المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ استدلاله من السنة: - الحدود والتعزيرات عند ابن القيم

[بكر أبو زيد]

فهرس الكتاب

- ‌موضوع البحث:

- ‌دوافع البحث:

- ‌مسلك البحث الإجمالي:

- ‌خطوات العرض والدراسة في هذين المسلكين:

- ‌كتاب الحدود

- ‌توطئة

- ‌لماذا سمّيت العقوبات المقدرة (حدوداً) :

- ‌المبحث الأول:في آثار المعاصي شرعاً وقدراً

- ‌المبحث الثاني:في حكم إقامة الحد بدار الحرب

- ‌اختياره رحمه الله تعالى

- ‌سلفه في تقرير هذا الاختيار:

- ‌ استدلاله من السنة:

- ‌ استدلاله بالإجماع:

- ‌ استدلاله بقياس الأولى

- ‌مسلك الموازنة:

- ‌المبحث الثالث:في تأخير الحد لعارض

- ‌المبحث الرابع:إقامة الحد بالقرينة الظاهرة

- ‌ استدلاله بقياس الأولى:

- ‌الترجيح والاختيار:

- ‌باب حد الزنى

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأولفي الاعتراض على عقوبة الزنى ورده

- ‌المبحث السادسفي اشتراط الإسلام في الإحصان

- ‌المبحث السابع:في عقوبة الزاني المحصن

- ‌المناقشة والترجيح:

- ‌المبحث الثامن:في عقوبة من زنى بجارية امرأته

- ‌المبحث التاسع:في عقوبة من زنى بذات محرمة

- ‌المبحث الرابع عشر:في مفاسد اللوطية الصغرى

- ‌المبحث الخامس عشر:في مفاسد اللواط

- ‌بَابُ حدِّ القذْف

- ‌توطئة

- ‌ مواطن بحث القذف عند العلماء:

- ‌المبحث الخامس:عقوبات القاذف

- ‌العقوبة الأولى: جلد القاذف

- ‌العقوبة الثالثة: عدم قبول شهادته

- ‌الأولى: عدم قبول شهادته بعد حده ما لم يتب

- ‌الثانية: هل عدم قبول شهادة القاذف من تمام عقوبته أم لفسقه

- ‌الثالثة: في حكم قبول شهادته بعد توبته

- ‌الترجيح:

- ‌باب حد الخمر

- ‌توطئة

- ‌لماذا سمّيت الخمر خمراً:

- ‌حقيقة السكر بين الفقهاء وابن القيم:

- ‌أسباب السكر:

- ‌ الأولى: حكمة الشرع في تحريم الخمر

- ‌1- تحريم القطرة من الخمر

- ‌الفرع الثانيبيان مقدار العقوبة

- ‌الترجيح:

- ‌ رأي ابن حزم

- ‌ رأي ابن تيمية وابن القيم:

- ‌ التعزير: بالنفي

- ‌التعزير بالحلق للرأس:

- ‌تعزير الشارب في رمضان:

- ‌الفرع الخامس:العقوبة المالية للخمار

- ‌المبحث الخامس:إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة

- ‌باب حد السرقة

- ‌المبحث الأول:حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده

- ‌الشرط الخامس: انتفاء الشبهة

- ‌ العقوبات التعزيرية للسارق

- ‌المبحث السابع:في توبة السارق

- ‌باب الردة

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول:في ردة من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني:في ردّة قاذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

- ‌المبحث الخامس:في توبة الزنديق

- ‌باب التعزير

- ‌المبحث الأولفي مقدار التعزير

- ‌ المسلك الرابع

- ‌الترجيح:

- ‌المبحث الثاني:في أنواع العقوبات التعزيرية

- ‌الفرع الثاني: تنويعها باعتبار أثرها في المال

- ‌الخاتمةفي خلاصَة البحث ونتائجه

الفصل: ‌ استدلاله من السنة:

أدلة اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى:

عرفنا أن اختياره رحمه الله تعالى هو: تأخير الحد وأنه لا يسقط إلا عن من كانت له من الحسنات والنكاية بالعدو ما يغمر سيئته وقد ظهرت منه مخايل التوبة النصوح.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: الأدلة على تأخير الحد كما ذكر دليل الاستثناء المذكور في اختياره.

لهذا فإني أسوق أدلة اختياره وما يرد عليها من مناقشات على ما يلي:

أولاً: الأدلة التي استدل بها على تأخير الحد:

وهي من السنة (1) . وقضاء الصحابة (2) رضي الله عنهم والإجماع (3) والقياس (4) وبيانها على ما يلي:

1-

‌ استدلاله من السنة:

استدل بحديث النهي عن القطع في الغزو فقال (5) :

(1) السنة: لغة، الطريقة. واصطلاحاً: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير (انظر: قواعد التحديث للقاسمي ص/61) .

(2)

الصحابي: ورد في حده تعاريف كثيرة أمثلها: هو من لقى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ولو ساعة سواء روى عنه أم لا (انظر: قواعد التحديث ص/200) .

(3)

الإجماع: لغة، الاتفاق. واصطلاحاً: له عدة تعاريف أقعدها: اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر على حكم شرعي اجتهادي. (انظر: روضة الناظر لابن قدامة ص/67) .

(4)

القياس، لغة: التقرير. واصطلاحاً: قيل فيه عدة تعاريف منها: حمل فرع على أصل في حكم لجامع بينهما. (انظر: روضة الناظر ص/145) .

(5)

انظر: أعلام الموقعين 3/17.

ص: 42

(إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو رواه أبوِ داود) .

علّة النهي:

قال في بيانها (1) :

(فهذا حد من حدود الله وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هوِ أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق لصاحبه بالمشركين حمية وغضباً، كما قال عمر (2) ، وأبو الدرداء (3) وحذيفة (4) وغيرهم..) .

وجه الاستدلال:

دلالة هذا الحديث نصية على النهي عن إقامة حد السرقة على مرتكبها من

الغزاة في الغزو.

لكن ابن القيم رحمه الله تعالى فهم منهم العموم في النهي عن إقامة كافة الحدود

في أرض العدو، للاشتراك في علّة النهي فطرد هذا الحكم في سائر الحدود فقال (5) :

(1) انظر: أعلام الموقعين 3/ 17.

(2)

هو: الخليفة الراشد عمر بن الخطاب العدوى رضي الله عنه توفي شهيداً سنة 24 هـ. وقد ألفت في ترجمته وسيرته وأقضيته مؤلفات منها: (تاريخ عمر بن الخطاب) لابن الجوزي ط بمطبعة التوفيق في مصر بلا تاريخ و (الفاروق القائد) لمحمود شيت خطاب وغيرهما.

(3)

هو: عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري رضي الله عنه مات في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه وحديثه في الكتب الستة (انظر: تقريب التهذيب 2/ 91 والإصابة 3/46) .

(4)

هو: حذيفة ابن اليمان العبسي من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم توفي سنة 36 هـ (انظر: الإصابة لابن حجر 1/316. والتقريب 1/156) .

(5)

انظر: أعلام الموقعين 3/155.

ص: 43

(إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفار، ولهذا لا تقام الحدود في الغزو كما تقدم)(1) .

وهذا من ابن القيم رحمه الله تعالى: أخذ بروح التشريع، ونظر إلى مقاصد الشريعة، ومراعاة لعلل الأحكام، وبعد عن الجمود مع ظاهر النص.

إيراد وجوابه:

وهو أنَ يقال: اين الاستدلال من هذا الحديث على تأخير الحد فإن ظاهره

. سقوط الحد لا تأخيره والحال يقِتضي البيان؟

والجواب عن هذا من وجهين:

1-

إن الحديث نهى عن إقامة حد القطع في ظرف خاص وهو (الغزو) فهذا نهي عن إقامة الحد في حالة الغزو وليس إسقاطا له. يوضحه الوجه بعده:

2-

وهو أن الصحابة رضي الله عنهم الذين وقع التشريع في عصرهم وفي مواجهتهم أخروا إقامة الحدود عن مرتكبيها في المغازي في قضايا متعددة

كما سيأتي ذكر بعضها إن شاء الله تعالى هم أقرب الأمة لفهم كلام نبيها، ومعرفة مراده، وبهذا أخذ ابن القيم وجعل ما وقع من الصحابة رضي الله عنهم من تأخير الحد- تفسيراً للنص وكشفاً عن مراد الشارع صلى

الله عليه وسلم.

(1) انظر: أعلام الموقعين 3/17- 21

ص: 44

مناقشة هذا الدليل:

بعد أن رأينا هذا الحديث نصاً ودلالة والتسليم لها، فما هي منزلة هذا الحديث ودرجته من الصحة أو الضعف أو غيرهما من درجات الحديث الصناعية (1) . إذ أن التسليم لدلالة الحديث مترتبة على التسليم لثبوته. وبيان ذلك على ما يلي:

منزلته عند ابن القيم:

لم يتكلم عليه ابن القيم رحمه الله تعالى بتصحيح أو تضعيف لكن ذكره له بصيغة الجزم (2) كما تقدم واستدلاله به على ما رآه وعدم تعقبه له يعتبر تسليما منه لحجية إسناده.

هذا ما يتضح للناظر من سياق ابن القيم لهذا الحديث في (أعلام الموقعين)(3) لكنا نراه في مبحث لاحق من نفس الكتاب، يشير إلى ضعف الحديث في معرض ردّه على من قال الزيادة على ما في القرآن نسخ فيقول (4) :(إنكم أخذتم بخبر ضعيف (لا تقطع الأيدي في الغزو) وهو زائد على القرآن، وعديتموه إلى سقوط الحدود على من فعل أسبابها في دار الحرب..) .

فمن هنا يبدو تضارب في منزلة هذا الحديث عند ابن القيم بين الحجية والتضعيف. لكن بعد التأمل يجد الناظر لكلامه محملاً ينفي عنه التضارب وهو أن يقال:

(1) درجات الحديث الصناعية هي: أقسام الحديث وهي ثلاثة: صحيح وحسن وضعيف (انظر: اختصار علوم الحديث لابن كثير ص/ 21، 37، 44، ط الثالثة بمصر بتحقيق أحمد شاكر) .

(2)

صيغة الجزم: من مباحث الاصطلاح في علوم الحديث مثل (قال) و (روى) يقابلها صيغة التمريض مثل (يقال) و (يروى) . (انظر: قواعد التحديث للقاسمي ص/210 الحلبي الثانية سنة 380 هـ) .

(3)

انظر:3/17-21.

(،) انظر: 3/155

ص: 45

إن الحديث في نظر ابن القيم رحمه الله تعالى ضعيف ضعفاً محتملاً، يتقوى بما يشهد له من أقضية الصحابة رضي الله عنهم والقياس الصحيح. بما يفيد النهي عن الحد حال الغزو وتأخيره بعد القفول منه، أما أن يريد به الضعيف ضعفاً غير محتمل، وهو ما كان في سنده من تكلم في عدالته بحيث لا يصح معه اعتبار ولا شاهد فهذا ما لم يظهر من كلامه والله أعلم.

الدراسة الإسنادية لهذا الحديث:

وهي تتجلى في الخطوات الآتية:

أ- صحابي الحديث:

صحابي هذا الحديث هو: بسر ابن أبي أرطأة رضي الله عنه. وهو من مفاريده (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ب- مخرجيه:

أخرج هذا الحديث الأئمة: أحمد (2) ، وأبو داود (3) ، والترمذي (4) والنسائي (5) ، والدارمي (6) ، والضياء (7) كلهم من حديث بسر رضي الله عنه.

(1) الحديث الفرد: هو ما انفرد به راو واحد وإن تعددت الطرق إليه (انظر: شرح ألفية السيوطي ص/43 لأحمد شاكر ط الحلبي سنة 1353 هـ) .

(2)

انظر: مسند أحمد 4/181 بالأوفست سنة 1389 ط في بيروت.

(3)

انظر: سنن أبي داود 4/563.

(4)

انظر: سنن الترمذي 4/53.

(5)

انظر: سنن النسائي 8/84.

(6)

انظر: سنن الدارمي 2/ 231. ط الاعتدال بدمشق سنة 1349 هـ. والدارمي: هو الإمام أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي المتوفى سنة 255 هـ. (انظر: تذكرة الحفاظ 2/105، وتهذيب التهذيب 5/294) .

(7)

انظر: الجامع الصغير مع شرحه فيض القدير للمناوي 6/416 الأولى سنة 1359 ط بمطبعة مصطفى محمد بمصر. حيث عزاه للضياء في كتابه (المختارة) والضياء: هو: ضياء الدين

محمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي المتوفى سنة 643 هـ (انظر: الرسالة المستطرفة للكناني ص/24) .

ص: 46

ج- ألفاظه:

أما ألفاظه عند من خرجه فهي على ما يلي:

أ- قال صلى الله عليه وسلم (لا تقطع الأيدي في السفر) رواه أبو داود. والنسائي، والضياء.

ب- قال (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال صلى الله عليه وسلم لا تقطع الأيدي في الغزو) رواه أحمد. والترمذي والدارمي.

ج- عند أحمد وأبي داود بإسناديهما عن جنادة بن أبي أمية (1) قال: كنا مع بسر ابن أبي أرطاة (2) في البحر، فأتى بسارق يقال له (مصدر) قد سرق بختية (3) فقال: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تقطع الأيدي في الغزو) .

الجمع بين روايتي (السفر) و (الغزو) :

رواية النهي عن قطع الأيدي (في السفر) لا تعارض رواية (في الغزو) ذلك أن السفر المذكور يراد به سفر الغزو فهو من باب العام المخصص على ما ذكره جماعة الشراح لهذا الحديث (4) .

4-

التعريف بأسانيد هذا الحديث إلى راويه بسر:

أما رجال إسناده عند أبي داود فكلهم ثقات إلى بسر كما قاله الشوكاني (5) .

(1) هو: جنادة بن أبي أمية الأزدي الشامي من ثقات التابعين كما حرره ابن حجر انظر (تقريب التهذيب 1/134) .

(2)

لم أجد له ترجمة.

(3)

البختية: هي الأنثى من الجمال البخت والذكر بختي وهو لفظة معربة جمعها بخت وبخاتي (انظر: النهاية لابن كثير 1/101) .

(4)

انظر: نيل الأوطار 7/145.

(5)

انظر: نيل الأوطار 7/145. ط الثالثة سنة 1380 ط بمطبعة الحلبي بمصر.

ص: 47

ومدار أسانيده عند أحمد والترمذي على ابن لهيعة، وهو عبد الله بن لهيعة المصري المتوفى سنة 174 هـ. ومنزلته الصدق وقد اختلط بعد احتراق كتبه (1) ، وهو مدلس (2) لكنه قد صرح بالتحديث في هذا الحديث.

فيعلم من حاله إذا أن حديثه يتابع عليه، وقد تابعه (حيوة ابن شريح) عند أبي داود والنسائي وحيوة بن شريح الحضرمي المتوفى سنة 224 هـ من ثقات المحدثين (3) .

وحيوة وابن لهيعة يرويانه: عن عياش بن عباس القتباني المصري المتوفى سنة 233 هـ. وعياش من الأئمة الثقات (4) .

فتحصل أن أسانيد هذا الحديث إلى بسر، ترقى إلى درجة الصحة حسب أصول الصناعة الحديثية والله أعم.

4-

التعريف ببسر راوي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (5) :

هو بسر ابن أبي أرطأة: عمير بن عويمر القرشي العامري. قيل مات أيّام معاوية رضي الله عنه. وقيل في أيّام عبد الملك بن مروان (7) . وقيل في أيّام ابنه الوليد سنة 86 هـ (8) .

(1) انظر: تقريب التهذيب 1/444.

(2)

التدليس: هو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه (انظر: اختصار علوم الحديث لابن كثير ص/53) .

(3)

انظر: تقريب التهذيب 1/208.

(4)

انظر: تقريب التهذيب 1/95.

(5)

انظر في ترجمته: الإصابة 1/152، وتهذيب التهذيب 1/435، وتقريب التهذيب 1/96 جميعها للحافظ ابن حجر.

(6)

هو: أمير المؤمنين معاوية ابن أبي سفيان القرشي الأموي رضي الله عنه توفي سنة 60 هـ. (انظر: الإصابة لابن حجر 3/412- 414) .

(7)

هو: عبد الملك بن مروان القرشي الأموي من أعاظم خلفاء بني أمية توفي سنة 86 هـ. (انظر: الأعلام 4/312، وتاريخ بغداد للخطيب 10/388) .

(8)

هو: الوليد بن عبد الملك بن مروان ولي بعد وفاة أبيه ومات سنة 96 هـ (الأعلام 9/ 141) .

ص: 48

وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم سوى ثلاثة أحاديث (1) هذا أحدها، وهو من مفاريده فقد تفرد بروايته له عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يعلم أن أحداً شاركه في رواية هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم

وقد تكلم الحفاظ في بسر هذا من ثلاث جهات: في صحبته وفي سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عدالته. وبيان هذا فيما يلي:

أ- الخلاف في صحبته:

اختلف في صحبة بسر للنبي صلى الله عليه وسلم على قولين حكاها المنذري فقال فيه (2) :

(اختلف في صحبته، فقيل: له صحبة، وقيل: لا صحبة له. وإن مولده قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وله أخبار مشهورة، وكان يحيى بن معين (3) ، لا يحسن الثناء عليه، وهذا يدل على أنه عنده لا صحبة له، والله عز وجل أعلم، وقد غمزه الدارقطني (4)) . والمنذري حكى الخلاف ولم يجزم بواحد من القولين. وهذا صنيع المزي في (تحفة الأشراف)(5) والذهبي في (الميزان)(6) وابن حجر في (الإصابة)(7) وفي (تهذيب التهذيب)(8) .

(1) انظر: الإصابة 1/435- 436. وقد ذكرها: هذا أحدها، والثاني حديث (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها

) والثالث قال: أنه في مسند الشاميين من معجم الطبراني.

(2)

انظر: مختصر سنن أبي داود 6/235.

(3)

هو: يحيى بن معين بن عون الغطفاني إمام الجرح والتعديل توفي سنة 233 هـ. (انظر: التقريب 2/358) .

(4)

هو: علي ابن عمر بن أحمد الدارقطني البغدادي إمام مشهور له كتاب السنن توفي سنة 385 هـ (انظر: تذكرة الحفاظ 3/991) .

(5)

انظر: تحفة الأشراف في معرفة الأطراف 2/95 ط الهندية سنة 1386.

(6)

انظر: ميزان الاعتدال في أسماء الرجال 1/309 ط الحلبي بمصر سنة 1382 هـ.

(7)

انظر: 1/152. ط مصطفى محمد بمصر سنة 1358 هـ. بهامشه الاستيعاب لابن عبد البر.

(8)

انظر: 1/435 - 436. ط دائرة المعارف بالهند سنة 1325 هـ.

ص: 49

بينما نجد الذهبي نفسه في كتابه (تجريد أسماء الصحابة)(1) يذكره في عداد الصحابة ولا يتعقبه بشيء ينبئ بخلاف صحبته والحافظ ابن حجر في كتابه (التقريب)(2) يجزم بصحبته فيقول فيه: (من صغار الصحابة مات سنة 86 هـ. روى له أبو داود، والترمذي والنسائي) .

فهذان الحافظان الذهبي وابن حجر اختلفت كلمتهما في صحبة بسر هذا بين الجزم بصحبته وبين التوقف فيها. كما توقف فيها أيضاً الشوكاني في (نيل الأوطار)(3) .

ب- الخلاف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم:

ثم أن المزي، والذهبي، وابن حجر، لما ذكروا الخلاف في صحبة بسر للنبي صلى الله عليه وسلم ذكروا الخلاف أيضاً في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجزموا بواحد من القولين في سماعه أو عدمه.

وللقائلين بصحبته: (الجزم بسماعه عن النبي) لأنه قد صرح في بعض روايات هذا الحديث بسماعه له من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تقطع الأيدي- الحديث (4) . وقال الشوكاني (5) : (ونقل عبد الغني أن حديثه في الدعاء فيه التصريح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم .

(1) انظر: 1/48 ط دار المعرفة في بيروت بلا تاريخ.

(2)

انظر: 1/96 ط دار الكتاب العربي بمصر سنة 1380 هـ نشر النمنكاني بالمدينة المنورة.

(3)

انظر:7/145.

(4)

انظر: فيما تقدم ص/293.

(5)

انظر: نيل الأوطار 7/245

ص: 50

ج- عدالته:

قد تكلم في عدالة بسر بكلام خشن ذكره الذهبي (1) وابن حجر (2) والشوكاني (3) والمناوي (4) . وذكروا من أحواله: أن معاوية رضي الله عنه وجهه إلى اليمن والحجاز ففعل الأفاعيل وقتل: عبد الرحمن (5) وقثم (6) ابني العباس، وقال ابن معين: أنه رجل سوء.

والذهبي لما أدخله في الميزان وهو محط المتكلم فيهم لم ينتصر له فيه بل حكى وسكت وكذا ابن حجر والمناوي.

لكن من تكلم فيه لم يغمز في صدقه ومدار الرواية على تحري الصدق وعدم الكذب وفي هذا يقول الشوكاني (7) .

(لكن إذا كان المناط في قبول الرواية هو تحري الصدق وعدم الكذب فلا ملازمة بين القدح في العدالة وعدم قبول الرواية) .

الخلاصة والترجيح:

هذه كلمة الحفاظ في هذا الحديث رواية ودراية، وقد تبين من دراسته الإسنادية: صحة الإسناد إلى بسر. وإن مدار الكلام في هذا الحديث على (بسر) ،

(1) انظر: الميزان 1/309.

(2)

انظر: الإصابة 1/152، والتهذيب 1/435- 436.

(3)

انظر: نيل الأوطار 7/145.

(4)

انظر: فيض القدير بشرح الجامع الصغير للسيوطي 2/103 ط الأولى بمصر بالمكتبة التجارية سنة 1356 هـ. والمناوي هو: محمد عبد الرؤوف بن علي القاهري المناوي له نحو ثمانين مؤلفاً

توفي سنة 1032 هـ. (انظر: الأعلام 7/75 - 76) .

(5)

هو: عبد الرحمن بن العباس ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أخو عبد الله بن عباس رضي الله عنهم لأمة قتل بأفريقية (انظر: تجريد أسماء الصحابة 1/350) .

(6)

هو: قثم بن العباس شقيق عبد الرحمن المذكور مات قتيلاً. (انظر الإصابة 4/218) .

(7)

انظر: نيل الأوطار 7/145.

ص: 51

ومما تقدم يعلم أن الكلام في بسر لا ترد بمثله الرواية إذ أن من تكلم فيه لم يغمزه في صدقه ومدار الرواية على الصدق. وهو قد صرح بالسماع في هذا الحديث وفي غيره فدل تصريحه بالسماع على: صحبته وسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا صحح الأئمة هذا الحديث:

فقال الذهبي: الحديث جيد لا يرد بمثل هذا. أحد: بمثل الكلام في بسر (1) . وظاهر صنيع ابن القيم تصحيحه لهذا الحديث كما تقدم.

وقال ابن حجر: إسناده قوي مصري (3) .

ورمز السيوطي لصحته (3) .

وقال الألباني: إسناده صحيح على ما قيل في ابن أبي أرطأة (4) . فالحديث إذا سليم الدلالة رواية ودراية لصراحة لفظه وصحة إسناده والله أعلم.

2-

استدلاله بالمأثور عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك:

واستدل على اختياره تأخير الحد بأنه فتيا جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعلم منهم:

عمر رضي الله عنه، وأبو الدرداء رضي الله عنه، وحذيفة بن (5) اليمان رضي

(1) انظر: فيض القدير للمناوي 6/417.

(2)

انظر: الإصابة 1/152.

(3)

انظر: الجامع الصغير مع شرحه فيض القدير 6/416.

(4)

انظر: مشكاة المصابيح للتبريزي. بتعليق الألباني 2/299 ط المكتب الإسلامي بدمشق سنة 1381 هـ.

(5)

هو: حذيفة بن اليمان حسيل بن جابر العبسي من أجلة الصحابة رضي الله عنهم توفي سنة 36 هـ. (انظر: الإصابة 1/316، وتجريد أسماء الصحابة 1/125) .

ص: 52

الله عنه، وبسر ابن أبي أرطاة رضي الله عنه. وساق أخبارهم في هذا. وبيانها كما يلي:

أ- أثر عمر رضي الله عنه:

قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) :

(روى سعيد بن منصور (2) في سننه (3) بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حداً وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار) .

درجة هذا الأثر:

وهذا الأثر ضعيف بهذا الإسناد لأنه من رواية الأحوص بن حكيم ابن عمر العنسي الحمصي عابد وهو ضعيف من قبل حفظه (4) .

وهو أيضاً يرويه عن والده وهو صدوق لكنه يهم (5) .

والراوي له أيضاً عن الأحوص هو: إسماعيل بن عياش الحمصي المتوفى سنة 182 هـ. وهو مدلس وقد عنعن إلا أن المقرر لدى المحققين كابن القيم (7) ، وابن

(1) انظر: أعلام الموقعين 3/17.

(2)

هو: سعيد بن منصور الخراساني ثم المكي توفي سنة 227 هـ. (انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 2/416) .

(3)

انظر: سنن سعيد بن منصور جلد 2 قسم 3 ص/210 ط المجلس العلمي بالهند سنة 1388 هـ.

(4)

انظر: التقريب لابن حجر 1/49.

(5)

انظر: التقريب لابن حجر 1/194.

(6)

انظر: التقريب 1/73.

(7)

انظر: الفروسية ص/44.

ص: 53

حجر (1) : أن روايته عن الشاميين مقبولة ولو عنعن وهو هنا يرويه عن شامي مثله وهو الأحوص بن حكيم. بل هذا إسناد كله حمصي.

إذاً فضعف هذا الأثر بهذا الإسناد لضعف الأحوص. والأحوص قد توبع كما في (مصنف ابن أبي شيبة)(2) و (السنن الكبرى)(3) للبيهقي.

كما أن إسماعيل ابن عياش أيضاً قد توبع عند من ذكر. فصار مدار هذا الأثر على: حكيم بن عمير الحمصي. وتفرده لا يضر لأن منزلته الصدق، وقد تعددت مخارجه إليه وعدلت نقلته فظهر إذاً: أن هذا الأثر حسن الإسناد والله أعلم.

وجه الدلالة:

ودلالة هذا الأثر على تأخير الحد عن الغزاة نصية لنهيه رضي الله عنه عن إقامة الحد على غاز إلا إذا قطع الدرب قافلاً إلى بلاد الإسلام مبيناً رضي الله عنه علة النهي بقوله: لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار والله أعلم.

ب- أثر أبي الدرداء رضي الله عنه:

قال ابن القيم رحمه الله تعالى (4) :

(وعن أبي الدرداء مثل ذلك) .

(1) انظر: التقريب 1/73.

(2)

انظر: سياق الأثر بواسطة: الجوهر النقي في الرد على البيهقي مع السنن الكبرى 9/105 ط الهند سنة 1356 هـ.

وابن أبي شيبة: هو أبو بكر عبد الله بن محمد الكوفي المتوفى سنة 235 هـ. (انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 2/18) .

(3)

انظر: 9/105 ط الأولى بالهند سنة 1354 هـ والبيهقي: هو الحافظ أبو بكر أحمد. بن الحسين ابن علي البيهقي المتوفى سنة 458 هـ. (انظر: شذرات الذهب 3/304 والأعظم 1/113) .

(4)

انظر: أعلام الموقعين 3/17.

ص: 54

أي رواه سعيد بن منصور في (سننه) بنحو أثر عمر رضي الله عنه. والأمر كذلك وهذا لفظه (1) :

(عن أبي الدرداء- رضي الله عنه: أنه كان ينهي أن تقام الحدود على الرجل وهو غاز في سبيل الله حتى يقفل مخافة أن تحمله الحمية فيلحق بالكفار، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا فإن عقوبة الله من ورائهم) .

وقد رواه أيضاً ابن أبي شيبة (2) .

وهذا الأثر عند سعيد وابن أبي شيبة من رواية إسماعيل بن عياش عن أبي بكر ابن أبي مريم وقد عنعن إسماعيل وهو مدلس لكنه في روايته عن شامي فيقبل حديثه (3) . فيبقى مدار السند على أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي المتوفى سنة 156 هـ. وهو ضعيف كما في (التقريب)(4) .

فهذا الأثر إذاً ضعيف الإسناد لضعف الغساني المذكور، لكن هذا الأثر ليس هو العمدة وحده في الاستدلال بل سياقه من باب المتابعات والشواهد فيسلم الاستدلال به إذاً ودلالته نصية على تأخير الحد كأثر عمر سواء والله أعلم.

ج- أثر حذيفة رضي الله عنه:

قال ابن القيم رحمه الله تعالى (5) :

(1) انظر: سنن سعيد بن منصور جزء 2 ص/210

(2)

انظر: بواسطة الجوهر النقي على سنن البيهقي 9/105. وابن أبي شيبة: هو الإمام الحافظ صاحب المصنف: أبو بكر عبد الله بن محمد ابن إبراهيم ابن أبي شيبة المتوفى سنة 235 هـ. (انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 2/18 وتاريخ بغداد 10/66) .

(3)

انظر: تقريب التهذيب 1/73.

(4)

انظر 2/398.

(5)

انظر: أعلام الموقعين 3/17.

ص: 55

(وقال علقمة (1) : كنا في جيش في أرض الرّوم، ومعنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وعلينا الوليد بن عقبة (3) ، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم، وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم) .

درجة هذا الأثر:

ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الأثر عرياً من التخريج، وقد خرجه أبو يوسف (3) ، وعبد الرزاق (4) وسعيد ابن منصور (5) . وابن أبي شيبة (6) كلهم بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم (7) .

وجه دلالته:

ووجه الاستدلال منه على تأخير الحد عن الغزاة ظاهر، فإن حذيفة لم يسقطه ولكن استنكر عليهم تعجيله وهم عند أرض العدو مخافة أن يطمع فيهم الأعداء، فهذا ينبئ عن أن العلة في استنكاره هي قربهم من العدو خشية طمعه فيهم فدل على أنه بعد العودة يعود الحكم بالحد لزوال علته وعليه فإن قول حذيفة رضي الله عنه دالّ على التأخير لا غير والله أعلم.

(1) هو: علقمة بن قيس بن عبد الله الكوفي النخعي المتوفى فيما بعد الستين وقبل السبعين والمائة وهو من ثقاة الأئمة المشاهير (انظر: التهذيب 7/467، والتقريب 2/31) .

(2)

هو: الوليد بن عقبة ابن أبي معيط القرشي الأموي رضي الله عنه وهو أخو عثمان لأمه رضي الله عنهما عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه (انظر: التقريب 2/334، والإصابة 3/601) .

(3)

انظر: الخراج ص/1783 ط السلفية بمصر سنة 382 هـ. وأبو يوسف: هو يعقوب ابن إبراهيم الأنصاري الكوفي المتوفى سنة 182 هـ. صاحب أبي حنيفة رحمهما الله تعالى (انظر: الأعلام 9/ 252) .

(4)

انظره: بواسطة الجوهر النقي على سنن البيهقي 9/105.

(5)

انظر: سنن سعيد بن منصور جلد 2 قسم 3/ ص/211.

(6)

انظره: بواسطة الجوهر النقي على سنن البيهقي 9/105.

(7)

سنده عند الجميع: من حديث الأعمش عن إبراهيم بن يزيد النخعي عن ابن أخته علقمة بن قيس عن حذيفة رضي الله عنه.

ص: 56