الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
حكمة التشريع في الخمر
أبان ابن القيم رحمه الله تعالى عن حكمة التشريع في الخمر من ناحيتين:
الأولى: حكمة الشرع في تحريم الخمر
.
الثانية: الحكمة في عقوبة شارب الخمر بالجلد.
والكلام عنهما فيما يلي:
الأولى: حكمة الشرع في تحريم الخمر (1)
لم تحظَ هذه المسألة بكلام مفرد من الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى. وإنما تكلم عليها بمناسبات اقتضت ذكرها. لكن يؤخذ من كلامه في هذه المناسبات مجامع القول من حكمة الشارع في تحريم الخمر على وجه البيان لقول الله تعالى (2) : (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) . ونستطيع أن نستخلص كلامه في حكمة الشرع في تحريم الخمر في النقاط الآتية:
أ- آية تحريم (3) الخمر فيها بيان حكمة التحريم.
(1) انظر: مدارج السالكين 3/306، وأعلام الموقعين 3/ 151، 2/95، 3/97، ومفتاح
دار السعادة ص/337، وزاد المعاد 3/115.
(2)
الآيتان رقم 90، 91، سورة المائدة.
(3)
تقدم نصها قبل هذا مباشرة.
يقول ابن القيم مشيراً إلى الآية المذكورة (1) :
(حرم الله سبحانه السكر لشيئين: ذكرهما في كتابه. وهما إيقاع العداوة، والبغضاء بين المسلمين والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة. وذلك يتضمن حصول المفسدة الناشئة من النفوس بواسطة زوال العقل. وانتفاء المصلحة التي لا تتم إلا بالعقل، وإيقاع العداوة من الأول والصدّ عن ذكر الله من الثاني) .
فهو بيّن أن المفاسد إنما تنشأ من زوال العقل والمصالح لا تتم إلا بالعقل. والسكران قد جنى على عقله بالإفساد. ولهذا صان الله العقول عن الإفساد بتحريم الخمر، وصار هذا من ضروريات دين الإسلام وأحكامه التشريعية. دفعاً لما يترتب على فساد العقل وزواله في المفاسد وانتفاء المصالح.
وفي هذا يقول ابن القيم أيضاً (2) :
(إن الله تعالى حرم الحمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل- وهذا ليس مما نحن فيه)(3) .
ومن هذه المفاسد التي تترتب على زوال العقل بالسكر أنها تأخذ بالإنسان إلى المواطن التي توقع في الندم والأسف. من روح تزهق أو عرض يهتك. أو مال يضاع إلى غير ذلك من المفاسد ومواطن الهلكة (4) التي أبان الله عن مفاسدها في الآية المتقدمة.
ب- التحريم لكافة المحرمات على هذه الأمة هو: تحريم حفظ وصيانة لا تحريم عقوبة.
وتحريم الخمر صيانة للعقول وحفظ لها.
(1) انظر: مدارج السالكين 3/306.
(2)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 151.
(3)
ذكر ابن القيم هذا فيما هو يبحث فيه: وهو أن العبرة في الشريعة بالمقاصد.
(4)
وانظر: حكمة التشريع للجرجاوي 2/271 الطبعة الخامسة سنة 381 هـ بالمطبعة اليوسفية بمصر.
هذه من طرائف العلم التي شحن بها ابن القيم كتابه (مفتاح دار السعادة) فقال ما ملخصه (1) :
(قال الله تعالى (2) : (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت
لهم)
…
قد أخبر تعالى أنه حرم عليهم طيبات كانت حلالاً عقوبة لهم فهذا تحريم عقوبة بخلاف التحريم على هذه الأمة فإنه تحريم صيانة وحماية) .
وهذه النقطة مرتبطة بالتي قبلها ومشتبكة معها اشتباك الروح بالهيكل فإن ما جاء في النقطة الأولى هو من آثار فساد العقل وزواله بالخمر ولهذا جاء الشرع بتحريم الخمر صيانة للعقول وحفظاً لها ودفعاً للمفاسد التي تحصل من شرب الخمر لزوال العقل بها والله أعلم.
وماذا بعد إذا كانت الخمر جناية على العقل. العقل الذي شرّف الله بني الإنسان وميزه به عن سائر الحيوان. ومن أجله صار محط رسالاته. وابتلائه واختياره وإنه لخرق متناهٍ أن يجني المرء على عقله بطوعه واختياره ليغيب عن رشده ويفقد إدراكه ووعيه ويتخلى عن كلّ فضل وفضيلة. منهكاً أشرف قواه وأ جلها: العقل.
ويطيب لي هنا أن أسوق كلاماً نفيساً لإمامنا ابن القيم في بيان منزلة العقل من الإنسان فقال (3) :
(العقل الذي به عمارة الدارين، وهو الذي أرشد إلى طاعة الرسل، وسلم القلب والجوارح ونفسه إليه، وانقاد لحكمه، وعزل نفسه وسلم الأمر إلى أهله، لكفي به شرفاً وفضلاً. وقد مدح الله سبحانه العقل وأهله في كتابه في مواضع كثيرة منه. وذم من لا عقل له وأخبر أنهم أهل النار، الذين لا سمع لهم ولا عقل. فهو آلة كل
(1) انظر: مفتاح دار السعادة ص/337. وانظر أيضاً: زاد المعاد 4/113.
(2)
الآية رقم 160، سورة النساء.
(3)
انظر: مفتاح دار السعادة، ص/127
عم وميزانه الذي به يعرف صحيحه من سقيمه وراجحه من مرجوحه، والمرآة التي يعرف بها الحسن والقبيح. وقد قيل: العقل ملك والبدن روحه. وحواسه وحركاته كلها رعية له فإذا ضعف عن القيام عليها وتعهدها وصل الخلل إليها كلها. ولهذا قيل من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خصال الشر عليه
…
) .
ج- قاعدة الشريعة المطردة تحرم كل خبيث وضار، والخمر أم الخبائث، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الخمر أم الخبائث)(1) ، وهي ضارة لقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن
الخمر يجعلها في الدواء (إنها داء وليست بدواء)(2) .
ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض بحثه التداوي بالمحرمات هذه القاعدة في التحريم ثم ضرب المثال بالخمر فقال (2) :
(وليفرض الكلام في أم الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط: فإنها
شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء وكثير من الفقهاء والمتكلمين، قال أبقراط (4) في أثناء كلامه في الأمراض الحادة (ضرر الخمرة بالرأس شديد لأنه يسرع الارتفاع إليه ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن. وهو كذلك يضر بالذهن)) .
وهذا الذي قرره ابن القيم من أن الخمر مضرة بالدماغ هو محل إجماع رجال الطب. كما ذكره الأستاذ إسماعيل الخطيب في كتابه (المسكرات بين الشرائع والقوانين) فيقول (5) :
(1) حديث حسن: رواه مرفوعاً عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه القضاعي في مسنده (انظر كشف الخفاء للعجلوني 1/382 الطبعة الثانية سنة 351 هـ بمصر) .
(2)
رواه مسلم بإسناده طارق بن سويد الجعفي: انظر مسلم بشرح النووي 13/152.
(3)
انظر: زاد المعاد 3/115.
(4)
هو: بقراط بن إيراقليس- رأس الأطباء. (انظر: الفهرست لابن النديم ص/414)
ط الاستقامة بمصر سنة 377 هـ.
(5)
انظر: ص/38
(يجمع رجال الطب على أن مضار الخمر متعددة فتعاطى أقل مقدار من المسكرات لا بد أن يؤثر تأثيراً ضاراً على المخ. ويؤثر بصفة خاصة على مراكزه المهمة كالذاكرة والحافظة) .
تنبيه مهم:
قول ابن القيم الآنف الذكر في الخمر (إنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء وكثير من الفقهاء والمتكلمين) لا ينبغي أن يفهم القارئ من كلام ابن القيم هذا أن مقر العقل هو (الدماغ) فإن هذا خطأ صرف مناقض لنصوص الكتاب والسنة. وقد ذكر ابن القيم الخلاف في هذه القضية في كتابه (مفتاح دار السعادة) على ثلاثة أقوال (1) :
الأول: أن مركز العقل القلب. وهو قول عامة أهل العلم.
الثاني: أن مركزه الدماغ في الرأس. وهو قول الفلاسفة والطبائعيين.
الثالث: وهو اختيار ابن القيم: التوسط بين القولين وهو أن مركزه القلب وفروعه في الرأس. وسلامته مربوطة بسلامة الدماغ فإذا اختلت خانة من خانات الدماغ اختل العقل الذي في القلب.
وعلى أن مقره القلب دل القرآن كما في قوله تعالى (3)(أفلم- يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) وإسناد العقل والفهم إلى القلوب يدل على أن القلب هو مركز العقل ومقره. وقال تعالى (3)(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) ولم يرد بالقلب هنا مضغة اللحم المشتركة بين الحيوانات لأن الذكرى التي تتأتى بالفهم لا تحصل بها. بل المراد ما فيه من العقل واللب. وفي حديث النعمان بن بشير (4) رضي الله عنه الطويل (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد
(1) انظر: ص/212-213.
(2)
الآية رقم 46، سورة الحج.
(3)
الآية رقم 37، سورة ق.
(4)
هو: ابن بشير بن سعد. الأنصاري رضي الله عنه توفي قتيلاً بحمص سنة 65 هـ. (انظر التقريب لابن حجر 2/303) .
كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب) رواه البخاري وغيره (1) .
الثانية: الحكمة في عقوبة شارب الخمر بالجلد:
المتتبعون لمحاسن الشريعة وأسرار التشريع يبدون الحكمة في عقوبة شارب الخمر. من أنها عملية تطهيرية للمحدود وردع له ولغيره أيضا (2) :
هذه مجامع الحكمة في عقوبة شارب الخمر. لكن ابن القيم وهو في معرض الرد على نفاة المعاني والقياس والحكم والتعليل الذين يقولون إن الشرع فرق بين المتماثلين وجمع بين المختلفين، أشار إلى حكمة جعل الجلد عقوبة لشارب الخمر وأنه لم يبلغ بالعقوبة في الخمر إلى جعلها حداً بالقتل أو إبانة الطرف وإنما شرع فيها ما يقابل درجتها في الضرر ورتبتها في الإفساد وهو: الجلد. وهذا، موجب أسمائه وصفاته من حكمته وعدله ورحمته ولطفه وإحسانه (3) . فقال (4) :
(وأما الجلد فجعله عقوبة الجناية على الأعراض، وعلى العقول، والأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغاً يوجب القتل ولا إبانة الطرف
…
إلى أن قال: وأما الجناية على العقول بالسكر فكانت مفسدتها لا تتعدى السكران غالباً، ولهذا لم يحرم السكر في أول الإسلام كما حرمت الفواحش والظلم والعدوان في كلّ ملة وعلى لسان كلّ نبي
…
) .
(1) انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 1/126. ورواه مسلم وأصحاب السنن (انظر في تخريجه (فيض القدير للمناوي 3/423) وأوله (الحلال بين
…
)) .
(2)
انظر: حكمة التشريع للجرجاوي 2/ 270.
(3)
انظر: أعلام الموقعين 2/95.
(4)
انظر: أعلام الموقعين 2/97.