الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصل لها في الشرع، مع ما فيها من الإشغال عن الذكر، ولم يفعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من سلف هذه الأمة، والمصافحة إنما تشرع عند الملاقاة، لا في أثناء المجالسة.
ومثل ذلك ما يفعله بعض المصلين من الإشارة بالأكف يمنة ويسرة مع التسليم فهو بدعة؛ لأن إحداث هيئة في العبادات لم يرد فيها دليل داخل في مسمى البدعة (1)، والله أعلم.
الحكم الخامس عشر في الذكر بعد الصلاة
للذكر بعد الصلاة شأن عظيم، حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وركب فيه قولًا وفعلًا، وقد دل على ذلك مجمل قوله تعالى:{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] قال ابن عباس رضي الله عنهما (أمره أن يسبح في أدبار الصلوات كلها)(2).
ولذا قال الإمام النووي رحمه الله: (أجمع العلماء على استحباب الذكر بعد الصلاة، وجاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة في أنواع منه متعددة)(3). والذكر بعد الصلاة من المواضع التي يتأكد فيها الذكر (4). فينبغي للمسلم أن يتعلم هذه الأذكار، وأن يحرص على الإتيان بها في مواضعها، وألا تأخذه العجلة، فيتركها، فيفوته خير كثير، كما عليه كثير من الناس اليوم. وسأذكر شيئًا من هذه الأذكار بسياق أحاديثها؛ ليكون المسلم على بصيرة من ذلك -إن شاء الله تعالى- وليحرص على التقيد بالألفاظ الواردة عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك أكمل في التعبد.
روى ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال:"اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام"، وفي رواية لحديث عائشة رضي الله عنها:"يا ذا الجلال والإكرام"، قيل للأوزاعي -وهو أحد رواة حديث ثوبان-: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: استغفر الله، استغفر الله" (5).
وأما زيادة لفظ (وتعاليت) بعد لفظ تباركت فهي وإن كانت من ألفاظ الثناء على الله تعالى ووردت في أحاديث أخرى، إلا أنه لا أصل لها في هذا الموضع. والله أعلم.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"(6).
وفى رواية سندها صحيح: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، ثلاث مرات (7). وعن أبي الزبير قال: كان ابن الزبير رضي الله عنه يقول في دبر كل صلاة حين يسلم:
(1) انظر: مجموع الفتاوى (23/ 339)، فتاوى العز بن عبد السلام ص (46، 47)، ورسالة:"تمام الكلام في بدعية المصافحة بعد السلام".
(2)
أخرجه البخاري (4852).
(3)
الأذكار ص (66).
(4)
جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (421).
(5)
أخرجه مسلم (591)، وحديث عائشة رضي الله عنها (592).
(6)
أخرجه البخاري (844)، ومسلم (593).
(7)
هذه الزيادة عند أحمد (30/ 127)، والنسائي (3/ 71)، وابن خزيمة (1/ 365)، وانظر: فتح الباري (2/ 333)، =
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة (1).
فإن كان بعد صلاة المغرب أو الفجر هلّل عشر مرات، لحديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قال دبر صلاة الفجر، وهو ثاني رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله"(2). وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: "يا معاذ والله إني لأحبك". فقال يا معاذ لا تدعنّ في دبر كل صلاة تقول: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"(3).
وعن سعد بن أبي وقاص أنه كان يعلم بنيه هولاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة. "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من عذاب القبر"(4). وقد ورد في "الصحيحين" وغيرهما أدعية أخرى. ثم يبدأ المصلي بالتسبيح، وقد ورد في السنة صفات متعددة ومن ذلك:
الصفة الأولى: أن يسبح ثلاثًا وثلاثين، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويكبر ثلاثًا وثلاثين، ويقول تمام المائة:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير".
ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ غفرت له خطاياه وإن كانت مثل
= والسسلة الصحيحة للألباني (196).
(1)
أخرجه مسلم (594).
(2)
أخرجه الترمذي (3474)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(127)، وهنا لفظ الترمذي، إلا قوله:"بيده الخير" فللنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. ونقله النووي عنه في الأذكار ص (70)، وأقرّه، والحديث رجاله كلهم ثقات، إلا شهر بن حوشب فقد قال عنه الحافظ في التقريب:"صدوق كثير الإرسال والأوهام" ونقل الحافظ في تهذيبه (4/ 325)، عن الترمذي عن البخاري أنه قال: شهر حسن الحديث. وقوّى أمره.
وذكر ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام"(3/ 321)، بأنه قد وثقه قوم وضعفه آخرون، ثم قال: ولم أسمع لمضعفيه حجة .. ثم إن الحديث ورد من عدة طرق عن عدد من الصحابة يدل على أنه حفظه.
(3)
أخرجه أبو داود (1522)، والنسائي (3/ 45)، والحاكم (1/ 273)، وهو حديث صحيح كما قال النووي في الأذكار ص (69)، والحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 297)، وله شواهد تؤيده فانظر (صحيح كتاب الأذكار وضعيفه)، للهلالي (1/ 206).
(4)
أخرجه البخاري (2822)، وهنا على أن المراد بدبر الصلاة: ما بعد السلام، والقول الثاني: أن دبر الصلاة ما قبل السلام. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، كما نقله عنه ابن القيم في (زاد المعاد)، (1/ 305)، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 518)، وقال رحمه الله:(المناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إليه في الصلاة، أما حال الانصراف من ذلك فالثناء والذكر أولى)، وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم كما في الزاد (1/ 257). وانظر فتاوى ابن باز (11/ 194 - 197).
زبد البحر" (1).
الصفة الثانية: ما ورد في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة"(2) ومعنى "معقبات": أي: تفعل مرة بعد أخرى في أعقاب الصلاة.
الصفة الثالثة: ما ورد في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل: يسبح الله دبر كل صلاة عشرًا، ويحمده عشرًا، ويكبره عشرًا"، قال: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده قال: "فتلك خمسون ومائة باللسان وألف وخمس مائة في الميزان
…
" الحديث (3).
الصفة الرابعة: أن يسبح خمسًا وعشرين، ويحمد خمسًا وعشرين، ويهلل خمسًا وعشرين، ودليل ذلك حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أمروا أن يسبحوا دبر كلّ صلاة ثلاثًا وثلاثين، ويحمدوا ثلاثًا وثلاثين، ويكبروا أربعًا وثلاثين، فأتي رجل من الأنصار في منامه، فقيل له: أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسبحوا دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدوا ثلاثًا وثلاثين، وتكبروا أربعًا وثلاثين؟ قال: نعم. قال: فاجعلوا خمسًا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال:"اجعلوها كذلك"(4).
والأفضل أن يأتي المصلي بهذه الصفة تارة، وبهذه تارة أخرى، لما تقدم في العبادات الواردة على صفات متعددة.
والأفضل أن يكون عد التسبيح بالأنامل -وهي الأصابع- لدلالة السنة على ذلك -كما سيأتي إن شاء الله- وقد درج على ذلك الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا -ولله الحمد- وهو أولى من استعمال السبحة ونحوها، فإنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء، وأدعى إلى حضور القلب. وللمصلي أن يعقد التسبيح بكلتا يديه؛ لما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:(فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده) ولفظ، "اليد" للجنس، فيراد به: اليدان، وفى بعض ألفاظ الحديث:(ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها هكذا) وعدّ بأصابعه (5).
(1) أخرجه مسلم (597).
(2)
أخرجه مسلم (596).
(3)
أخرجه البخاري (6329)، بلفظ آخر من طريق سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة، وأخرجه بهذا اللفظ أبو داود.
(4)
أخرجه أحمد (5/ 184، 190)، والنسائي (3/ 76)، والحاكم (1/ 253)، وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وله شاهد من حديث ابن عمر عند النسائي (3/ 76). وسنده حسن.
(5)
ورد عند أبي داود (1502)، من طريق محمد بن قدامة، حدثنا عثام عن الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه به، بلفظ:"بيمينه" وهي لفظة تفرد بها محمد بن قدامة -شيخ أبي داود- مخالفًا بذلك بقية الرواة الآخذين عن عثام الذين رووا الحديث بمثل لفظ الجماعة -أقران الأعمش- أمثال: شعبة وسفيان الثوري وإسماعيل بن علية، وغيرهم ممن هم جبال في الحفظ والإتقان، وكلهم لا يذكرون لفظة "بيمينه"، وعليه فهي شاذة غير محفوظة؛ لأن قاعدة المحدثين أنه إذا اتحد مخرج الحديث امتنع الحمل على التعدد، وهذا الحديث متحد المخرج -كما تقدم- ومثل هذه الزيادة لا تقبل إذا خالف الراوي من هم أكثر منه عددًا، أو كان فيهم من هو أحفظ منه، وكلا الأمرين موجود هنا، ولو كانت هذه اللفظة محفوظة لما غفل عنها الجمهور من رواة الحديث، يقول شيخ المفسرين الحافظ محمد بن جرير الطبري رحمه الله:(والحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم، كانت الجماعة الأثبات أحق بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم). انظر: رسالة: "لا جديد في أحكام =