الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصلاة؛ بدليل حديث ابن عباس رضي الله عنهما عندما بات عند خالته ميمونة، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فقام معه عن يساره، فجعله عن يمينه (1). ففيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم نوى الإمامة في أثناء الصلاة (2).
قال ابن عبد البر: (فيه رد على من لم يجز للمصلي أن يوم أحدًا إلا أن ينوي الإمامة مع الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو إمامة ابن عباس، وقد قام إلى جنبه فأتم به، وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الإمامة؛ إذ نقله عن شماله إلى يمينه)(3).
وهناك أدلة أخرى تفيد اقتداء الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينو الإمامة من أول الصلاة، فأتم بهم، ولم ينكر عليهم، فدل على أن نية الإمامة ليست شرطًا.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (ولا فرق بين الفريضة والنافلة؛ لأن الأصل التسوية بينهما في الأحكام، إلا ما خصه الدليل ولا مخصص هنا فيما أعلم، والله أعلم)(4). فإن لم يجد أحدًا يصلي طلب من الحاضرين أن يصلي أحدهم معه؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلًا يصلي وحده، فقال:"ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه"؟ فقام رجل فصلى معه (5).
وعموم الحديث يفيد أن المصلي مع الجماعة يصلي مع هذا المتأخر ولو كانت المغرب أو العصر، وسأذكر ذلك، إن شاء الله (6) أو يخرج إلى مسجد آخر فيصلي فيه إذا كان يطمع في إدراك جماعته، وقد ورد في صحيح البخاري أن الأسود بن يزيد النخعي -أحد كبار التابعين- كان إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر.
وقد أورد البخاري رحمه الله هذا الأثر في باب "فضل صلاة الجماعة"، وبين الحافظ ابن حجر أن البخاري قصد بإيراده في هذا الباب أن الفضل الوارد في صلاة الجماعة مقصور على من جمّع في المسجد، دون من جمّع في بيته -مثلًا-؛ لأن التجميع لو لم يكن مختصًا بالمسجد لجمّع الأسود في مكانه، ولم ينتقل إلى مسجد آخر؛ لطلب الجماعة (7).
فينبغي لمن فاتته الجماعة في مسجده أن يحرص على تحصيل ثوابها ولو في مسجد آخر؛ لا سيما إذا كان قريبًا من منزله لا يشق عليه، وفي وقتنا هذا كثرت المساجد في الأحياء، وقد يكون هناك فارق في وقت الإقامة بين مسجد ومسجد، مما يكون سببًا في إدراك الصلاة في مسجد آخر.
الحكم الثامن عشر إقامة جماعة غير معتادة لمن فاتتهم الصلاة
إذا دخل المصلي المسجد فوجد الإمام قد فرغ من الصلاة، أو في التشهد -كما مضى- فإن له أن يقيم جماعة ثانية هو ومن معه، ولا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى، لكن لا ينبغي للجماعة الثانية أن يصلوا إذا وجدوا الإمام في التشهد إلا بعد أن تنتهي الجماعة الأولى التي مع الإمام الراتب؛ لئلا تجتمع
(1) هذا قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري (699) وفي مواضع أخرى، ومسلم (763).
(2)
انظر فتح الباري (2/ 192).
(3)
التمهيد (13/ 210).
(4)
انظر فتح الباري (3/ 14).
(5)
المرجع السابق. والحديث يأتي تخريجه -إن شاء الله-.
(6)
انظر: الحكم التاسع عشر.
(7)
انظر فتح الباري (2/ 131).
جماعتان في مسجد، سواء كانت الجماعة الثانية مع الأولى في مكان واحد من المسجد، أو لا؛ لئلا يكون ذلك افتياتًا (1) على الإمام.
واعلم أن من تأمل مصادر الشريعة ومواردها وما اشتملت عليه من المصالح والرغبة في الاجتماع والائتلاف، وعدم التفريق والاختلاف؛ علم أن إقامة جماعة ثانية غير معتادة أولى من تفرقهم وصلاة كل واحد منهم منفردًا.
وقد دلت نصوص الشريعة على هذا، وسأذكر -بعون الله- بعض هذه الأدلة، وشيئًا من كلام أهل العلم في هذه المسألة المهمة:
فعن أُبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
…
وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل" (2).
فدل الحديث بعمومه على أن من صلى مع رجل فهو أزكى من صلاته منفردًا، فيدخل في ذلك إقامة جماعة ثانية لمن فاتتهم الجماعة مع الإمام الراتب.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلًا يصلي وحده، فقال:"ألا رجل يتصدق على هذا، فيصلي معه؟ فقام رجل فصلى معه"(3).
وقد بوب ابن خزيمة على هذا الحديث فقال: "باب الرخصة في الصلاة جماعة في المسجد الذي قد جمّع فيه ضدّ قول من زعم أنهم يصلون فرادى إذا صلى في المسجد جماعة مرة"(4).
قال البغوي: (ففيه دليل على أنه يجوز لمن صلى في جماعة أن يصليها ثانيًا مع جماعة آخرين، وأنه يجوز إقامة الجماعة في مسجد مرتين، وهو قول غير واحد من الصحابة والتابعين)(5).
وقول المانعين: إنها صلاة متنفل وراء مفترض فيجوز تكرارها، وأما بمفترض فلا يجوز. فهذا فيه نظر قوي؛ فإنها إذا جازت بمفترض ومتنفل فما الذي ينفي جوازها بمفترضين؟ ومن ادعى الفرق فعليه الدليل (6).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"(7).
فهذا الحديث نص صريح في فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولم يرد تقييد ذلك بألا تكون جماعة ثانية، بل جاء مطلقًا في كل صلاة الجماعة، والرجل مع الرجل جماعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل التضعيف لغير الفذ، فعلم أن ما زاد على الفذ فهو جماعة، فإذا أقام رجلان جماعة ثانية حصل لهما التضعيف -إن شاء الله- لهذا الحديث، والله أعلم.
(1) افتات عليه في الأمر: حكم، وكل من أحدث دونك شيئًا فقد افتات عليك فيه. "اللسان"(2/ 69).
(2)
أخرجه أبو داود (2/ 259)، والنسائي (2/ 104) وإسناده صحيح، قاله الألباني.
(3)
أخرجه أبو داود (2/ 282) وإسناده صحيح.
(4)
صحيح ابن خزيمة (3/ 57).
(5)
شرح السنة (3/ 438)، وانظر شرح المهذب (4/ 222).
(6)
انظر تحفة الأحوذي (2/ 11).
(7)
أخرجه البخاري (619)، ومسلم (650).
ولقد كان السلف الصالح من هذه الأمة أفهم منا لمدارك النصوص وأعلم بمقاصد الشرع، فجاء عن عدد منهم إقامة جماعة ثانية في مسجد قد صلى فيه، حين فاتتهم الجماعة الأولى. فقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه دخل المسجد وقد صلوا فجمّع بعلقمة ومسروق والأسود (1).
وجاء أنس رضي الله عنه إلى مسجد قد صُلّي فيه فأذن وأقام، وصلى جماعة (2).
وعن ابن جريج: قلت لعطاء: نفر دخلوا مسجد مكة خلاف الصلاة -أي: بعد الصلاة- ليلًا أو نهارًا أو يؤمهم أحدهم؟ قال: نعم، وما بأس ذلك؟ (3).
وهناك آثار وأقوال أخرى تفيد جواز ذلك (4)، وفيما ذكر كفاية إن شاء الله.
وأما ما ورد عن السلف من كراهية جماعة ثانية وأنهم يصلون فرادى فلعله محمول على ما إذا اعتاد أناس إقامة جماعة دائمة في مسجد لا إمام راتب، يصلون وحدهم، ويخرجون وحدهم، فهذا لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى تفريق الكلمة، والقضاء على وحدة المسلمين واجتماعهم، كما أنه سبب لاختلاف القلوب، والتهاون بالصلاة مع الإمام، ولئلا يرغب رجال عن إمامة رجل فيجدون غيره إمامًا، فيؤدي ذلك على تقليل الجماعة مع الإمام الراتب وهذا ممنوع (5).
ولا ريب أن إقامة جماعة ثانية بصفة دائمة لم يكن في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حدث ذلك فيما بعد، فيكون من البدع، كما نص على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (6).
ومن الملاحظ أن إقامة جماعة ثانية لا يكون في الغالب من قوم كثر، بل يصلي واحد بمثله أو باثنين أو ثلاثة، ولا أظن أن أحدًا منهم يجري على باله تفريق الكلمة، أو التأخر عن الجماعة مع الإمام الراتب، ثم إن مثل هذه الجماعة إن وجدت في مساجدنا فهي في الغالب من عابري سبيل ليسوا من جماعة هذا المسجد الذي صلوا فيه، فالقول بجواز الجماعة الثانية على الصفة المذكورة وجيه، لما ذكر. والله أعلم.
أما ما يقع في المساجد التي على ظهر الطريق مما ليس فيه مؤذن راتب، ولا إمام معلوم، فيصلي فيه المارة جماعة جماعة فهذا لا محذور فيه؛ لأنه ليس فيه المعنى الذي تقدم من تفرق الكلمة، وأن يرغب رجال عن إمامة رجل فيجدون غيره إمامًا. قال النووي:(إذا لم يكن للمسجد إمام راتب فلا كراهة في الجماعة الثانية والثالثة بالإجماع)(7).
وقد استدل المانعون من إقامة جماعة ثانية في المسجد بحديث أبي بكرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة، فوجد الناس قد صلوا، فمال إلى منزله، فجمع أهله فصلى بهم (8).
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 323). قال في بلوغ الأماني (5/ 344): إسناده صحيح.
(2)
أخرجه البخاري تعليقًا (2/ 131 الفتح). قال الحافظ في تغليق التعليق (2/ 277): هنا إسناد صحيح موقوف. اهـ.
(3)
المحلى لابن حزم (4/ 237، 238).
(4)
المصدر السابق، وانظر: فتاوى ابن باز (12/ 165 - 173) وابن عثيمين (15/ 93).
(5)
انظر الأم للشافعي (1/ 180).
(6)
مجموع الفتاوى (23/ 258).
(7)
المجموع شرح المهذب (4/ 222).
(8)
أخرجه الطبراني في الأوسط (5/ 304) وقال: "لهم لم يرو هنا الحديث عن خالد الحذّاء إلا أبو مطيع معاوية بن يحيى، ولا يروى عن أبي بكرة إلا بهذا الإسناد" قال في التقريب: "معاوية بن يحيى الطرابلسي، أبو مطيع،
…
صدوق له =