الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاتته ركعة فأكثر قضاها وسلَّم ثم سجد للسهو وسلَّم. وهذا السجود من أجل الذي زاده أثناء قيام الإمام إلى الرابعة.
تنبيه: تبين مما سبق أن سجود السهو تارة يكون قبل السلام، وتارة يكون بعده فيكون قبل السلام في موضعين:
الأول: إذا كان عن نقص، لحديث عبد الله بن بحينة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو قبل السلام حين ترك التشهد الأول. وسبق ذكر الحديث بلفظه.
الثاني: إذا كان عن شك لم يترجَّح فيه أحد الأمرين، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فيمن شكَّ في صلاته فلم يدر كم صلَّى؟ ثلاثًا أم أربعًا؟ حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد سجدتين قبل أن يسلم، وسبق ذكر الحديث بلفظه.
ويكون سجود السهو بعد السلام في موضعين:
الأول: إذا كان عن زيادة لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمسًا فذكروه بعد السلام فسجد سجدتين ثم سلم، ولم يبين أن سجوده بعد السلام من أجل أنه لم يعلم بالزيادة إلا بعده، فدل على عموم الحكم، وأن السجود عن الزيادة يكون بعد السلام سواء علم بالزيادة قبل السلام أم بعده، ومن ذلك: إذا سلم قبل إتمام صلاته ناسيًا ثم ذكر فأتمها، فإنه زاد سلامًا في أثناء صلاته فيسجد بعد السلام؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر أو العصر من ركعتين فذكروه فأتم صلاته وسلم ثم سجد للسهو وسلم، وسبق ذكر الحديث بلفظه.
الثاني: إذا كان عن شك ترجَّح فيه أحد الأمرين لحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مَن شكَّ في صلاته أن يتحرَّى الصواب فيتم عليه، ثم يسلِّم ويسجد. وسبق ذكر الحديث بلفظه.
وإذا اجتمع عليه سهوان موضع أحدهما قبل السلام، وموضع الثاني بعده، فقد قال العلماء: يغلب ما قبل السلام فيسجد قبله.
مثال ذلك: شخص يصلِّي الظهر فقام إلى الثالثة ولم يجلس للتشهد الأول وجلس في الثالثة يظنها الثانية ثم ذكر أنها الثالثة، فإنه يقوم ويأتي بركعة ويسجد للسهو ثم يسلِّم.
فهذا الشخص ترك التشهد الأول وسجوده قبل السلام، وزاد جلوسًا في الركعة الثالثة وسجوده بعد السلام فغلب ما قبل السلام. والله أعلم.
حكم تارك الصلاة
وهذه مسألة اختلف فيها علماء أهل السنة وسنورد في هذا الباب قول الإمام المحدث الألباني، وكذا قول العلامة ابن العثيمين رحمهما الله تعالى فقد صنف كل منهما في ذلك رسالة مبينا حجته.
فقال الشيخ الألباني (1):
روى الإمام معمر بن راشد في "الجامع"(11/ 409 - 411، الملحق بـ "مصنف عبد الرزاق) " عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا، فـ[والذي نفسي بيده] ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق
(1) من رسالة حكم تارك الصلاة للشيخ.
يكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار.
قال: يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، [ويجاهدون معنا]، فأدخلتهم النار.
قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم.
فيأتونهم؛ فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، [لم تغش الوجه]، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه، [فيخرجون منها بشرًا كثيرًا] فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا.
قال: ثم [يعودون فيتكلمون فـ] يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان.
[فيخرجون خلقًا كثيرًا] ثم [يقولون: ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا.
ثم يقول: ارجعوا فـ] من كان في قلبه وزن نصف دينار [فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا
…
].
حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة [فيخرجون خلقًا كثيرًا].
قال أبو سعيد:
فمن لم يصدق بهذا الحديث فليقرأ هذه الآية: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا} [النساء: 40] قال: فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق في النار أحد فيه خير!
قال: ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين.
قال: فيقبض قبضة من النار -أو قال: قبضتين- ناسًا لم يعملوا لله خيرًا قط قد احترقوا حتى صاروا حممًا.
قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له: (الحياة) فيصب عليهم، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، [قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض].
قال: فيخرجون من أجسادهم مثل اللؤلؤ وفي أعناقهم الخاتم (وفي رواية: الخواتم) عتقاء الله.
قال: فيقال لهم: ادخلوا الجنة فما تمنيتم ورأيتم من شيء فهو لكم [ومثله معه][فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه].
قال: فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين!
قال: فيقول: فإن لكم عندي أفضل منه!
فيقولون: ربنا وما أفضل من ذلك؟
[قال:] فيقول: رضائي عنكم، فلا أسخط عليكم أبدًا).
تخريجه:
وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وهو من رواية عبد الرزاق عن معمر:
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (3/ 94) والنسائي (2/ 271) وابن ماجة (رقم: 60) وابن
خزيمة في (التوحيد)(ص 184 و201 و212) وابن نصر المروزي في (تعظيم قدر الصلاة)(رقم: 276).
وتابع عبد الرزاق:
محمد بن ثور، عن معمر، به لم يسق لفظه، وإنما قال: بنحوه.
يعني حديث هشام بن سعد الآتي تخريجه.
وتابع معمرًا جماعة:
أولًا: سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، به أتم منه، وأوله: (هل تضارون في رؤية الشمس والقمر
…
) الحديث بطوله.
أخرجه البخاري (7439) ومسلم (1/ 114 - 117) وابن خزيمة أيضًا (ص 201) وابن حبان (7333 - الإحسان).
ثانيًا: حفص بن ميسرة عن زيد:
أخرجه مسلم (1/ 114 - 117)، وكذا البخاري (4581) ولكنه لم يسقه بتمامه، وكذا أبو عوانة (1/ 168 - 169).
ثالثًا: هشام بن سعد عن زيد:
أخرجه أبو عوانة (1/ 181 - 183) بتمامه وابن خزيمة (ص 200) والحاكم (4/ 582 - 584) وصححه وكذا مسلم (1/ 17) إلا أنه لم يسق لفظه، وإنما أحال به على لفظ حديث حفص بن ميسرة نحوه.
وتابع زيدًا:
سليمان بن عمرو بن عبيد العتواري -أحد بني ليث وكان في حجر أبي سعيد- قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
…
فذكره نحوه مختصرًا وفيه الزيادة الثالثة.
أخرجه أحمد (3/ 11 - 12) وابن خزيمة (ص 211) وابن أبي شيبة في (المصنف)(13/ 176/16039) وعنه ابن ماجة (4280) وابن جرير في (التفسير)(16/ 85) ويحيى بن صاعد في (زوائد الزهد)(ص 448/ 1268) والحاكم (4/ 585) وقال: (صحيح الإسناد على شرط مسلم) وبيض له الذهبي!!
وإنما هو حسن فقط، لأن فيه محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث.
فقهه:
بعد تخريج هذا الحديث هذا التخريج الذي قد لا تراه في مكان آخر، وبيان أنه متفق عليه بين الشيخين وغيرهما من أهل (الصحاح) و (السنن) و (المسانيد) أقول:
في هذا الحديث فوائد جمة عظيمة، منها: شفاعة المؤمنين الصالحين في إخوانهم المصلين الذين أدخلوا النار بذنوبهم، ثم بغيرهم ممن هم دونهم على اختلاف قوة إيمانهم.
ثم يتفضل الله تبارك وتعالى على من بقي في النار من المؤمنين، فيخرجهم من النار بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه.
ولقد توهم (بعضهم) أن المراد بالخير المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار!
قال الحافظ في (الفتح)(13/ 429): (ورد ذلك بأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار
بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث).
قلت: منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس الطويل في الشفاعة أيضًا:
(فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع.
فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله.
فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله).
متفق عليه وهو مخرج في (ظلال الجنة)(2/ 296).
وفي طريق أخرى عن أنس:
(
…
وفرغ الله من حساب الناس، وأدخل من بقي من أمتي النار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله عز وجل لا تشركون به شيئًا؟
فيقول الجبار عز وجل: فبعزتي لأعتقنهم من النار.
فيرسل إليهم، فيخرجون وقد امتحشوا، فيدخلون في نهر الحياة فينبتون
…
) الحديث.
أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح، وهو مخرج في (الظلال) تحت الحديث (844)، وله فيه شواهد (843 - 843) وفي (الفتح)(11/ 455) شواهد أخرى.
وفي الحديث رد على استنباط ابن أبي جمرة من قوله صلى الله عليه وسلم فيه: (لم تغش الوجه)، ونحوه الحديث الآتي بعده:(إلا دارات الوجوه): أن من كل من مسلما ولكنه كان لا يصلي لا يخرج [من النار] إذ لا علامة له)!
ولذلك تعقبه الحافظ بقوله (11/ 457):
(لكنه يحمل على أنه يخرج في القبضة، لعموم قوله: (لم يعملوا خيرًا قط)، وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في (التوحيد).
يعني هذا الحديث.
وقد فات الحافظ رحمه الله أن في الحديث نفسه تعقبًا على ابن أبي جمرة من وجه آخر، وهو أن المؤمنين لما شفعهم الله في إخوانهم المصلين والصائمين وغيرهم في المرة الأولى، فأخرجوهم من النار بالعلامة فلما شفعوا في المرات الأخرى وأخرجوا بشرًا كثيرًا لم يكن فيهم مصلون بداهة، وإنما فيهم من الخير كل حسب إيمانهم.
وهذا ظاهر جدًا لا يخفى على أحد إن شاء الله.
مباحث ومناقشات:
وعلى ذلك فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة إذا مات مسلمًا يشهد أن لا إله إلا الله: أنه لا يخلد في النار مع المشركين.
ففيه دليل قوي جدًا أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .
وقد روى الإمام أحمد في (مسنده)(6/ 240) حديثًا صريحًا في هذا من رواية عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بلفظ: (الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة
…
) الحديث.
وفيه:
(
…
فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال عز وجل: {من يشرك بالله فقد حرم الله
عليه الجنة} [المائدة: 72].
وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء
…
) الحديث
…
وقد صححه الحاكم (4/ 576).
وهذا وإن كان غير مسلم عندي لما بينته في (تخريج الطحاوية)(ص 367 - الطبعة الرابعة)، فإنه يشهد له هذا الحديث الصحيح فتنبه.
إذا عرفت ما سلف -يا أخي المسلم- فإن عجبي لا يكاد ينتهي من إغفال جماهير المؤلفين الذين توسعوا في الكتابة في هذه المسألة الهامة ألا وهي: هل يكفر تارك الصلاة كسلًا أم لا؟
لقد غفلوا جميعًا -فيما اطلعت- عن إيراد هذا الحديث الصحيح مع اتفاق الشيخين وغيرهما على صحته!
لم يذكره من هو حجة له، ولم يجب عنه من هو حجة عليه وبخاصة منهم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فإنه مع توسعه في سوق أدلة المختلفين في كتابه القيم (الصلاة)، وجواب كل منهم عن أدلة مخالفه؛ فإنه لم يذكر هذا الحديث في أدلة المانعين من التكفير؛ إلا مختصرًا اختصارًا مخلًا، لا يظهر دلالته الصريحة على أن الشفاعة تشمل تارك الصلاة أيضًا؛ فقد قال رحمه الله:
(وفي حديث الشفاعة: يقول الله عز وجل: (وعزتي وجلالي، لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله)؛ وفيه: فيخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط).
قلت: وهذا السياق ملفق من حديثين:
فالشطر الأول منه: هو في آخر حديث أنس المتفق عليه وقد سبق أن ذكرت (ص 33) الطرف الأخير منه.
والشطر الآخر هو في حديث الكتاب:
(
…
فيقبض قبضة من النار ناسًا لم يعملوا لله خيرًا قط
…
).
وأما أن اختصاره اختصار مخل، فهو واضح جدًا إذا تذكرت أيها القارئ الكريم ما سبق أن استدركته على الحافظ (ص 34) متممًا به تعقيبه على ابن أبي جمرة؛ مما يدل على أن شفاعة المؤمنين كانت لغير المصلين في المرة الثانية وما بعدها وأنهم أخرجوهم من النار.
فهذا نص قاطع في المسألة ينبغي به أن يزول به النزاع في هذه المسألة بين أهل العلم الذين تجمعهم العقيدة الواحدة التي منها عدم تكفير أهل الكبائر من الأمة المحمدية؛ وبخاصة في هذا الزمان الذي توسع فيه بعض المنتمين إلى العلم في تكفير المسلمين لإهمالهم القيام بما يجب عليهم عمله، مع سلامة عقيدتهم؛ خلافًا للكفار الذين لا يصلون تدينًا وعقيدة والله سبحانه وتعالى يقول:{أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون} ؟!
.. لما تقدم كنت أحب لابن القيم رحمه الله أن لا يغفل ذكر هذا الحديث الصحيح كدليل صريح للمانعين من التكفير، وأن يجيب عنه إن كان لديه رحمه الله جواب، وبذلك يكون قد أعطى البحث والإنصاف الفريقين دون تحيز لفئة.
نعم؛ إنه لمما يجب علي أن أنوه به أنه رحمه الله عقد فصلًا خاصًا (1)(في الحكم بين الفريقين، وفصل الخطاب بين الطائفتين) يساعد الباحث على تفهم نصوص الفريقين فهمًا صحيحًا، فإنه حقق فيه تحقيقًا رائعًا ما هو مسلم به عند العلماء أنه ليس كل كفر يقع فيه المسلم يخرج به من الملة.
فمن المفيد أن أقدم إلى القارئ فقرات أو خلاصات من كلامه تدل على مرامه، ثم أعقب عليه بما يلزم مما يلتقي مع هذا الحديث الصحيح ويؤيد المذهب الرجيح.
لقد أفاد رحمه الله (أن الكفر نوعان: كفر عمل. وكفر جحود واعتقاد
…
وأن كفر العمل ينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده؛ فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان.
وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعًا).
(قلت: هذا الإطلاق فيه نظر، إذ قد يكون ذلك من الكفر الاعتقادي أحيانًا، وذلك إذا اقترن معه ما يدل على فساد عقيدته، كاستهزائه بالصلاة والمصلين، وكإيثاره القتل على أن يصلي إذا دعاه الحاكم إليها، كما سيأتي فتذكر هذا فإنه مهم).
ثم قال رحمه الله:
(ولا يمكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه، ولكن هو كفر عمل، لا كفر اعتقاد.
وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني، والسارق، وشارب الخمر، وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد).
(قلت: لكني أرى أنه لا يصح أن يطلق على أمثال هؤلاء لفظة الكفر، فيقال مثلًا: من زنى فقد كفر، فضلًا عن أنه لا يجوز أن يقال: فهو كافر حتى على تارك الصلاة -أي أن يقال: كافر-، وعلى غيره ممن وصف في الحديث بالكفر وقوفًا مع النص، ومن باب أولى أن لا يقال: كافر حلال الدم!!).
ثم قال رحمه الله بعد أن ذكر الحديث الصحيح: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
(ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان.
وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر، ولوازمهما).
ثم ذكر الأثر المعروف عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال: (ليس بالكفر الذي يذهبون إليه).
(قلت: زاد الحاكم: (إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة، كفر دون كفر) وصححه هو (2/ 313) والذهبي.
وهذا قاصمة ظهر جماعة التكفير، وأمثالهم من الغلاة).
ثم قال ابن القيم رحمه الله:
(والمقصود أن سلب الإيمان عن تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر، وسلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يسمى تارك الصلاة مسلمًا ولا مؤمنًا، وإن كان معه شعبة من شعب الإسلام أو الإيمان).
(1)(ص 53).
(قلت: نفي التسمية المذكورة عن تارك الصلاة: فيه نظر، فقد سمى الله تعالى الفئة الباغية مؤمنة في الآية المعروفة: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
…
} مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (
…
وقتاله كفر)، فكما لم يلزم من وصف المسلم الباغي بالكفر نفي اسم المؤمن عنه فضلًا عن اسم المسلم فكذلك تارك الصلاة، إلا إن كان يقصد بذلك النفي أنه مسلم كامل! وذلك بعيد).
قال: (نعم؛ يبقى أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟
فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطًا في صحة الباقي واعتباره وإن كان المتروك شرطًا في اعتبار الباقي لم ينفعه. فهل الصلاة شرط لصحة الإيمان؟ هذا سر المسألة).
قلت: ثم أشار رحمه الله إلى الأدلة التي كان ذكرها للفريق الأول المكفر، ثم قال:(وهي تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة).
فأقول: يبدو لي جليًا أن ابن القيم رحمه الله بعد بحثه القيم في التفريق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي، وأن المسلم لا يخرج من الملة بكفر عملي، لم يستطع أن يحكم للفريق المكفر بترك الصلاة، مع الأدلة الكثيرة التي ساقها لهم، لأنها كلها لا تدل على الكفر العملي!
ولذلك؛ لجأ أخيرًا إلى أن يتساءل: (هل ينفعه إيمانه؟ وهل الصلاة شرط لصحة الإيمان؟).
قلت: إن كل من تأمل في جوابه على هذا التساؤل يلاحظ أنه حاد عنه إلى القول بأن الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالصلاة فأين الجواب عن كون الصلاة شرطا لصحة الإيمان؟
أي: ليس فقط شرط كمال، فإن الأعمال الصالحة كلها شرط كمال عند أهل السنة، خلافًا للخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار، مع تصريح الخوارج بتكفيرهم.
فلو قال قائل بأن الصلاة شرط لصحة الإيمان، وأن تاركها مخلد في النار؛ فقد التقى مع الخوارج في بعض قولهم هذا، وأخطر من ذلك أنه خالف حديث الشفاعة هذا، كما تقدم بيانه.
ولعل ابن القيم رحمه الله بحيدته عن ذاك الجواب، أراد أن يشعر القارئ بأهمية الصلاة في الإسلام من جهة وأنه لا دليل على أنها شرط لصحة الإيمان من جهة أخرى.
وعليه؛ فإن تارك الصلاة كسلًا لا يكفر عنده إلا إذا اقترن مع تركه إياها ما يدل على أنه كفر كفرًا اعتقاديا؛ فهو في هذه الحالة -فقط- يكفر كفرًا يخرج به من الملة، كما تقدمت الإشارة بذلك مني، وهو ما يشعر به كلام ابن القيم في آخر هذا الفصل، فإنه قال:
(ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها، ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك؟! فيقول: اقتلوني، ولا أصلي أبدًا).
قلت: وعلى مثل هذا المصر على الترك والامتناع عن الصلاة، مع تهديد الحاكم له بالقتل: يجب أن تحمل كل أدلة الفريق المكفر للتارك للصلاة.
وبذلك تجتمع أدلتهم مع أدلة المخالفين ويلتقون على كلمة سواء؛ أن مجرد الترك لا يكفر، لأنه كفر عملي، لا اعتقادي كما تقدم عن ابن القيم.
وهذا ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، -أعني أنه حمل تلك الأدلة هذا الحمل- فقال في (مجموع الفتاوى) (22/ 48)؛ وقد سئل عن تارك الصلاة من غير عذر: هل هو مسلم في تلك الحال؟! فأجاب رحمه الله ببحث طويل ملئ علمًا، لكن المهم منه الآن ما يتعلق منه بحديثنا هذا، فإنه بعد أن حكى أن تارك الصلاة يقتل عند جمهور العلماء؛ مالك والشافعي وأحمد قال:
(وإذا صبر حتى يقتل، فهل يقتل كافرًا مرتدًا، أو فاسقًا كفساق المسلمين؟
على قولين مشهورين، حكيا روايتين عن أحمد، فإن كان مقرًا بالصلاة في الباطن، معتقدًا لوجوبها، يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل ولا يصلي، هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم، ولهذا؛ لم يقع قط في الإسلام، ولا يعرف أن أحدًا يعتقد وجوبها، ويقال له: إن لم تصل وإلا قتلناك، وهو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب؛ فهذا لم يقع قط في الإسلام.
ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل: لم يكن في الباطن مقرًا بوجوبها؛ ولا ملتزمًا بفعلها، فهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم:(ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة)، رواه مسلم (1).
فمن كان مصرًا على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون قط مسلمًا مقرًا بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب، واعتقاد أن تاركها يستحق القتل، هذا داع تام إلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور.
فإذا كان قادرًا ولم يفعل قط علم أن الداعي في حقه لم يوجد والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل.
لكن هذا قد يعارضه أحيانًا أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها وتفويتها أحيانًا.
فأما من كان مصرًا على تركها، لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلمًا.
لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في (السنن) [من] حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)).
فالمحافظ عليها: الذي يصليها في مواقيتها كما أمر الله تعالى.
والذي يؤخرها أحيانًا عن وقتها، أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه كما جاء في الحديث
…
)) وعلى هذا المحمل يدل كلام الإمام أحمد (2) أيضًا الذي شهر عنه بعض أتباعه المتأخرين القول بتكفير تارك الصلاة دون تفصيل.
وكلامه يدل على خلاف ذلك بحيث لا يخالف هذا الحديث الصحيح، كيف وقد أخرجه في (مسنده) كما أخرج حديث عائشة بمعناه كما تقدم؟!
فقد ذكر ابنه عبد الله في (مسائله)(ص 55) قال: (سألت أبي رحمه الله عن ترك الصلاة متعمدًا؟
قال: (
…
والذي يتركها لا يصليها والذي يصليها، في غير وقتها؛ أدعوه ثلاثًا، فإن صلى وإلا ضربت عنقه، هو عندي بمنزلة المرتد
…
).
قلت: فهذا نص من الإمام أحمد بأنه لم يكفر بمجرد تركه للصلاة، وإنما بامتناعه عن الصلاة، مع علمه بأنه يقتل إن لم يصل، فالسبب هو إيثاره القتل على الصلاة، فهو الذي دل على أن كفره كفر اعتقادي فاستحق القتل.
(1) انظر ما سبق (ص 8، 9).
(2)
انظر ما سبق في المقدمة (ص 16). (ع).
ونحوه ما ذكره المجد ابن تيمية -جد شيخ الإسلام ابن تيمية- في كتابه (المحرر في الفقه الحنبلي)(ص 62):
(ومن أخر صلاة تكاسلًا لا جحودًا، أمر بها، فإن أصر حتى ضاق وقت الأخرى وجب قتله).
قلت: فلم يكفر بالتأخير، وإنما بالإصرار المنبئ عن الجحود.
ولذلك قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في (مشكل الآثار) في باب عقده في هذه المسألة، وحكى شيئًا من أدلة الفريقين، ثم اختار أنه لا يكفر.
قال (4/ 228):
(والدليل على ذلك أنا نأمره أن يصلي، ولا نأمر كافرًا أن يصلي، ولو كان بما كان منه كافرًا لأمرناه بالإسلام، فإذا أسلم أمرناه بالصلاة، وفي تركنا لذلك؛ وأمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة، ومن ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أفطر في رمضان يومًا متعمدًا بالكفارة التي أمره بها، وفيها الصيام، ولا يكون الصيام إلا من المسلمين.
ولما كان الرجل يكون مسلمًا إذا أقر بالإسلام قبل أن يأتي بما يوجبه الإسلام من الصلوات الخمس، ومن صيام رمضان: كان كذلك، ويكون كافرًا بجحوده لذلك، ولا يكون كافرًا بتركه إياه بغير جحود منه له، -ولا يكون كافرًا إلا من حيث كان مسلمًا-، وإسلامه كان بإقراره بالإسلام، فكذلك ردته لا تكون إلا بجحوده الإسلام).
قلت: وهذا فقه جيد، وكلام متين، لا مرد له، وهو يلتقي تمامًا مع ما تقدم من كلام الإمام أحمد رحمه الله، الدال على أنه لا يكفر لمجرد الترك، بل بامتناعه من الصلاة بعد دعائه إليها.
وإن مما يؤكد ما حملت عليه كلام الإمام أحمد، ما جاء في كتاب (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل) للشيخ علاء الدين المرداوي، قال رحمه الله (1/ 402) كالشارح لقول أحمد المتقدم آنفًا:(أدعوه ثلاثًا):
(الداعي له هو الإمام أو نائبه، فلو ترك صلوات كثيرة قبل الدعاء لم يجب قتله، ولا يكفر على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم).
وممن اختار هذا المذهب أبو عبد الله بن بطة، كما ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة المقدسي في كتابه (الشرح الكبير على (المقنع) للإمام موفق الدين المقدسي) (1/ 385) وزاد أنه أنكر قول من قال بكفره قال أبو الفرج:
(وهو قول أكثر الفقهاء، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي).
ثم استدل على ذلك بأحاديث كثيرة، أكثرها عند ابن القيم، ومنها حديث عبادة المتقدم في كلام ابن تيمية فقال عقبه:
(ولو كان كافرًا لم يدخله في المشيئة).
قلت: ويؤكد ذلك حديث الكتاب وحديث عائشة؛ تأكيدًا لا يدع شكًا أو شبهة فلا تنس.
ثم قال أبو الفرج: (ولأن ذلك إجماع المسلمين، فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحدًا من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه، ولا منع ميراث مورثه، ولا فرق بين الصلاة من أحدهما مع كثرة تاركي الصلاة ولو كفر لثبتت هذه الأحكام.
ولا نعلم خلافًا بين المسلمين أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها مع اختلافهم في المرتد.
وأما الأحاديث المتقدمة (يعني التي احتج بها المكفرون كحديث: (بين الرجل وبين الكفر ترك
الصلاة) فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار، لا على الحقيقة، كقوله صلى الله عليه وسلم:(سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)
…
وأشباه هذا مما أريد به التشديد في الوعيد.
قال شيخنا رحمه الله (يعني الموفق المقدسي): وهذا أصوب القولين، والله أعلم).
قلت: ونقله الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله في حاشيته على (المقنع)(1/ 95 - 96) لابن قدامة مقرًا له.
ومع تصريح الإمام الشوكاني في (السيل الجرار)(1/ 292) بتكفير تارك الصلاة عمدًا، وأنه يستحق القتل، ويجب على إمام المسلمين قتله، فقد بين في (نيل الأوطار) أنه لا يعني كفرًا لا يغفر، فقال بعد أن حكى أقوال العلماء واختلافهم، وذكر شيئًا من أدلتهم (1/ 154 - 155):
(والحق أنه كافر يقتل، أما كفره، فلأن الأحاديث صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم، وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتض لجواز الإطلاق.
ولا يلزمنا شيء من المعارضات التي أوردها الأولون، لأنا نقول: لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة، ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرًا، فلا ملجئ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيعتها).
ولقد صدق رحمه الله، لكن ذهابه إلى جواز إطلاق اسم (الكافر) على تارك الصلاة، هو توسع غير محمود عندي، لأن الأحاديث التي أشار إليها ليس فيها الإطلاق المدعى، وإنما فيها:(فقد كفر)!
وما أظن أن أحدًا يستجيز له أن يشتق من هذا الفعل اسم فاعل، فيقول منه:(كافر)، إذن لزمه أن يطلقه أيضًا على كل من قيل فيه:(كفر)، كالذي يحلف بغير الله ومن قاتل مسلمًا أو تبرأ من نسب، ونحو ذلك مما جاء في الأحاديث.
نعم؛ لو صح ما رواه أبو يعلى (2349) وغيره عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ:
(عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أسس الإسلام؛ من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان).
أقول: لو صح هذا لكان دليلًا واضحًا على جواز إطلاقه على تارك الصلاة، ولكنه لم يصح؛ كما كنت بينته في (السلسلة الضعيفة)(94).
والخلاصة: أن مجرد الترك لا يمكن أن يكون حجة لتكفير المسلم، وإنما هو فاسق، أمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، والحديث الذي هو عماد هذه الرسالة نص صريح في ذلك لا يسع مسلمًا أن يرفضه.
وأن من دعي إلى الصلاة، وأنذر بالقتل إن لم يستجب فقتل فهو كافر -يقينًا- حلال الدم، لا يصلي عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
فمن أطلق التكفير فهو مخطئ ومن أطلق عدم التكفير فهو مخطئ، والصواب التفصيل.
وبعد:
فإن أخشى ما أخشاه أن يبادر بعض المتعصبين الجهلة، إلى رد هذا الحديث الصحيح لدلالته الصريحة على أن تارك الصلاة كسلًا مع الإيمان بوجوبها داخل في عموم قوله تعالى: {
…
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، كما فعل بعضهم أخيرًا بتاريخ (1407 هـ)؛ فقد تعاون اثنان من طلاب العلم -أحدهما سعودي والآخر مصري-، فتعقباني في بعض الأحاديث من المئة الأولى من (سلسلة الأحاديث
الصحيحة) منها حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (برقم: 87) ولفظه:
(يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز؛ يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: (لا إله إلا الله) فنحن نقولها.
قال صلة بن زفر لحذيفة: ما تغني عنهم (لا إله إلا الله) وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟
فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثًا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة.
ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة تنجيهم من النار. (ثلاثًا).
قلت: فسودوا في تضعيف هذا الحديث ثلاث صفحات كبار في الرد علي لتصحيحي إياه، ولم يجدا ما يتعلقان به لتضعيفه إلا أنه من رواية أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، بحجة أنه كان يرى الإرجاء! وأن الحديث موافق لبدعة الإرجاء!!
وهذا من الجهل البالغ، ولا مجال الآن لبيانه إلا مختصرًا، فإن أبا معاوية مع كونه ثقة محتجًا به عند الشيخين؛ فإنه قد توبع من ثقة مثله، وأن الحديث لا صلة له بالإرجاء مطلقًا.
وهما إنما ادعيا ذلك لجهلهم بالعلم، وكيف يكون ذلك وقد صححه الحاكم والذهبي، وكذا ابن تيمية والعسقلاني والبوصيري.
ولئن جاز في عقلهما أن هؤلاء العلماء كانوا في تصحيحهم إياه جميعًا مخطئين! فهل وصل الأمر بهما أن يعتقدا بأنهم يصححون ما يؤيد الإرجاء؟!
تالله إنها لإحدى الكبر أن يتسلط على هذا العلم من لا يحسنه، وأن يضعفوا ما أهل العلم يصححونه!
وهذا الحديث الصحيح يستفاد منه أن الجهل قد يبلغ ببعض الناس أنهم لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادة، وهذا لا يعني أنهم يعرفون وجوب الصلاة وسائر الأركان، ثم هم لا يقومون بها؛ كلا ليس في الحديث شيء من ذلك، بل هم في ذلك ككثير من أهل البوادي، والمسلمين حديثًا في بلاد الكفر، لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادتين.
وقد يقع شيء من ذلك في بعض العواصم، فقد سألني أحدهم هاتفيًا عن امرأة تزوجها، وكانت تصلي دون أن تغتسل من الجماع!
وقريبًا سألني إمام مسجد ينظر إلى نفسه أنه على شيء من العلم يسوغ له أن يخالف العلماء! سألني عن ابنه أنه كان يصلي جنبًا بعد أن بلغ مبلغ الرجال واحتلم، لأنه كان لا يعلم وجوب الغسل من الجنابة!!
وقد قال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى)(22/ 41): (ومن علم أن محمدًا رسول الله، فآمن بذلك ولم يعلم كثيرًا مما جاء به لم يعذبه الله على ما لم يبلغه، فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ فإنه [أن] لا يُعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المستفيضة عنه في أمثال ذلك
…
).
ثم ذكر أمثلة طيبة، منها المستحاضة، قالت: إني أستحاض حيضة شديدة تمنعني الصلاة والصوم؟ فأمرها بالصلاة زمن دم الإستحاضة، ولم يأمرها بالقضاء.
قلت: وهذه المستحاضة هي فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها، وحديثها في (الصحيحين) وغيرهما، وهو مخرج في (صحيح أبي داود)(281).
ومثلها أم حبيبة بنت جحش زوجة عبد الرحمن بن عوف، واستحيضت سبع سنين، وحديثها عند الشيخين أيضًا، وهو مخرج في (الصحيح) أيضًا (283).
وثمة ثالثة، وهي حمنة بنت جحش، وهي التي أشار إليها ابن تيمية، فإن في حديثها: (إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها؟ قد منعتني الصلاة والصوم
…
) الحديث.
هذا؛ وهناك نص آخر للإمام أحمد، كان ينبغي أن يضم إلى ما سبق نقله عنه لشديد ارتباطه به، ودلالته أيضًا على أن تارك الصلاة لا يكفر بمجرد الترك ولكن هكذا قدر.
قال عبد الله بن الإمام أحمد في (مسائله)(ص 56/ 195):
(سألت أبي عن رجل فرط في صلوات شهرين؟ فقال: (يصلي ما كان في وقت يحضره ذكر تلك الصلوات، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر وقت الصلاة التي ذكر فيها هذه الصلوات التي فرط فيها؛ فإنه يصلي هذه التي يخاف فوتها، ولا يضيع مرتين، ثم يعود فيصلي أيضًا حتى يخاف فوت الصلاة التي بعدها، إلا إن كان كثر عليه، ويكون ممن يطلب المعاش، ولا يقوى أن يأتي بها، فإنه يصلي حتى يحتاج إلى أن يطلب ما يقيمه من معاشه، ثم يعود إلى الصلاة، لا تجزئه صلاة وهو ذاكر الفرض المتقدم قبلها، فهو يعيدها أيضًا إذا ذكرها، وهو في صلاة).
فانظر أيها القارئ الكريم: هل ترى في كلام الإمام أحمد هذا إلا ما يدل على ما سبق تحقيقه أن المسلم لا يخرج من الإسلام بمجرد ترك تلك الصلاة، بل صلوات شهرين متتابعين! بل وأذن له أن يؤجل قضاء بعضها لطلب المعاش!
وهذا عندي يدل على شيئين:
أحدهما: وهو ما سبق وهو أنه يبقى على إسلامه، ولو لم تبرأ ذمته بقضاء كل ما عليه من الفوائت.
والآخر: أن حكم القضاء دون حكم الأداء؛ لأنني لا أعتقد أن الإمام أحمد، بل ولا من هو دونه في العلم يأذن بترك الصلاة حتى يخرج وقتها لعذر طلب المعاش.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
واعلم أخي المسلم أن هذه الرواية عن الإمام أحمد، وما في معناها هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه كل مسلم لذات نفسه أولًا، ولخصوص الإمام أحمد ثانيًا، لقوله رحمه الله:(إذا صح الحديث فهو مذهبي)(1)، وبخاصة أن الأقوال الأخرى المروية عنه على خلاف ما تقدم مضطربة جدًا، كما تراها في (الإنصاف)(1/ 327 - 328) وغيره من الكتب المعتمدة.
ومع اضطرابها؛ فليس في شيء منها التصريح بأن المسلم يكفر بمجرد ترك الصلاة.
وإذ الأمر كذلك؛ فيجب حمل الروايات المطلقة عنه على الروايات المقيدة، والمبينة لمراده رحمه الله، وهي ما تقدم نقله عن ابنه عبد الله.
ولو فرضنا أن هناك رواية صريحة عنه في التكفير بمجرد الترك، وجب تركها، والتمسك بالروايات الأخرى لموافقتها لهذا الحديث الصحيح الصريح في خروج تارك الصلاة من النار بإيمانه ولو مقدار ذرة.
وبهذا صرح كثير من علماء الحنابلة المحققين، كابن قدامة المقدسي، كما تقدم في نقل أبي الفرج عنه
ونص كلام ابن قدامة (2):
(1) انظر مقدمة شيخنا الألباني على كتابه المعطار "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم"(ص 52، 55. طبعة المعارف).
(2)
وانظر كتاب "منح الشفا الشافيات"(103) للبهوتي (ع).
(وإن ترك شيئًا من العبادات الخمسة تهاونًا لم يكفر).
كذا في كتابه (المقنع) ونحوه في (المغني)(2/ 298 - 302)، في بحث طويل له، ذكر الخلاف فيه وأدلة كل ثم انتهى إلى هذا الذي في (المقنع).
وهو الحق الذي لا ريب فيه وعليه مؤلفًا (الشرح الكبير) و (الإنصاف) كما تقدم.
وإذا عرفت الصحيح من قول أحمد فلا يرد عليه ما ذكره السبكي في ترجمة الإمام الشافعي، حيث قال في (طبقات الشافعية الكبرى) (1/ 220):
(حكي أن أحمد ناظر الشافعي في تارك الصلاة، فقال له الشافعي: يا أحمد أتقول: إنه يكفر؟ قال: نعم، قال: إن كان كافرًا فبم يسلم؟ قال: يقول: لا إله إلا الله محمدًا رسول الله، قال: فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه، قال: يسلم بأن يصلي، قال: صلاة الكافر لا تصح ولا يحكم بالإسلام بها فانقطع أحمد وسكت)!!!
فأقول: لا يرد هذا على الإمام أحمد رحمه الله لأمرين:
أحدهما: أن الحكاية لا تثبت، وقد أشار إلى ذلك السبكي رحمه الله بتصديره إياها بقول:(حُكيَ) فهي منقطعة.
والآخر: أنه ذُكر بناء على القول بأن أحمد يكفر المسلم بمجرد ترك الصلاة، وهذا لم يثبت عنه -كما تقدم بيانه-.
وإنما يرد هذا على بعض المشايخ الذين لا يزالون يقولون بالتكفير بمجرد الترك وأملي أنهم سيرجعون عنه بعد أن يقفوا على هذا الحديث الصحيح -الذي بنينا هذه الرسالة عليه-، وعلى قول أحمد -وغيره من كبار أئمة الحنابلة- الموافق له.
فإن تكفير المسلم الموحد بعمل يصدر منه غير جائز، حتى يتبين منه أنه جاحد، ولو لبعض ما شرع الله، كالذي يدعى إلى الصلاة وإلا قُتل -كما تقدم-.
ويعجبني بهذه المناسبة ما نقله الحافظ في (الفتح)(12/ 300) عن الغزالي أنه قال: (والذي ينبغي الاحتراز منه: التكفير ما وجد إليه سبيلًا فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة، أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد).
هذا وقد بلغني أن (بعضهم) لما أوقف على هذا الحديث شكك في دلالته على نجاة المسلم التارك للصلاة من الخلود في النار مع الكفار، وزعم أنه ليس له ذكر في كل الدفعات التي أخرجت من النار.
وهذه مكابرة عجيبة، تذكرنا بمكابرة بعض متعصبة المذاهب في رد دلالات النصوص انتصارًا للمذهب فإن الحديث صريح في أن الدفعة الأولى شملت المصلين بعلامة أن النار لم تأكل وجوههم، فما بعدها من الدفعات ليس فيها مصلون بداهة.
فإن لم ينفع مثل هذا بعض المقلدين الجامدين، فليس لنا إلا أن نقول:{سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} .
والخلاصة:
أن حديثنا هذا -حديث الشفاعة- حديث عظيم بكثير من دلالاته ومعانيه؛ من ذلك -كما قدمت- دلالته القاطعة على أن تارك الصلاة -مع إيمانه بوجوبها- لا يخرج من الملة، ولا يخلد في النار مع الكفرة والمشركين.
ولذلك فإني أرجو مخلصًا كل من وقف على هذه الرسالة المتضمنة هذا الحديث -وغيره مما في معناه- أن يتراجع عن تكفير المسلمين التاركين للصلاة مع إيمانهم بها، والموحدين لله تبارك وتعالى؛ فإن
تكفير المسلم أمر خطير جدًا -كما تقدم-، وعليهم -فقط- أن يذكروا بعظمة الصلاة في الإسلام، بما جاء من ذلك في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية الصحيحة؛ فإن الحكم قد خرج -مع الأسف- من أيدي العلماء فهم -لذلك- لا يستطيعون أن ينفذوا حكم الكفر والقتل في تارك واحد للصلاة، بل جمع من التاركين ولو في دولتهم، فضلًا عن الدول الإسلامية الأخرى!
فإن قتل التارك للصلاة بعد دعوته إليها، إنما كان لحكمة ظاهرة، وهو لعله يتوب إذا كان مؤمنًا بها، فإذا آثر القتل عليها دل ذلك على أن تركه كان عن جحد، فيموت -والحالة هذه- كافرًا، كما تقدم عن ابن تيمية، فامتناعه منها في هذه الحالة هو الدليل على خروجه، من الملة وهذا مما لا سبيل إليه اليوم مع الأسف.
فليقنع العلماء -إذن- من الوجهة النظرية بما عليه جمهور أئمة المسلمين بعدم تكفير تارك الصلاة، مع إيمانه بها.
وقد قدمنا الدليل القاطع على ذلك من السنة الصحيحة فلا عذر لأحد بعد ذلك.
{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} .
تنبيه: سبق النقل (ص 57 - 58) عن ابن قدامة وهو رحمه الله من جملة الذين فاتهم الإستدلال بهذا الحديث الصحيح للمذهب الصحيح في عدم تكفير تارك الصلاة كسلًا!
لكن العجيب أنه ذكر حديثًا آخر لو صح لكان قاطعًا للخلاف؛ لأن فيه أن مولى للأنصار مات، وكان يصلي ويدع، ومع ذلك أمر صلى الله عليه وسلم بغسله والصلاة عليه، ودفنه!
وهو وإن كان قد سكت عنه؛ فإنه قد أحسن بذكره مع إسناده من رواية الخلال، الأمر الذي مكنني من دراسته، والحكم عليه بما يستحق من الضعف والنكارة، ولذلك أودعته في كتابي (سلسلة الأحاديث الضعيفة)(6036).
تنبيه ثان:
بعد كتابة ما تقدم بأيام، أطلعني بعض إخواني على كتاب هام بعنوان:(فتح من العزيز الغفار بإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار) تأليف عطاء بن عبد اللطيف أحمد، ففرحت به فرحًا كبيرًا، وازداد سروري حينما قرأته، وتصفحت بعض فصوله، وتبين لي أسلوبه العلمي، وطريقته في معالجة الأدلة المختلفة، التي منها -بل هي أهمها- تخريج الأحاديث، وتتبع طرقها وشواهدها، وتمييز صحيحها من ضعيفها، ليتسنى له بعد ذلك إسقاط ما لا يجوز الاشتغال به لضعفها، والاعتماد على ما ثبت منها، ثم الإستدلال به، أو الجواب عنه.
وهذا ما صنعه الأخ المؤلف -جزاه الله خيرًا- خلافًا لبعض المؤلفين الذين يحشرون كل ما يؤيدهم دون أن يتحروا الصحيح فقط، كما فعل الذين ردوا علي في مسألة وجه المرأة من المؤلفين في ذلك؛ من السعوديين، والمصريين، وغيرهم.
أما هذا الأخ (عطاء) فقد سلك المنهج العلمي في الرد على المكفرين؛ فتتبع أدلتهم، وذكر ما لها وما عليها، ثم ذكر الأدلة المخالفة لها على المنهج نفسه، ووفق بينها وبين ما يخالفها بأسلوب رصين متين، وإن كان يصحبه -أحيانًا- شيء من التساهل في التصحيح باعتبار الشواهد، ثم التكلف في التوفيق بينه وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على كفر تارك الصلاة؛ كما فعل في حديث أبي الدرداء في الصلاة: (
…
فمن تركها فقد خرج من الملة)؛ فإنه بعد أن تكلم عليه، وبين ضعف إسناده، عاد فقواه بشواهده.
وهي في الحقيقة شواهد قاصرة لا تنهض لتقوية هذا الحديث، ثم أغرب فتأول الخروج المذكور فيه بأنه خروج دون الخروج!!
وله غير ذلك من التساهل والتأويل، كالحديث المخرج في (الضعيفة)(6037).
والحق: أن كتابه نافع جدًا في بابه، فقد جمع كل ما يتعلق به سلبًا أو إيجابًا، قبولًا أو رفضًا، دون تعصب ظاهر منه لأحد أو على أحد.
وأحسن ما فيه الفصل الأول من الباب الثاني وهو كما قال: (في ذكر أدلة خاصة تدل على أن تارك الصلاة لا يخرج من الملة) وعدد أدلته المشار إليها اثنا عشر دليلًا.
ولقد ظننت حين قرأت هذا العنوان في مقدمة كتابه، أن منها حديث الشفاعة هذا، لأنه قاطع للنزاع عند كل منصف -كما سبق بيانه-، ولكنه -مع الأسف- قد فاته، كما فات غيره من المتأخرين أو المتقدمين على ما سلف ذكره.
غير أنه لا بد لي من التنويه بدليل من أدلته، لأهميته، وغفلة المكفرين عنه، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
(إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق
…
) الحديث؛ وفيه ذكر التوحيد، والصلاة، وغيرها من الأركان الخمسة المعروفة والواجبات ثم قال صلى الله عليه وسلم: (
…
فمن انتقص منهن شيئًا فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن، فقد نبذ الإسلام وراءه).
وقد خرجه المومي إليه تخريجًا جيدًا، وتتبع طرقه وبين أن بعضها صحيح الإسناد، ثم بين دلالته الصريحة على عدم خروج تارك الصلاة من الملة.
وقد كنت خرجت هذا الحديث قديمًا في كتابي (سلسلة الأحاديث الصحيحة)(رقم: 333) منذ أكثر من ثلاثين سنة واستفاد هو منه كما هو شأن المتأخر مع المتقدم، ولكنه لم يشر إلى ذلك أدنى إشارة، ولقد كان يحسن به ذلك، ولا سيما أنه خصني بالنقد في بعض الأحاديث، وذلك مما لا يضرني ألبتة، بل إنه لينفعني أصاب أم أخطأ، وليس الآن مجال تفصيل القول في ذلك.
وقال الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله:
حكم تارك الصلاة
إن هذه المسألة من مسائل العلم الكبرى، وقد تنازع فيها أهل العلم سلفًا وخلفًا، فقال الإمام أحمد بن حنبل:"تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجًا من الملة، يقتل إذا لم يتب ويصل".
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: "فاسق ولا يكفر".
ثم اختلفوا فقال مالك والشافعي: "يقتل حدًا" وقال أبو حنيفة: "يعزر ولا يقتل".
وإذا كانت هذه المسألة من مسائل النزاع، فالواجب ردها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه} [الشورى: من الآية 10]. وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: من الآية 59].
ولأن كل واحد من المختلفين لا يكون قوله حجة على الآخر؛ لأن كل واحد يرى أن الصواب معه، وليس أحدهما أولى بالقبول من الآخر، فوجب الرجوع في ذلك إلى حكم بينهما وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا رددنا هذا النزاع إلى الكتاب والسنة، وجدنا أن الكتاب والسنة كلاهما يدل على كفر تارك الصلاة، الكفر الأكبر المخرج عن الملة.
أولًا: من الكتاب:
قال تعالى في سورة التوبة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين} [التوبة: من الآية 11].
وقال في سورة مريم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59، 60].
فوجه الدلالة من الآية الثانية -آية سورة مريم- أن الله قال في المضيعين للصلاة، المتبعين للشهوات:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} فدل على أنهم حين إضاعتهم للصلاة واتباع الشهوات غير مؤمنين.
ووجه الدلالة من الآية الأولى -آية سورة التوبة- أن الله تعالى اشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين ثلاثة شروط:
* أن يتوبوا من الشرك.
* أن يقيموا الصلاة.
* أن يؤتوا الزكاة.
فإن تابوا من الشرك، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، فليسوا بإخوة لنا. وإن أقاموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، فليسوا بإخوة لنا.
والأخوة في الدين لا تنتفي إلا حيث يخرج المرء من الدين بالكلية، فلا تنتفي بالفسوق والكفر دون الكفر.
ألا ترى إلى قوله تعالى في آية القتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: من الآية 178]. فجعل الله القاتل عمدًا أخًا للمقتول، مع أن القتل عمدًا من أكبر الكبائر، لقول الله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
ثم ألا تنظر إلى قوله تعالى في الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، إلى قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم} [الحجرات: 10]. فأثبت الله تعالى الأخوة بين الطائفة المصلحة والطائفتين المقتتلتين، مع أن قتال المؤمن من الكفر، كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"(1). لكنه كفر لا يخرج من الملة، إذ لو كان مخرجًا من الملة ما بقيت الأخوة الإيمانية معه. والآية الكريمة قد دلت على بقاء الأخوة الإيمانية مع الاقتتال.
وبهذا علم أن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة، إذ لو كان فسقًا أو كفرًا دون كفر، ما انتفت الأخوة الدينية به، كما لم تنتف بقتل المؤمن وقتاله.
(1) رواه البخاري، كتاب الأيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، (48) ومسلم، كتاب الأيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق"(64).
فإن قال قائل: هل ترون كفر تارك إيتاء الزكاة كما دل عليه مفهوم آية التوبة؟
قلنا: كفر تارك إيتاء الزكاة قال به بعض أهل العلم، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ولكن الراجح عندنا أنه لا يكفر، لكنه يعاقب بعقوبة عظيمة، ذكرها الله تعالى في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، ومنها ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عقوبة مانع الزكاة، وفي آخره:"ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار". وقد رواه مسلم بطوله في: باب "إثم مانع الزكاة"(1) ، وهو دليل على أنه لا يكفر، إذ لو كان كافرًا ما كان له سبيل إلى الجنة.
فيكون منطوق هذا الحديث مقدمًا على مفهوم آية التوبة؛ لأن المنطوق مقدم على المفهوم كما هو معلوم في أصول الفقه.
ثانيًا: من السنة:
1 -
قال صلى الله عليه وسلم: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة".
رواه مسلم في كتاب الإيمان عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم (2).
2 -
وعن بريده بن الحصيب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه (3).
والمراد بالكفر هنا: الكفر المخرج عن الملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة فصلًا بين المؤمنين والكافرين، ومن المعلوم أن ملة الكفر غير ملة الإسلام، فمن لم يأت بهذا العهد فهو من الكافرين.
3 -
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع." قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا"(4).
4 -
وفي صحيح مسلم أيضًا من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويعلنونكم". قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال:"لا ما أقاموا فيكم الصلاة"(5).
ففي هذين الحديثين الأخيرين دليل على منابذة الولاة وقتالهم بالسيف إذا لم يقيموا الصلاة، ولا تجوز منازعة الولاة وقتالهم إلا إذا أتوا كفرًا صريحًا، عندنا فيه برهان من الله تعالى، لقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه:"دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله". قال: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا
(1) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، (987).
(2)
رواه مسلم، كتاب الأيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، (82).
(3)
رواه أحمد (5/ 346) والترمذي، كتاب الأيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، (2621) وقال: حديث حسن صحيح غريب. والنسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة (463) وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة (1079).
(4)
رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، (1854).
(5)
رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم (1855).
عندكم من الله فيه برهان" (1).
وعلى هذا فيكون تركهم للصلاة الذي علق عليه النبي صلى الله عليه وسلم، منابذتهم وقتالهم بالسيف كفرًا بواحًا عندنا فيه من الله برهان.
ولم يرد في الكتاب والسنة أن تارك الصلاة ليس بكافر أو أنه مؤمن، وغاية ما ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وثواب ذلك، وهي إما مقيدة بقيود في النص نفسه يمتنع معها أن يترك الصلاة، وإما واردة في أحوال معينة يعذر الإنسان فيها بترك الصلاة، وإما عامة فتحمل على أدلة كفر تارك الصلاة؛ لأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة، والخاص مقدم على العام.
فإن قال قائل: ألا يجوز أن تحمل النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة على من تركها جاحدًا لوجوبها؟
قلنا: لا يجوز ذلك لأن فيه محذورين:
الأول: إلغاء الوصف الذي اعتبره الشارع وعلق الحكم به.
فإن الشارع علق الحكم بالكفر على الترك دون الجحود ورتب الأخوة في الدين على إقام الصلاة، دون الإقرار بوجوبها، فلم يقل الله تعالى: فإن تابوا وأقروا بوجوب الصلاة، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: بين الرجل وبين الشرك والكفر جحد وجوب الصلاة. أوالعهد الذي بيننا وبينهم الإقرار بوجوب الصلاة، فمن جحد وجوبها فقد كفر.
ولو كان هذا مراد الله تعالى ورسوله لكان العدول عنه خلاف البيان الذي جاء به القرآن الكريم، قال الله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: من الآية 89]. وقال تعالى مخاطبًا نبيه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النحل: من الآية 44].
الثاني: اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطًا للحكم:
فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه سواء صلى أم ترك.
فلوا صلى شخص الصلوات الخمس وأتى بكل ما يعتبر لها من شروط، وأركان، وواجبات، ومستحبات، لكنه جاحد لوجوبها بدون عذر له فيه لكان كافرًا مع أنه لم يتركها.
فتبين بذلك أن حمل النصوص على من ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها غير صحيح، وأن الحق أن تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، كما جاء ذلك صريحًا فيما رواه ابن أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تتركوا الصلاة عمدًا، فمن تركها عمدًا متعمدًا فقد خرج من الملة".
وأيضًا فإننا لو حملناه على ترك الجحود لم يكن لتخصيص الصلاة في النصوص فائدة، فإن هذا الحكم عام في الزكاة، والصيام، والحج، فمن ترك منها واحدًا جاحدًا لوجوبه كفر إن كان غير معذور بجهل.
وكما أن كفر تارك الصلاة مقتضى الدليل السمعي الأثري، فهو مقتضى الدليل العقلي النظري.
(1) رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"سترون بعدي أمورًا تنكرونها"(7055، 7056) ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، (1709 م).
فكيف يكون عند الشخص إيمان مع تركه للصلاة التي هي عمود الدين، والتي جاء من الترغيب في فعلها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يقوم بها ويبادر إلى فعلها. وجاء من الوعيد على تركها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يحذر من تركها وإضاعتها؟ فتركها مع قيام هذا المقتضى لا يبقي إيمانًا مع التارك.
فإن قال قائل: ألا يحتمل أن يراد بالكفر في تارك الصلاة كفر النعمة لا كفر الملة؟ أو أن المراد به كفر دون الكفر الأكبر؟ فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان بالناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، النياحة على الميت". وقوله: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" ونحو ذلك.
قلنا: هذا الاحتمال والتنظير له لا يصح لوجوه:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة حدًا فاصلًا بين الكفر والإيمان، وبين المؤمنين والكفار. والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره، فالمحدودان متغايران لا يدخل أحدهما في الآخر.
الثاني: أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، فوصف تاركها بالكفر يقتضي أنه الكفر المخرج من الإسلام؛ لأنه هدم ركنًا من أركان الإسلام، بخلاف إطلاق الكفر على من فعل فعلًا من أفعال الكفر.
الثالث: أن هناك نصوصًا أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفرًا مخرجًا من الملة؛ فيجب حمل الكفر على ما دلت عليه لتتلاءم النصوص وتتفق.
الرابع: أن التعبير بالكفر مختلف.
ففي ترك الصلاة قال: "بين الرجل وبين الشرك والكفر" فعبر بـ "أل" الدالة على أن المراد بالكفر حقيقة الكفر بخلاف كلمة "كفر" منكرًا أو كلمة "كفر" بلفظ الفعل، فإنه دال على أن هذا من الكفر، أو أنه كفر في هذه الفعلة وليس هو الكفر المطلق المخرج عن الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم"(ص70 طبعة السنة المحمدية) على قوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر".
قال: "فقوله: "هما بهم كفر" أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس، فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرًا الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر. كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنًا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته. وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة" وبين كفر منكر في الإثبات انتهى كلامه.
فإذا تبين أن تارك الصلاة بلا عذر كافر كفرًا مخرجًا من الملة بمقتضى هذه الأدلة، كان الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد ابن حنبل وهو أحد قولي الشافعي كما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَات} [مريم: من الآية 59]. وذكر ابن القيم في "كتاب الصلاة" أنه أحد الوجهين في مذهب الشافعي، وأن الطحاوى نقله عن الشافعي نفسه.
وعلى هذا القول جمهور الصحابة، بل حكى غير واحد إجماعهم عليه.
قال عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة". رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرطهما (1).
(1) رواه الترمذي، كتاب الأيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، (2622) والحاكم (1/ 7).
وقال إسحاق بن راهويه الإمام المعروف: "صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر".
وذكر ابن حزم أنه قد جاء عن عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة، قال:"ولا نعلم لهؤلاء مخالفًا من الصحابة". نقله عنه المنذري في "الترغيب والترهيب" وزاد من الصحابة: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبا الدرداء رضي الله عنهم. قال:"ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم بن عتيبة، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب وغيرهم". أ. هـ.
فإن قال قائل: ما هو الجواب عن الأدلة التي استدل بها من لا يرى كفر تارك الصلاة؟
قلنا: الجواب: أن هذه الأدلة لم يأت فيها أن تارك الصلاة لا يكفر، أو أنه مؤمن، أو أنه لا يدخل النار، أو أنه في الجنة. ونحو ذلك.
ومن تأملها وجدها لا تخرج عن خمسة أقسام كلها لا تعارض أدلة القائلين بأنه كافر.
القسم الأول: أحاديث ضعيفة غير صريحة حاول موردها أن يتعلق بها ولم يأت بطائل.
القسم الثاني: ما لا دليل فيه أصلًا للمسألة.
مثل استدلال بعضهم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: من الآية 48]. فإن معنى قوله تعالى: {مَا دُونَ ذَلِكَ} ما هو أقل من ذلك، وليس معناه ما سوى ذلك، بدليل أن من كذب بما أخبر الله به ورسوله، فهو كافر كفرًا لا يغفر وليس ذنبه من الشرك.
ولو سلمنا أن معنى {مَا دُونَ ذَلِكَ} ما سوى ذلك، لكان هذا من باب العام المخصوص بالنصوص الدالة على الكفر بما سوى الشرك، والكفر المخرج عن الملة من الذنب الذي لا يغفر وإن لم يكن شركًا.
القسم الثالث: عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة.
مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار" وهذا أحد ألفاظه، وورد نحوه من حديث أبي هريرة وعبادة بن الصامت وعتبان بن مالك رضي الله عنهم.
القسم الرابع: عام مقيد بما لا يمكن معه ترك الصلاة.
مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان بن مالك: "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" رواه البخاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار" رواه البخاري.
فتقييد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد وصدق القلب يمنعه من ترك الصلاة، إذ ما من شخص يصدق في ذلك ويخلص إلا حمله صدقه وإخلاصه على فعل الصلاة ولا بد، فإن الصلاة عمود الإسلام، وهي الصلة بين العبد وربه، فإذا كان صادقًا في ابتغاء وجه الله، فلا بد أن يفعل ما يوصله إلى ذلك، ويتجنب ما يحول بينه وبينه، وكذلك من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من