الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاتصاف بصفة من يظلهم الله في ظله:
إن من السعداء في الدار الآخرة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الرجل الذي تعلق قلبه بالمسجد، فأحبه حبًا شديدًا، إذا أدى فريضة انتظر الأخرى، يصلي مع الجماعة، ويبادر إلى الحضور.
فالمبادرة وتعلق القلب في المسجد أمران متلازمان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله". فذكر منهم: "ورجل قلبه معلق بالمساجد" وفي رواية الإمام مالك: "ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه"(1).
قال ابن عبد البر في التمهيد: (هذا أحسن حديث يروى في فضائل الأعمال وأعمها وأصحها إن شاء الله. وحسبك به فضلًا؛ لأن العلم محيط بأن كل من كان في ظل الله يوم القيامة لم ينله هول الموقف .. )(2).
ويقول الإمام النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل قلبه معلق في المساجد": (معناه: شديد الحب لها، والملازمة للجماعة فيها. وليس معناه: دوام القعود فيها)(3).
أن المبادر في صلاة ما انتظر الصلاة:
إن مما يدل على فضل صلاة الجماعة وفضل المبادرة بحضور المسجد أن من خرج إليها فهو في صلاة طال الوقت أو قصر. وهذا فضل من الله ورحمة. دل على ذلك ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة .. ".
وفى رواية: "إن أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. ما لم يقم من مصلاه أو يحدث .. "(4).
ورواه مالك موقفًا عن نعيم المجمر أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (إذا صلّى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي)(5).
قال ابن عبد البر: (في هذا الحديث دليل على أن فضل منتظر الصلاة كفضل المصلي؛ لأنه معلوم أن قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه" لم يرد به أن ينتظر الصلاة قائم ولا أنه راكع ساجد؛ وإنما أراد أن فضل انتظار الصلاة بالقصد إلى ذلك وبالنية فيه كفضل الصلاة، وأن منتظرها كالمصلي في الفضل، ولله أن يتفضل بما شاء على من يشاء فيما شاء من الأعمال، لا معقب لحكمه ولا راد لفضله، ومن الوجه الذي عرفنا فضل الصلاة فيه عرفنا فضل انتظارها، وقد علم الناس أن المصلي في تلاوته وقيامه وركوعه أتعب من المنتظر للصلاة ذاكرًا كان أو ساكتًا، ولكن الفضائل لا تدرك بنظر، ولا مدخل فيها لقياس، ولو أخذت قياسًا لكان من نوى السيئة كمن نوى الحسنة، ولكن الله منعم كريم، متفضل رحيم، يكتب الحسنة بالنية وإن لم تعمل، فإن عملت ضعفت عشرًا إلى سبع مائة، والله
(1) أخرجه البخاري (629)، ومسلم (1031).
(2)
التمهيد (2/ 282).
(3)
شرح النووي (7/ 127).
(4)
أخرجه البخاري (434، 628)، ومسلم (649).
(5)
أخرجه مالك (1/ 161).
يضاعف لمن يشاء، ولا يؤاخذ عباده المسلمين بما وسوست به صدورهم، ونووا من الشر ما لم يعملوه، وهذا كله لا مدخل فيه للقياس) (1).
وقال أيضًا: (هذا الحديث من أفضل ما يروى في فضل المنتظر للصلاة؛ لأن الملائكة تستغفر له، وفي استغفارهم له دليل على أنه يغفر له -إن شاء الله- ألا ترى أن طلب العلم من أفضل الأعمال. وغنمًا صار كذلك -والله أعلم- لأن الملائكة تضع أجنحتها له بالدعاء والاستغفار
…
) (2).
واعلم أن في الموقوف الذي رواه مالك رحمه الله فائدة مهمة، وهي أن قوله في رواية البخاري:"ما لم يقم من مصلاه" خرج مخرج الغالب.
والمراد به المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد. فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة كان كذلك -إن شاء الله تعالى- ولا سيما إن كان لغرض يعينه على الانتظار كالانتقال من مكان بارد إلى دافئ أو من حار إلى بارد، أو ليستند إلى حائط ونحو ذلك. بل إن قوله عليه الصلاة والسلام:"ولا في صلاة ما انتظر الصلاة" يفيد هذا المعنى، والله أعلم (3).
وقد جعل الله تعالى انتظار الصلاة بعد الصلاة من أسباب محو الذنوب وتطهير العبد من خطاياه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات"؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط"(4).
فالحديث بعمومه يفيد فضل انتظار الصلاة، والمبادرة بحضور المسجد. فإن الانتظار يشمل انتظار الوقت وانتظار الجماعة، كما يشمل انتظارها في المسجد بالحضور مبكرًا، وانتظارها في البيت أو الشغل أو السوق ليبادر بالحضور، وذلك لتعلق فكره وقلبه بها، فهو دائم الحضور والمراقبة غير ملته عن أفضل العبادات البدنية بشيء (5).
وتأمل كيف شبه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأعمال الثلاثة بالرباط الذي هو الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها. مما يؤكد فضل هذه الأعمال وعظيم مكانتها عند الله تعالى.
وقد ورد -أيضًا- في فضل المبادرة إلى المسجد التي من لوازمها توطن المسجد حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشش الله تعالى إليه كما يتبشش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم"(6).
قال ابن الأثير: (البشّ: فرح الصديق بالصديق، واللطف في المسألة والإقبال عليه)(7). وقد بوب ابن
(1) التمهيد (19/ 26، 43).
(2)
المصدر السابق.
(3)
انظر فتح الباري (2/ 136)، والفواكه العديدة (1/ 102).
(4)
أخرجه مسلم (251).
(5)
انظر دليل الفالحين (1/ 366).
(6)
أخرجه ابن ماجه (1/ 262)، والحاكم (1/ 213). وقال: صحيح على شرط الشيخين، وانظر صحيح الترغيب والترهيب (1/ 202).
(7)
النهاية (1/ 130).