الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستدل أبو مصعب لذلك بحديث القتل في ذلك. وقد تبين أن الاستدلال به لا يتم لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
4-
العقوبات التعزيرية للسارق
.
نستخلص مما تقدم ومما يأتي من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى أن العقوبات التعزيرية للسارق تكون في صور منها ما يلي:
الصورة الأولى:
تعزيره إذا سرق في الثالثة أو الخامسة على الخلاف ويكون تعزيره بالحبس أو بالضرب ونحوه على الخلاف المتقدم.
الصورة الثانية:
قتله في الخامسة تعزيراً إذا استشرى بالفساد عند بعض أهل العلم كما تقدم.
الصورة الثالثة:
أن كل من سرق فسقط عنه الحد ترتب عليه عقوبتان تعزيريتان:
عقوبة مالية بتضعيف الغرم للمسروق.
وعقوبة بدنية: بالضرب ونحوه نكالاً له.
وقد أوضح ابن القيم هذه الصورة التعزيرية فقال (1) :
(أسقط صلى الله عليه وسلم العقوبة بالقطع عن سارق الثمر (2) والكثر (3) . وحكم أن من
(1) انظر: 3/211.
(2)
الثمر: ما كان معلقاً قبل أن يؤويه الجرين (انظر معالم السنن للخطابي 6/221) .
(3)
الكثر: جمار النخل (انظر: معالم السنن للخطابي 6/221) .
أصاب منه شيئاً بفمه وهو محتاج فلا شيء عليه. ومن خرج منه بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة (1) .
وقضى صلى الله عليه وسلم في الشاة تؤخذ من مراتعها بثمنها مرتين وضرب نكال
…
الاستدلال:
م ذكر رحمه الله تعالى الاستدلال من هذين الحديثين على اجتماع هاتين العقوبتين في حق كل من سقط عنه القطع فقال (2) :
(في ذلك أن من سرق ما لا قطع فيه ضوعف عليه الغرم، وقد نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقال (كل من سقط عنه القطع ضوعف عليه الغرم) وفي إجماع التعزير مع الغرم الجمع بين العقوبتين: مالية وبدنية.
وقد بيّن رحمه الله تعالى أيضا (3) أن هذه العقوبة المالية يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان حسب المصلحة وهذا يأتي بسطه إن شاء الله تعالى في العقوبة المالية من باب التعزير والله أعلم.
المبحث الخامس:
في قطع جاحد العارية.
هذه من مسائل العلم المشتهرة بين الحنابلة والجمهور على ما يلي:
مذهب الجمهور:
وهو أنه لا قطع على جاحد العارية.
(1) تقدم تخريجه ص/623.
(2)
انظر: زاد المعاد 3/212.
(3)
انظر: أعلام الموقعين2/ 97
وهذا مذهب الحنفية (1) . والمالكية (2) . والشافعية (3) . وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد (4) . وقيل هي المذهب (5) .
المعتمد من مذهب الحنابلة:
وهو وجوب قطع جاحد العارية.
وهذا هو الرواية الثانية عن الإمام أحمد (6) . وهي المذهب على الصحيح (7) وهذا هو مذهب الظاهرية وله انتصر ابن حزم (8) .
مناقشة أدلة الخلاف (9) :
ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في (أعلام الموقعين) الخلاف في هذه المسألة، وناقش الدّليل محل التجاذب بين الطرفين وهو: حديث المخزومية (10) وبين أن القول بالقطع لجاحد العارية، هو مقتضى الدّليل الصحيح والقياس الصريح. وفي (زاد المعاد)(11) بين أن هذا هو مقتضى لغة العرب.
(1) انظر: فتح القدير 5/136. والمغني لابن قدامة 10/240.
(2)
انظر: الإفصاح لابن هبيرة 2/415. والمغني لابن قدامة 10/ 240. ومختصر سنن أبي داوود للمنذري 6/ 212.
(3)
انظر: نهاية المحتاج للرملي 7/436. والمغني 10/240. والإفصاح 2/415.
(4)
انظر: المغنى لابن قدامة 10/240. والإنصاف 10/253.
(5)
انظر: زاد المستنقع مع حاشيته السلسبيل في معرفة الدليل 3/119.
(6)
انظر: المغني 10/240. والإنصاف 10/ 253.
(7)
انظر: الإنصاف 10/253. وكشاف القناع عن متن الإقناع 6/129. ومختصر المنذري لأبي داوود 6/212. وفتح الباري لابن حجر 12/ 90.
(8)
انظر: المحلي 11/433 - 439.
(9)
انظر: أعلام الموقعين 2/62 - 63، وزاد المعاد 3/211- 212 وتهذيب السنن 6/209
(10)
هي: فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن مخزوم قال ابن حجر في (فتح الباري 12/88 هذا على الأصح في اسمها) .
(11)
انظر: 3/211- 212.
وفي الكتابين نقض قياس المخالف وأشار للنقض أيضاً في كتابه (إغاثة اللهفان)(1) .
وأتى على جميع هذه الأدلة والمناقشات في كتابه (تهذيب السنن)(2) . والتفصيل لذلك على ما يلي:
حديث المخزومية.
هو من الأحاديث المشهورة في الكتب الستة وقد جاء في بعض ألفاظ الرواة (أنها سرقت) وفي بعضها (أنها كانت تستعير المتاع وتجحد) . وقد جاء اللفظان في روايته من حديث عائشة رضي الله عنها. كما يلي:
روايته بلفظ (سرقت) :
عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد (3) حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتشفع في حد من حدود الله. ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضلّ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد. وإني والذي نفسي بيده: لو أن فاطمة بنت محمد (4) صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
(1) انظر: 2/73.
(2)
انظر: 6/209-212.
(3)
هو: أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم توفي سنة 54 هـ. (انظر التقريب لابن حجر 1/53) .
(4)
هي: فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم الحسنين زوجة علي رضي الله عنه وعنها ماتت سنة 11 هـ. (انظر التقريب لابن حجر 2/609) .
رواه البخاري (1) . ومسلم (2) وأبو داوود (3) . والترمذي (4) . والنسائي (5) . وا بن ماجه (6) . واللفظ لمسلم (7) .
روايته بلفظ (كانت تستعير المتاع وتجحده) :
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها- وذكر فيه نحو ما تقدم بالرواية قبله - وقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها.
رواه مسلم (8) . وأبو داوود (9) . والنسائي بروايات متعددة (10) وجعل روايته بلفظ (أنها كانت تستعير المتاع وتجحده) هي الأصل. وجعل روايته بلفظ (سرقت) من اختلاف الرواة الناقلين للحديث وأردف ذكرها بعد ذكر اللفظ الأول وهذا من تمام فقهه رحمه الله تعالى. وهذه من لطائف النسائي في (سننه) التي جرى عليها عند اختلاف النقلة في لفظ الحديث.
(1) انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 5/255، 12/87 (وانظر: ذكر أطرافه عند البخاري في: فهارس البخاري لرضوان ص/176) .
(2)
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 11/187.
(3)
انظر: سنن أبي داوود 4/538.
(4)
انظر: سنن الترمذي4/37
(5)
انظر: سنن النسائي8/ 65.
(6)
انظر: سنن ابن ماجه 2/851.
(7)
انظر: في جمع ألفاظ الحديث، فتح الباري لابن حجر 12/90 - 92.
(8)
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 11/ 188
(9)
انظر: سنن أبي داود 4/ 539
(10)
انظر: سنن النسائي 8/ 63-68
وإنما قدمت هنا الرواية بلفظ (سرقت) لرواية البخاري لها تقديماً له فحسب والله أعلم.
الحديث بين النفاة والموجبين للقطع:
ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن نفاة القطع لجاحد العارية وهم الجمهور، ناقشوا وروده بلفظ (كانت تستعير المتاع وتجحده) من حيث الرواية والدراية، ثم تعقب الإيرادين بالمناقشة والرد. وذلك على ما يلي:
تعليل الجمهور لرواية (كانت تستعير المتاع وتجحده) :
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) :
(وأعل بعض الناس الحديث بأن معمر (2) تفرد من بين سائر الرواة بذكر (العارية) في الحديث. وأن الليث (3) . ويونس (4) . وأيوب بن موسى (5) . رووه عن الزهري، وقالوا (سرقت) . ومعمر لا يقاومهم) .
تعقب ابن القيم لهذا التعليل:
قال رحمه الله تعالى (6) :
(1) انظر: تهذيب السنن 6/209
(2)
- هو: معمر بن راشد الأزدي مولاهم ثقة ثبت فاضل مات سنة 154 هـ. كما ذكر في التقريب لابن حجر 2/ 266)
(3)
هو: الإمام الليث بن سعد الفهمي مات سنة 175 هـ. (انظر التقريب لابن حجر 2/ 138)
(4)
هو: يونس بن يزيد ابن أبي النجاد الأيلي مات سنة 159 هـ. ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلا (انظر: التهذيب لابن حجر 6/70. والتقريب له 2/386)
(5)
هو: أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المتوفى سنة 132 هـ. من ثقاة المحدثين (انظر: التقريب لابن حجر 2/ 91) .
(6)
انظر: تهذيب السنن 6/210 وانظر أيضاً: فتح الباري لابن حجر 12/89-90
(أما تعليله بما ذكر فباطل: فقد رواه: أبو مالك عمرو بن هشام الكوفي (1)، عن عبيد الله بن عمر (2) . عن نافع. عن ابن عمر (أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله. وترد ما تأخذ من القوم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها. ذكره النسائي (3) .
ورواه: شعيب بن إسحاق (4) . عن عبيد الله عن نافع بنحوه سواء، ذكره النسائي أيضاً (5) .
وقال فيه: لتتب هذه المرأة، ولتؤدي ما عندها مراراً. فلم تفعل فأمر فقطعت. ورواه سفيان عن أيوب بن موسى، عن الزهري. عن عروة. عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت مخزومية تستعير متاعاً وتجحده. فرفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم فيها: فقال: لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها. ذكره النسائي (6) .
ورواه بشر بن شعيب (7) . أخبرني أبي (8) . عن الزهري، عن عروة، عن عائشة
(1) قال ابن حجر في التقريب 2/80 (لين الحديث أفرط فيه ابن حبان من التاسعة) .
(2)
هو: عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توفي سنة بضع وأربعين بعد المائة ثقة ثبت كما في: التقريب لابن حجر 1/537.
(3)
انظر: سنن النسائي8/ 63
(4)
هو: الأموي مولاهم ثقة مات سنة 289 هـ. كما في التقريب لابن حجر 1/351.
(5)
انظر: سنن النسائي8/ 64.
(6)
انظر: سنن النسائي8/ 64
(7)
- هو: الأموي مولاهم ثقة مات سنة 213 هـ. وليس في رواة الكتب الستة من اسمه بشر بن شعيب سواه. انظر التقريب لابن حجر1/ 99.
(8)
هو: شعيب بن إسحاق الأموي مولاهم ثقة مات سنة 289 هـ. (انظر: التقريب لابن حجر انظر: 1/351) .
رضي الله عنها قالت: استعارت امرأة على ألسنة أناس يعرفون وهي لا تعرف- حلياً فباعته وأخذت ثمنه. فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث- وقال في آخره: ثم قطع تلك المرأة. وذكره النسائي أيضاً (1) :
ورواه هشام (2) . عن قتادة (3) عن سعيد بن يزيد (4)، عن سعيد بن المسيب: أن امرأة من بني مخزوم استعارت حلياً على لسان أناس فجحدته. فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت ذكره النسائي أيضاً (5) .
فقد صح الحديث ولله الحمد (6)) .
وقد تبين من تعقب ابن القيم أن تعليل الحديث بتفرد معمر به غير صحيح بل قد رواه) . جمع من الرواة ومن بينهم أيوب بن موسى أحد رواته عن الزهري بلفظ (سرقت) .
وعليه فإن هذه الرواية بلفظ (العارية) قد كثرت مخارجها وعدلت نقلتها وتعدد رواتها فبطلت إذا علية الانفراد من معمر به وهذا ما حققه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى والله أعلم (7) .
(1) انظر:: سنن النسائي 8/64.
(2)
هو: بن عروة تقدم ص/654.
(3)
هو: بن دعامة السدوسي ثقة ثبت مات سنة بضع عشرة ومائتين (انظر: التقريب لان حجر 2/123) .
(4)
هو: سعيد بن يزيد البصري. قال أبو حاتم: شيخ لم يرو عنه غير قتادة (انظر التقريب لابن حجر 1/309)
(5)
انظر: سنن النسائي 8/64.
(6)
انظر: هذا مبسوطاً في فتح الباري لابن حجر 12/90.
(7)
انظر: فتح الباري 12/ 91
مناقشة الجمهور للحديث دراية:
ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى تعقب الجمهور لرواية (العارية) على فرض ثبوتها عندهم من أن السبب الموجب للقطع هو (السرقة) كما في بعض روايات الحديث وأن ذكر (العارية) إنما هو للتعريف المجرد بالمرأة لا أنه سبب القطع. وفي ذلك يقول عنهم ابن القيم (1) :
(قالوا: ولو ثبت، فذكر وصف العارية إنما هو للتعريف المجرد لا لأنه سبب القطع) .
تعقب ابن القيم لهذه المناقشة:
لم يرتض ابن القيم هذا التأويل والحمل من الجمهور لهذا اللفظ (العارية) على فرض ثبوتها عندهم فتعقبها بقوله (3) :
(وأما قولهم: أن ذكر جحد العارية للتعريف، لا أنه المؤثر: فكلام في غاية الفساد لو صح مثله- وحاشا- وكلا- لذهب من أيدينا عامة الأحكام المترتبة على الأوصاف. وهذه طريقة لا يرتضيها أئمة العلم، ولا يردون بمثلها السنن، وإنما يسلكها بعض المقلدين من الأتباع) . وبين أن لفظ رواية النسائي (لتتب هذه المرأة، ولتؤدي ما عندها مراراً فلم تفعل. فأمر بها فقطعت) . يبطل قولهم: أن ذكر هذا الوصف للتعريف المجرد (2) .
وهذا تعقب وارد ذلك أن جعل ذكر جحد العارية للتعريف ينافي القاعدة
(1) انظر: تهذيب السنن 6/209، وانظر أيضاً: أعلام الموقعين2/ 62
(2)
انظر: تهذيب السنن 6/ 211
(3)
انظر: تهذيب السنن 6/211. وانظر أيضاً: فتح الباري لابن حجر 12/ 91-92
الشرعية الأصولية وهي: أن ترتيب الحكم على الوصف يؤذن بعلية ذلك الوصف) . ومن شأن العلة أنها إذا وجدت يوجد الحكم فمعنى ذلك أن الوصف كلما وجد يوجد الحكم وبهذا لا يضيع شيء من الحكم المترتب على الوصف. بخلاف ما إذا جعل ذكر الوصف لتعريف من اتصف به فإنه حينئذ لا يكون علة وبالتالي لا يستلزم وجوده وجود الحكم وبذلك تذهب عامة الأحكام المترتبة على الوصف وتضيع.
فثبت إذا أن ذكر لفظ (العارية) للتعليل لا لمجرد الوصف والله أعلم.
جمع ابن القيم بين ألفاظ الرواة للحديث:
بعد أن بيّن ابن القيم أن رواية (العارَية) صحيحة الإسناد كرواية (السرقة) وأن تأويل الجمهور لرواية (العارية) لا يصح. بين أن الصحيح في سبب القطع هو: جحد العارية. وأنه لا تنافي بين الروايتين فقال (1) : (ولا تنافي بين ذكر جحد العارية وبين السرقة فإن ذلك داخل في اسم السرقة فإن هؤلاء الذين قالوا (إنها جحدت العارية) وذكروا أن قطعها لهذا السبب قالوا (إنها سرقت فأطلقوا على ذلك اسم السرقة.
فثبت لغة أن فاعل ذلك سارق، وثبت شرعاً أن حده قطع اليد. وهذه الطريقة أولى من سلوك طريقة القياس في اللغة. فيثبت كون الخائن سارقاً لغة، قياساً على السارق. ثم يثبت الحكم فيه.
وعلى ما ذكرناه يكون تناول اسم السارق للجاحد لغة. بدليل تسمية الصحابة
له سارقاً ونظير هذا سواء: ما تقدم من تسمية نبيذ التمر وغيره خمرا: لغة لا
(1) انظر: تهذيب السنن 6/ 211، وانظر أيضا: زاد المعاد 3/ 211
قياساً. وكذلك تسمية النباش سارقاً) .
فابن القيم رحمه الله تعالى يبين بكل ثبات أنه لا تنافي بين الروايتين فإن المخزومية سرقت وسرقتها بجحدها العارية. إذ جحد العارية داخل في اسم السرقة لغة كما جرى على لسان الصحابة رضي الله عنهم في روايات الحديث وهذا أولى من قياس جاحد العارية ليتم إطلاق اسم السارق عليه إذ القياس في اللغة لا يجوز. وقد ذكر ابن حجر في (فتح الباري)(1) كلام ابن القيم هذا واستبعده فقال: (كذلك قال ولا يخفى بعده) . وليت ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر لنا شواهد اللغة على تسمية (جاحد العارية) سارقاً والله أعلم.
رفض قياس جاحد العارية على الخائن في الوديعة (2) :
ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن قياس جاحد العارية على جاحد الوديعة، بجامع الخيانة في كل منهما، فينتج الحكم أنه لا قطع على جاحد العارية كما أنه لا قطع على جاحد الوديعة- ذكر أنه قياس مع الفارق.
ووجهه: أن جاحد العارية لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف جاحد الوديعة فإن صاحب المتاع فرط حيث ائتمنه فهو إنما يفعل ذلك عند عدم احتراز المالك (3) . لكن الحافظ ابن حجر (4) تعقب ابن القيم في رفضه هذا القياس فقال: وهي مناسبة لا تقوم بمجردها حجة إذا ثبت حديث جابر رضي الله عنه (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع) .
(1) انظر: 12/92
(2)
الوديعة: هي أمانة تركت عند الغير للحفظ قصداً (انظر: التعريفات للجرجاني ص/224)
(3)
- انظر: 6/211 تهذيب السنن 6/211، وأعلام الموقعين 2/63، وإغاثة اللهفان 2/73.
(4)
انظر: فتح الباري 12/ 90
والحديث قد ثبت بإسناد صحيح عند أبي داوود (1) . والترمذي (2) . والنسائي (3) وابن ماجه/17. واللفظ للنسائي دونهم (5) .
قطع جاحد العارية هو مقتضى القياس، وحكمة التشريع:
بعد أن بين ابن القيم رحمه الله تعالى ثبوت الحديث برواية (العارية) وأن جاحد العارية يسمى (سارقاً) لغة، وأن قطع يد المخزومية إنما كان بسبب (جحد العارية) وأن من قاس جاحد العارية على جاحد الوديعة فقد غلط.
بعد أن بين ذلك رحمه الله تعالى أوضح أن القول بالقطع هو مقتضى القياس الصريح وحكمة التشريع الكريم فقال:
(ولو ثبت أن جاحد العارية لا يسمى سارقاً لكان قطعه بهذا الحديث جارياً على وفق القياس:
فإن ضرره مثل ضرر السارق أو أكثر، إذ يمكن الاحتراز من السارق بالأحراز والحفظ وأما العارية: فالحاجة الشديدة لكي تبلغ الضرورة ماسة إليها، وحاجة الناس فيما بينهم من أشد الحاجات. ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى (6) وجوبها. وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين، وأحد القولين في مذهب أحمد.
(1) انظر: سنن أبي داوود 4/552.
(2)
انظر: سنن الترمذي4/ 52.
(3)
انظر: سنن النسائي8/ 82.
(4)
انظر: سنن ابن ماجه 2/864.
(5)
انظر: تخريج هذا الحديث وألفاظه والكلام على أسانيده في: نصب الراية للزيلعي 3/363- 365.
(6)
انظر: المغني لابن قدامة 5/ 354.
فترتيب القطع على جاحدها طريق إلى حفظ أموال الناس، وترك لباب هذا المعروف مفتوحاً وأما إذا علم أن الجاحد لا يقطع فإنه يفضي إلى سد باب العارية في الغالب) .
وفي معرض رده على نفاة القياس قال (1) :
(إذا كان الصحيح هو القول الآخر- قطع جاحد العارية- فموافقته للقياس والحكمة والمصلحة ظاهرة جداً، فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بد لهم منها، ولا غنى لهم عنها، وهي واجبة عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأجرة أو مجاناً، ولا يمكن المعير كل وقت أن يشهد على العارية، ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعاً وعادة وعرفاً، ولا فرق في المعنى بين من توصل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة، وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها) .
وابن القيم في هذا القياس يذكر أركانه:
فيذكر المقيس، وهو جاحد العارية.
ويذكر المقيس عليه: وهو السارق.
ويذكر العلة الجامعة: وهي الضرر.
ويذكر الحكم: وهو القطع.
ويقرر أنه قياس جلي ذلك: أن العلة وهي (الضرر) في المقيس وهو (جاحد العارية) أقوى منها في المقيس عليه، لعدم إمكان الاحتراز عن جاحد العارية بينما الاحتراز عن السارق يمكن بالحفظ والأحراز، فيكون المقيس بناء على هذا القياس أولى بالحكم.
(1) انظر: أعلام الموقعين2/ 62-63
تعقب هذا القياس:
وعندي أن هذا القياس متعقب بأمور منها ما يلي:
الوجه الأول: أن هذا قياس مع الفارق، ذلك أن الحرز غير متوفر في العارية
إذ المعير قد سلط المستعير على ماله وجعله تحت يده، وهذا بخلاف السرقة من حرز فافترقا.
الوجه الثاني: أن العلة ليست الضرر وإنما هي (السرقة) والحكم الشرعي وهو (القطع) مرتب على الوصف وهو (السارق والسارقة) . وهو اسم فاعل مشتق من المصدر الذي هو (السرقة) ، وترتيب الحكم على المشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق، وهذا المعنى غير متوفر في (جاحد العارية) .
الوجه الثالث: اتفاق أهل اللسان على أن السرقة: هي من المسارقة وهي الاختفاء وهذا العنصر غير موجود في جاحد العارية.
ومجرد الإطلاق للفظ (السرقة) على (جاحد العارية) لا يفيد الاجتماع معه في الحكم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العين تزني الحديث. ولم يكن زناها موجباً للحد.
الوجه الرابع: أن في هذا إثباتاً للحد بالقياس، والحدود لا تثبت بالقياس (1) .
الوجه الخامس: إمكان نقض هذا القياس بمقابله وهو أن يقال: يقاس جاحد العارية على: المنتهب، بعلة الضرر، فينتج الحكم بعدم القطع، وحينئذ يتعارض الدليلان، وعند التعارض يسقطان والله أعلم.
هذا ما ظهر لي في تعقب هذا الدليل القياسي والله أعلم.
(1) انظر: أعلام الموقعين 1/185
الخلاصة والترجيح:
والخلاصة أن مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة وإحدى الروايتين عن أحمد
أنه لا قطع. وإن الرواية المعتمدة من مذهب الحنابلة وهو مذهب الظاهرية وجوب القطع على جاحد العارية وهو اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى، وعليه يدل حديث المخزومية والله أعلم.
المبحث السادس
الحد بالقرينة الظاهرة، وهي وجود المسروق في حوزة المتهم (1) .
في معرض بحث ابن القيم: عن اعتبار القرائن وشواهد الأحوال الظاهرة والحكم بموجبها. ضرب لها المثال بإقامة الحد على المتهم بالسرقة إذا وجد المسروق عنده. وهو يقرر رحمه الله تعالى: اختياره على أن الأصح من قولي أهل العلم، أن وجود المسروق في حوزة المتهم يوجب القطع وإن الحكم بهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار: لأنها خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب فالمستفاد منهما الظن الغالب. أما وجود المسروق في حوزة المتهم فيستفاد منه اليقين.
وفي ذلك يقول (1) :
(ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم. وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب. ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة) .
ويقول أيضاً (3) :
(1) الإعلام 3/ 20، 3/ 232، وبدائع الفوائد4/13، والطرق الحكمية ص/4، ص/6.
(2)
انظر: الطرق الحكمية ص/4. وانظر أيضاً ص/6.
(3)
انظر: أعلام الموقعين 3/20.
(والصحيح أنه يقام الحد على المتهم بالسرقة إذا وجد المسروق عنده) . وقال أيضاً (1) : (إنه أصح القولين) .
أدلة ابن القيم:
استدل ابن القيم على ذلك بقصة إخوة يوسف عليه السلام إلى قوله تعالى: (قالوا تا الله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين. قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين. قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين. فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه. ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف) الآيات (2) .
وجه الاستدلال:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بيانه منها (3) .
(فيها دليل على أن وجود المسروق بيد السارق كاف في إقامة الحد عليه. بل
هو بمنزلة إقراره. وهو أقوى من البينة. وغاية البينة أن يستفاد منها الظن وأما وجود المسروق بيد السارق فيستفاد منه اليقين) .
خلاف العلماء في هذه المسألة:
الحديث عن الخلاف في خصوص هذه القضية فرع عن الحديث في الحكم بالقرينة الظاهرة هل يقضى فيها بكل شيء من حقوق الله أو حقوق العبد. أو تقبل فيما عدا الحدود. أو تقبل في حقوق العباد وفي بعض الحدود دون بعض وقد تقدم سياق الخلاف في هذه المسألة في (باب الزنا) .
(1) - انظر: بدائع الفوائد 4/13.
(2)
الآيات من رقم 73- 76. سورة يوسف.
(3)
انظر: أعلام الموقعين 3/232