الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن المحب الطبري أنه قال: (يحتمل أن يقال: وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة، وبعده وقت جواز، أو يقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل)(1).
إذا دخل المسجد وقد أقيمت الفريضة -كما تقدم- أو صلاة نفل كالتراويح، أو صلى مقضية سقطت عنه تحية المسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"(2).
لأن المقصود من تحية المسجد هو تعظيم المسجد بأي صلاة كانت وشغل بقعة المسجد بصلاة، فقامت الفريضة أو النافلة أو المقضية ونحوها مقام التحية، فلم تبق التحية مطلوبة (3).
إذا دخل والخطيب يوشك أن ينهي خطبة الجمعة فإنه يقف إلى قيام الصلاة، لكراهة الجلوس قبل التحية، ولا يصليها؛ لأنه مأمور بصلاتها حيث يمكنه ذلك، وفى هذه الحال لا يمكنه أن يصلي، فتسقط عنه، وكذا لو خشي فوات تكبيرة الإحرام، أو الفاتحة، أو الركعة الأولى سقطت عنه تحية المسجد (4).
إذا دخل المسجد الحرام وهو يريد الطواف سقطت عنه التحية. وقد مضى الكلام على هذه الصورة.
والله أعلم.
الحكم السابع الصلاة إلى سترة
ومما ينبغي أن يحرص عليه المصلي بعد دخول المسجد أن يصلي النافلة إلى سترة، وأن يدنو منها، وهي مشروعية في حق الإمام والمنفرد، وكذا المسبوق إذا قام لقضاء ما فاته إن أمكن، حتى ولو كان المصلي في مكان لا يخشى فيه مارًا؛ لعموم الأدلة لكل مصلّ؛ ولأنه قد يكون المار من الجنس الذي لا يراه الإنسي، وهو الشيطان، كما في حديث سهل الآتي -إن شاء الله-.
ولا فرق في مشروعية اتخاذ السترة بين الرجال والنساء، على أن التساهل فيها موجود، فمن المتنفلين من لا يصلي إلى سترة، بل يصلي وسط المسجد، أو في مؤخره بلا سترة، وهذا من الجهل وعدم الفقه في الدين. والنساء يتساهلن في السترة، فلا تكاد تجد امرأة تصلي في بيتها إلى سترة إلا القليل النادر (5).
وقد دلت السنة القولية والفعلية على تأكيد اتخاذ السترة، وقد واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركها حضرًا ولا سفرًا، وأمر بها في عدة أحاديث، حتى ذهب فريق من أهل العلم إلى وجوبها، وهو مروي عن الإمام أحمد رحمه الله، وبه قال ابن خزيمة وبدر الدين العيني والشوكاني وغيرهم، رحم الله الجميع، وهذا قول قوي وإن كان الجمهور قالوا بالسنية، فإن الأمر باتخاذ السترة أمر مطلق لا قرينة معه تصرفه عن الوجوب، فيكون مقتضيًا له، وإليك بعضًا من هذه النصوص:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها، ولا يدع أحدًا يمر يه وبينها، فإذا جاء أحد يمر فيقاتله؛ فإنه شيطان"(6).
(1) فتح الباري (1/ 538)، كشاف القناع (2/ 46).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
فتح الباري (1/ 14).
(4)
انظر: الأم (1/ 227).
(5)
انظر: عمدة القاري (4/ 123)، ونيل الأوطار (3/ 3).
(6)
أخرجه أبو داود (2/ 390)، وابن ماجه (1/ 307)، والبيهقي (2/ 267)، وقد صححه ابن خزيمة (2/ 27)، والألباني =
قال الشوكاني: (فيه أن اتخاذ السترة واجب)(1).
وعن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته"(2).
وعن سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم"(3).
والسهم: عود من الخشب يسوّى، في طرفه نصل يرمى به عن القوس، ويبلغ طوله فترًا تقريبًا، والفتر: بالكسر، ما بين طرف الإبهام وطرف السبابة بالتفريج المعتاد (4)، ويقدر بحوالي ستة عشر سنتًا.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في سفره، فمن ثمّ اتخذها الأمراء (5).
والحربة: آلة قصيرة من الحديد، محددة الرأس، تستعمل في الحرب (6).
وعن عون بن أبي جحيفة قال: سمعت أبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالبطحاء وبين يديه عنزة الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، يمر بين يديه المرأة والحمار، وفي رواية: يمر من ورائها المرأة والحمار والكلب (7).
والعنزة: أطول من العصا، وأقصر من الرمح، في أسفلها زج كزج الرمح، يتوكأ عليها الشيخ الكبير (8).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود"(9).
قال النووي: (آخرة الرحل: بهمزة ممدودة، وكسر الخاء، وهي العود الذي في آخر الرحل). اهـ (10).
والرحل: هو المعروف عند أهل الإبل بالشداد، وهو المركب المعد للراكب، يكون من الخشب، وفي آخره خشبة يستند إليها الراكب.
فهذه النصوص دليل صريح على مشروعية اتخاذ السترة عند الصلاة، سواء كان ذلك في المسجد، أو المنزل، أو في الصحراء.
= في "صحيح الجامع"(654، 664).
(1)
نيل الأوطار (3/ 2)، وانظر السيل الجرار للشوكاني (1/ 176).
(2)
أخرجه أبو داود (2/ 388)، وصححه ابن خزيمة (2/ 27)، والنووي في المجموع (3/ 8).
(3)
أخرجه أحمد (3/ 404)، والطبراني في الكبير (7/ 114)، وابن خزيمة (2/ 13)، وإسناده حسن.
(4)
لسان العرب (12/ 308)، (5/ 44)، والمعجم الوسيط (1/ 459)، وانظر:"الحرف والصناعات في الحجاز" ص (212).
(5)
أخرجه البخاري (1/ 573)، ومسلم (4/ 464).
(6)
المعجم الوسيط (1/ 164)، وانظر:"الحرف والصناعات في الحجاز" ص (218).
(7)
أخرجه البخاري (1/ 573)، ومسلم (4/ 464).
(8)
المعجم الوسيط (2/ 631).
(9)
أخرجه مسلم (4/ 473).
(10)
شرح النووي على مسلم (4/ 462).
ولقد امتثل السلف الصالح مدلول هذه النصوص، وثبت من أقوالهم وأفعالهم ما يدل على ذلك.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لقد رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري عند المغرب حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب (1).
وعن قرّة بن إياس قال: رآني عمر وأنا أصلي بين أسطوانتين -أي: عمودين- فأخذ بقفائي فأدناني إلى سترة، فقال: صل إليها (2).
قال الحافظ ابن حجر: (أراد عمر بذلك أن تكون صلاته على سترة)(3).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أربع من الجفاء: أن يصلي الرجل إلى غير سترة، وأن يسمح جبهته قبل أن ينصرف، أو يبول قائمًا، أو يسمع المنادي ثم لا يجيبه)(4).
والحكمة من الأمر باتخاذ السترة دفع الضرر عن الصلاة الذي سببه مرور الشيطان أمام المصلي، وهذا ما يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سهل المتقدم:"فليصل إلى سترة، وليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته"(5). قال السندي: (هذه جملة مستأنفة بمنزلة التعليل، أي: لئلا يقطع الشيطان عليه صلاته)(6).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذ كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله؛ فإن معه القرين"(7).
والشيطان يطلق حقيقة على الجن، ويطلق على الإنس أيضًا. قال العيني:(وقد يكون أراد بالشيطان المار بين يديه: نفسه، وذلك أن الشيطان هو المارد الخبيث من الجن والإنس)(8).
وقال بعض العلماء: الحكمة في السترة كفّ البصر عما وراءها، ومنع من يجتاز بقربه، وهذا أمر محسوس؛ فإن من يصلي إلى سترة أجمع لقلبه وأقرب لخشوعه وأغض لبصره، لا سيما إذا كانت سترة شاخصة كجدار أو سارية؛ والله المستعان.
وتحصل السترة بكل ما يجعله المصلي تجاه القبلة كالسارية، والجدار ولو قصيرًا، والراحلة، والسيارة، والشجرة، والسرير، واللبنة، والمخدة، والعصا والحجر، وغير ذلك (9).
وأجاز بعض العلماء فرش السجادة واعتبار نهايتها سترة له. قال في سبل السلام: (وقاس الشافعية على ذلك -أي وضع الخط- بسط المصلي لنحو سجادة، بجامع إشعار المار أنه في الصلاة، وهو صحيح)(10).
ولا تحديد لعرض السترة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى إلى العنزة (وهي عصا في أسفلها حديدة)، وصلى
(1) أخرجه البخاري (1/ 577)، (2/ 106).
(2)
رواه البخاري تعليقًا (1/ 577)، بصيغة الجزم، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 370)، وهو أثر حسن.
(3)
فتح الباري (1/ 577).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 61)، وسنده حسن.
(5)
انظر: إتحاف الأخوة بأحكام الصلاة إلى السترة (ص 128).
(6)
حاشية السندي على سنن النسائي (2/ 62).
(7)
أخرجه مسلم (4/ 470).
(8)
عمدة القاري (4/ 122).
(9)
شرح النووي على مسلم (4/ 463).
(10)
المجموع (3/ 248)، سبل السلام (1/ 284).
على الرمح ونحوهما، وفي حديث سبرة المتقدم:"ولو بسهم".
وأما ارتفاعها فتقدم في حديث أبي ذر رضي الله عنه أنها مثل آخرة الرحل، والمراد بذلك: الخشبة التي يستند إليها الراكب، كما مضى، ومقدارها ذراع، كما صرح به عطاء، وأفتى به الثوري، قال ابن جريج: قال عطاء: كان من مضى يجعلون مؤخرة الرحل إذا صلوا، قلت: وكم بلغك قدر مؤخرة الرحل؛ قال: ذراع، قال: سمعت الثوري يفتي بقول عطاء (1)، وذكر النووي أنها ثلثا ذراع (2)، والظاهر أن طولها يختلف، والله أعلم.
واعلم أن ظاهر النصوص يدل على أن المصلي يجعل السترة قبالة وجهه ولا ينحرف عنها، فإن قول الراوي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحربة. وقوله: بين يديه عنزة، ونحوهما يدل على مقابلة السترة وعدم الانحراف. قال ابن عبد البر:(وأما استقبال السترة والصمد لها فلا تحديد في ذلك عند العلماء، وحسب المصلي أن تكون سترته قبالة وجهه). اهـ (3).
وأما حديث ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على عمود ولا عود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدًا)؛ فهو حديث ضعيف، كما حققه ابن القيم وغيره من أهل العلم (4).
وقد دلت الأحاديث المتقدمة على وجوب الدنو من السترة على ما ذهب إليه فريق من أهل العلم لأمرين:
الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، والأمر عند الإطلاق يقتضي الوجوب.
الثاني: التعليل بقوله: "وليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته"(5).
وأما مقدار ذلك فقد دل عليه حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر شاة (6).
والمراد بالمصلّى: مكان الصلاة، وهو ما يصلي فيه الإنسان من موضع القدمين والجبهة في السجود، فتكون المسافة بين موضع سجوده وبين سترته قدر ممر شاة، وهو نصف ذراع تقريبًا، أو ثلاثة أذرع
(1) أخرجه عبد الرازق في المصنف (2/ 9)، ورواه أبو داود عن عطاء (2/ 481)، وهو أثر صحيح.
(2)
شرح النووي على مسلم (4/ 463).
(3)
التمهيد (4/ 197).
(4)
أخرجه أبو داود (693)، وأحمد (6/ 4)، وغيرهما من طريق علي بن عياش ثنا أبو عبيدة الوليد بن كامل البجلي، حدثني المهلب بن حجر البهراني عن ضباعة. به. وهذا إسناد ضعيف، تفرد به الوليد بن كامل، كما قاله البيهقي (2/ 279)، وعلته ثلاثة أمور:
جهالة الوليد بن كامل، قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام " (3/ 352):"الوليد بن كامل من الشيوخ الذين لم تثبت عدالتهم، ولا لهم من الرواية كبير شيء يستدل به على حالهم".
اضطراب الوليد فيه، كما نصّ عليه الحافظ ابن حجر وغيره، ففي رواية علي بن عياش -هذه- جعله فعلًا، وفي رواية بقية جعله قولًا. كما عند النسائي -على ما قاله ابن القيم في "تهذيب السنن" (1/ 341) - كما أنه تارة يقول: ضباعة بنت المقداد، وتارة: ضبيعة بنت المقدام.
جهالة ضباعة والمهلب. ذكر ذلك ابن القطان -أيضًا- (2/ 352)، ولهذا ضعفه المحققون من أهل العلم أمثال: البيهقي وعبد الحق وابن القطان والنووي والمنذري وغيرهم. والله أعلم. انظر تهذيب السنن (1/ 341)، ونصب الراية (2/ 83)، وإتحاف الأخوة ص (131).
(5)
انظر: المحلى (4/ 261)، فتح الباري (1/ 575)، شرح ثلاثيات مسند أحمد (2/ 786).
(6)
رواه البخاري (1/ 574)، ومسلم (4/ 472).