، ولو كانت حرامًا لم يقرّ عليها، بل كان يمنع السائل من العود إلى
(1) أخرجه البخاري (1/ 516 فتح).
(2)
فتح الباري لابن رجب (3/ 154).
(3)
فتح الباري لابن رجب (3/ 157) الحاوي (1/ 90) أحكام المساجد في الإسلام ص (269).
(4)
أخرجه أبو داود (1670) والحاكم (1/ 412) وعنه البيهقي (4/ 199) وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
ووافقه الذهبي. وقال النووى في "شرح المهذب"(1/ 176) رواه أبو داود بإسناد جيد وتعقبه الألباني في "الضعيفة"(1458) وحكم على الحديث بأنه منكر؛ لأنه من رواية مبارك بن فضالة.