الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذ جاءوه فأخبروه أن قد استوت كبّر (1)، فلعل الأئمة -وفقهم الله- ينتبهون لهذا، والله أعلم.
الحكم الحادي عشر في صلاة المنفرد خلف الصف
إذا دخل المسجد فوجد أن الصف قد تم ولم يجد له مكانًا فهل يصلي خلف الصف منفردًا؟ أو يجذب رجلًا يقف معه؟ أو ينتظر حتى يأتي أحد؟ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، أذكره فيما يلي، ثم أبين القول المختار، بعون الله تعالى.
فالقول الأول: أن المنفرد يكون صفًا وحده، وصلاته صحيحة. وهذا مذهب الجمهور -كما حكاه صاحب بداية المجتهد- (2) ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة.
ومن أدلة هولاء: حديث أبي بكر رضي الله عنه وفيه: (فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف)(3) قال البغوي رحمه الله: (في هذا الحديث أنواع من الفقه، منها: أن من صلى خلف الصف منفردًا بصلاة الإمام تصح صلاته؛ لأن أبا بكرة ركع خلف الصف، فقد أتى بجزء من الصلاة خلف الصف، ثم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وأرشده في المستقبل إلى ما هو أفضل بقوله: "ولا تعد"، وهو نهي إرشاد، لا نهي تحريم، ولو كان للتحريم لأمره بالإعادة)(4).
القول الثاني: أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة، وهو مذهب الإمام أحمد، ورواية عن الإمام مالك -ما في الإفصاح لابن هبيرة- (5) وبه قال جمع من الفقهاء والمحدثين.
واستدل هولاء بحديث وابصة بن معبد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة (6).
وله شاهد من حديث علي بن شيبان قال: خرجنا قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، وصلينا خلفه، فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فرأى رجلًا خلف الصف وحده، فوقف عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى انصرف، فقال:"استقبل صلاتك، فلا صلاة للذي خلف الصف"(7).
وقد نقل عبد الله بن أحمد في المسند بعد حديث وابصة قال: (وكان أبي يقول بهذا الحديث)(8).
القول الثالث: التفصيل، وهو أنه إن وجد محلًا في الصف فصلى وحده لم تصح، وإن اجتهد ولم يجد جاز أن يقف وحده. وهذا قال به الحسن البصري، كما في المصنف لابن أبي شيبة والبويطي، كما ذكره الشوكاني في نيل الأوطار، وابن قدامة في المغني، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وأيده كما في
(1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 158)، وانظر المنتقى للباجي (1/ 279)، وشرح السنة للبغوي (3/ 369).
(2)
بداية المجتهد (1/ 187).
(3)
أخرجه البخاري (750)، وأبو داود (684)، واللفظ له.
(4)
شرح السنة (3/ 338).
(5)
الإفصاح (1/ 54).
(6)
أخرجه أبو داود (2/ 376)، والترمذي (3/ 22)، وقال: حديث حسن، وأخرجه ابن ماجه (1/ 321)، وأحمد (4/ 228)، وحسنه كما في رواية الأثرم، كما نقله الحافظ في التلخيص (2/ 38).
(7)
أخرجه ابن ماجه (1/ 320)، وأحمد (4/ 23)، والبيهقي (3/ 105)، وابن حبان (3/ 312)، وغيرهم، وهو حديث صحيح لغيره، وله شواهد وطرق لا تخلو من مقال. راجع الإرواء (2/ 327).
(8)
انظر: المسند (4/ 228).
الفتاوى، والقواعد النورانية والمسائل الماردينية؛ وكذا ابن القيم، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، رحم الله الجميع (1).
وهذا هو المختار -إن شاء الله- لما يلي:
أن العلماء مجمعون على أن واجبات الصلاة وأركانها تسقط عند عدم القدرة، فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة. وهذه قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة.
فالقيام ركن في صلاة الفرض، فإذا لم يستطع القيام صلّى قاعدًا، وهكذا الركوع والسجود وغيرها، والمصافة ليست من الأركان ولا من الواجبات. ولا ريب أن العجز عن المصافة عذر، ومن القواعد المقررة من نصوص الشريعة. أن الحكم يتغير إذا ما طرأ على صاحب الحكم عذر، فهذا العريان يصلي على حاله إذا لم يجد ما يستر عورته، والذي اشتبهت عليه القبلة يصلي إلى أي جهة، ولا يلزمه الإعادة إذا وجد سترة أو تبينت له القبلة، وهكذا ..
إن عمومات الشريعة تؤيد هذا القول، كقوله تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، وقوله تعالى:{لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعم"(2).
أن هذا القول فيه جمع بين الأدلة؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف"، محمول على ما إذا قصر في أداء الواجب، وهو الانضمام إلى الصف وسد الفرجة وأما إذا لم يجد فرجة فلا يحمل عليه الحديث، بدليل ما ذكرنا في الأمرين السابقين؛ لأنه ليس بمقصر، فتصح صلاته إن شاء الله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (وأما حديث أبي بكرة فليس فيه أنه صلى منفردًا خلف الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، فقد أدرك من الاصطفاف المأمور به ما يكون به مدركًا للركعة، فهو بمنزلة أن يقف وحده ثم يجيء آخر فيصافه، فإن هذا جائز باتفاق الأئمة
…
) (3). وعلى هذا فمن صلى جزءًا من صلاته خلف الصف ثم انضم إليه آخر لا يعد مصليًا خلف الصف منفردًا. وهذا ما فعله أبو بكرة رضي الله عنه. والأظهر في حديث أبي بكرة أن النهي في قوله صلى الله عليه وسلم: "زادك الله حرصًا، ولا تعد"، نهي عن الإسراع والسعي الشديد؛ لما تقدم أول الكتاب من النهي عن إتيان الصلاة في حالة الإسراع، ولا يمكن أن يعود إلى الركوع دون الصف، ولا للاعتداد بتلك الركعة، ولا سيما وقد فعل ذلك بعض الصحابة كأبي بكر، وزيد بن ثابت، وابن مسعود رضي الله عنهم وثبت هذا عنهم بأسانيد صحيحة (4).
ولا يجوز لمن لم يجد مكانًا في الصف أن يجذب رجلًا يقف معه لما يلي:
أن الحديث الوارد في الجذب ضعيف، وهو حديث وابصة، وفيه: "ألا دخلت في الصف أو جذبت
(1) المصنف لابن أبي شيبة (2/ 193)، ونيل الأوطار (3/ 229)، والمغني (3/ 56)، ومجموع الفتاوى (23/ 397)، والقواعد النورانية (ص 98، 99)، والاختيارات (ص 71)، والمسائل الماردينية (ص 84)، وأعلام الموقعين (2/ 21، 22)، والفتاوى السعدية (ص 169)، وما بعدها.
(2)
أخرجه مسلم (1337)، والنسائي (5/ 110، 111).
(3)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (23/ 397)، وانظر الفتاوى السعدية (ص 171).
(4)
انظر: إرواء الغليل (2/ 263، 264).
رجلًا يصلي معك" (1).
أن الجذب يفضي إلى إيجاد فرجة في الصف، والمشروع سدّ الفرج.
أن الجذب تصرف في المجذوب، وتشويش عليه، وتفويت لفضيلة الصف الأول وكونه خلف الإمام؛ لأن الغالب في الجذب أن يكون لمن هو خلف الإمام (2).
وإذا دخل اثنان وفي الصف فرجة فأيهما أفضل: وقوفهما معًا أو سد أحدهما الفرجة ووقف الآخر فذًا؟
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الراجح الاصطفاف مع بقاء الفرجة؛ لأن سد الفرجة مستحب، والاصطفاف واجب.
وفي هذا نظر؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "من وصل صفًا وصله الله ومن قطع صفًا قطعه الله"(3)، يفيد وجوب سد الفرجة، وعليه فالأولى في هذه الحالة أن يسد أحدهما الفرجة وينفرد الآخر، والله أعلم.
قال في عون المعبود: ("من وصل صفًا": بالحضور فيه، وسدّ الخلل منه. "ومن قطع صفًا": أي: بالغيبة، أو بعدم السد، أو بوضع شيء مانع)(4).
ومثل ما تقدم ما لو وقف اثنان في الصف ثم انصرف أحدهما لعذر، فإن الآخر يقف وحده على الصحيح، أو يقف عن يمين الإمام إن أمكن، ولا يجذب رجلًا، وأما قول صاحب المغني:(إنه يدخل في الصف، أو ينبه رجلًا يخرج معه، أو يقف عن يمين الإمام، فإن لم يمكن شيء من ذلك نوى الحدث)(5)، أقول: هذا فيه نظر، والصواب -إن شاء الله- أنه يتم الصلاة معهم ولو لم يقف معه أحد، ولا شيء عليه؛ لأنه معذور ولا تقصير منه، كما لو سبق إمامه الحدث فإن صلاته لا تبطل ببطلان صلاة إمامه، بل يستخلف على القول المختار في هذه المسألة، وما ذكره في المغني قول في المذهب. ومثل ذلك قول الشيخ منصور البهوتي في باب "صلاة الجمعة" من شرح الزاد:(وإن أحرم ثم زحم وأخرج عن الصف فصلى فذًا لم تصح)(6). وهذا مبني على القول بأن صلاة المنفرد خلف الصف لا تصح، وقد علمت أن المختار القول بالصحة لمن كان معذورًا بأن اجتهد ولم يجد مكانًا، وهذا الذي زحم أولى بالعذر، فصلاته معهم صحيحه، إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
واعلم أن الذين لا يجيزون صلاة المنفرد خلف الصف اختلفوا في بيان ماذا يفعل: فقال بعضهم: يجذب رجلًا. وقد علمت ضعف ذلك، وقال آخرون: يقف عن يمين الإمام، وهذا لا دليل عليه في هذه المسألة بالذات، وقد ورد أن أبا بكر وقف عن يمين الرسول صلى الله عليه وسلم في مرضه عليه الصلاة والسلام وهي قضية فردية. أضف إلى ذلك أن الصفوف قد تكون كثيرة واختراقها والوقوف عن يمين الإمام يحدث
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 145)، والبيهقي (3/ 105)، وأبو يعلى (2/ 245)، من طريق السري بن إسماعيل عن الشعبي عن وابصة، والسري بن إسماعيل: متروك، وقد توبع على هذه الزيادة بمتابعة واهية. فانظر "الإرواء"(2/ 326).
(2)
انظر تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله على فتح الباري (2/ 213)، وانظر الضعيفة (2/ 322).
(3)
تقدم تخريجه في الحكم العاشر.
(4)
عون المعبود (2/ 366).
(5)
المغني (3/ 55).
(6)
شرح الزاد بحاشية ابن قاسم (2/ 443).