الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
في ليد الذرائع الموصلة إلى الخمر (1) .
في مباحث ابن القيم رحمه الله تعالى لسد الذرائع ذكر وجوهاً مما حرم في الشريعة سداً للذريعة ومنها عدة وجوه مما حرم سداً لذريعة الوصول إلى الخمر وهي كالآتي:
1- تحريم القطرة من الخمر
.
2-
النهي عن التخليل.
3-
النهي عن الانتباذ فوق ثلاث.
4-
النهي عن العصير بعد ثلاث.
5-
النهي عن الخليطين.
6-
النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية.
وابن القيم رحمه الله تعالى إضافة إلى بيانه لدلالة هذه الوجوه على سد الذريعة
إلى الخمرة، بيّن مواقف العلماء واختلافهم في هذه المناهي.
وإيضاح هذه الذرائع مع ما لحقه خلاف منها على ما يلي:
أولاً: تحريم القطرة من الخمر:
قال (2) : (حرم الشارع القطرة من الخمر، وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير، لكونها ذريعة إلى شرب كثيرها) .
(1) انظر: في هذا المبحث، أعلام الموقعين 2/83، 3/148،151، 171، 2/165،
وإغاثة اللهفان 1/361، 1/162، 362، 376، وزاد المعاد 3/141، 3/30، وبدائع
الفوائد 3/ 140.
(2)
انظر: إغاثة اللهفان 1/361
وقال أيضاً (1) : (وحرم القطرة الواحدة منها - أي من الخمر- لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة)(2) .
ودليل ابن القيم في هذا واضح وهو عموم الأدلة في تحريم الخمر من الكتاب والسنة كما تقدم (3) .
بل جاء في خصوص ذلك أحاديث منها:
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) رواه النسائي وغيره (4) .
وفي رواية للترمذي (5) من حديث عائشة (6) رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (ما أسكر الفرق (7) منه فالحسوة منه حرام) .
فالقطرة والحسوة يصدق على كل منهما اسم القليل. فتحريم القطرة إذا ثابت بالنص من الشارع والله أعلم.
اعتراض ورده:
ولابن القيم في سد الذريعة بتحريم القطرة من الخمر. مواقف مع نفاة المعاني في القياس والحكم والتعليل إذ قالوا: كيف أوجب الشارع الحد في القطرة الواحدة من الخمر دون الأرطال الكثيرة من البول؟.
(1) انظر: أعلام الموقعين 3/151.
(2)
الحسوة: هي الجرعة من الشراب بقدر ما يحس مرة واحدة (انظر: النهاية لابن الأثير) .
(3)
انظر فيما تقدم ص/514.
(4)
انظر سنن النسائي 8/298. وهو حديث صحيح انظر في تخريجه (فيض القدير للمناوي 5/420) .
(5)
انظر سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 3/105، ط الهندية.
(6)
هي: عائشة أم المؤمنين زوجة سيد المرسلين الصديقة بنت الصديق أبي بكر رضي الله عنه توفيت رضي الله عنها سنة 57 هـ. (انظر في ترجمتها الإصابة لابن حجر 4/348) .
(7)
الفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلاً (انظر: مختار الصحاح للرازي ص/500) .
أورد ابن القيم هذا التساؤل من النفاة في كتابيه (أعلام الموقعين)(1) و (بدائع الفوائد)(2) وانفصل عنه بالجواب: بأن هذا من كمال الشريعة ومراعاتها لصالح
العباد لأن الشارع ينظر إلى المحرم ومفسدته. وينظر إلى وازعه وداعيه. فيركب
العقوبة على صاحب المفسدة وإن كان في ذلك المحرم ما يمنع بطبعه بني آدم اكتفى
بذلك ولم يرتب عليه حداً كشرب البول والدم والقيء وأكل القذرة لأن ترتيب
الحد للزجر وطباع الناس تنفر منها فلا تكثر مواقعتها فلا يترتب إذاً الزجر بالحد.
وفي هذا يقول في أعلام الموقعين جواباً على ذلك الإيراد (2) :
(فهذا أيضاً من كمال الشريعة. ومطابقتها للعقول والفطر وقياسها بالصالح. فإن ما جعل الله في طباع الخلق النفرة منه، ومجانبته اكتفى بذلك عن الوازع عنه بالحد، لأن الوازع الطبيعي كافي في المنع منه. وأما ما يشتد تقاضي الطباع له فإنه غلظ العقوبة عليه بحسب شدة تقاضي الطبع له. وسد الذريعة إليه من قرب وبعد. وجعل ما حوله حمى، ومنع من قربانه
…
) .
ثانياً: النهي عن إمساكها للتخليل (4) :
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر، تتخذ خلاًّ، فقال
صلى الله عليه وسلم: لا. رواه مسلم (5) .
علة النهي:
وقد بيّن ابن القيم رحمه الله تعالى علة هذا النهي من الشارع فقال (6) : (لئلا
(1) انظر: 2/83 - 84.
(2)
انظر: 3/140.
(3)
انظر: 2/83.
(4)
هو: من الخل وهو ما حمض من عصير العنب وغيره (انظر القاموس 3/380) .
(5)
انظر: صحيح مسلم مع شرح النووي 13/152.
(6)
انظر: إغاثة اللهفان 1/362، وأعلام الموقعين 2/151، 165.
تفضي مقاربتها بوجه من الوجوه إلى إمساكها لشربها) .
وجه الاستدلال:
هذا الحديث نص في حرمة إمساك الخمر للتخليل، إذ النفي في هذا الحديث بمعنى النهي فهو خبر بمعنى الإنشاء، والنهي يدل على التحريم.
خلاف العلماء في التخليل (1) :
التحريم هو مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد رحمهم الله تعالى. والخلاف لأبي حنيفة رحمه الله تعالى إذ قال بإباحة التخليل.
التعليل لمذهب الحنفية:
وقد وجه ابن قدامة مذهب الحنفية بقوله (2) :
(لأن علة تحريمها زالت بتخليلها فطهرت كما لو تخللت بنفسها) .
الترجيح:
وهذا تعليل في مقابلة النص، وقد صح النص بالنهي عن إمساك الخمر لتخليلها فيجب التسليم لموجبه. إضافة إلى أن العلة ليست كما ذكره الحنفية، بل هي كما ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى (لئلا تفضي مقاربتها إلى إمساكها لشربها) .
لهذا فإن الراجح- والله أعلم- هو تحريم تخليل الآدمي للخمر وإن علة التحريم كما ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى (3) .
(1) انظر: المغني مع الشرح الكبير 1/343، وشرح فتح القدير 9/39. ونيل الأوطار 8/190
(2)
انظر: المغنى مع الشرح الكبير 1/343.
(3)
أما الخمر إذا تخللت بنفسها فهي حلال في قول كافة أهل العلم (انظر: المغنى1/343) .
ثالثاً: النهي عن الانتباذ (1) فوق ثلاث:
عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له فيشربه يومه
ذلك، والغد، واليوم الثالث، فإن بقي منه شيء أهرقه، أو أمر به فأهرق) رواه مسلم (2) والنسائي (3) بنحوه.
وقد أشار ابن القيم رحمه الله تعالى إلى ذلك مبيناً علة النهي فقال (4) : (وثبت في صحيح مسلم (أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتبذ له أول الليل، ويشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجيء، والغد إلى العصر، فإن بقي منه شيء سقاه الخادم أو أمر به فصب) .
وهذا النبيذ هو ما يطرح فيه تمر يحليه، وهو يدخل في الغذاء والشراب، وله نفع عظيم في زيادة القوة وحفظ الصحة.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يشربه بعد ثلاث خوفاً من تغيره إلى الإسكار.
فإذا كان مظنة الإسكار ففي تركه حسم لمادة قربان المسكر، وسد لذريعة الوصول إليه، وهذه المسألة قد ذكرها ابن قدامة (5) رحمه الله تعالى ولم يحك في هذا النهي خلافاً والله أعلم.
رابعاً: النهي عن شرب العصير (6) بعد ثلاث:
وفي معرض ذكر الأشربة النهى عنها سداً لذريعة الوصول إلى المسكر ذكر
(1) نبذ التمر او العنب ونحوهما: اتخذ منه النبيذ وأصل النبذ الطرح ومنه قيل للماء يطرح فيه ما يحليه نبيذ (انظر: المعجم الوسيط 2/903، وزاد المعاد 3/ 141) .
(2)
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 13/175.
(3)
انظر: سنن النسائي 8/ 270، وفي سياق ألفاظه ومخرجيه: نيل الأوطار 8/195- 96 1.
(4)
انظر زاد المعاد 3/141. وانظر أيضاً: أعلام الموقعين 3/ 151، وإغاثة اللهفان
(5)
انظر: المغني مع الشرح الكبير 1/341.
(6)
العصير، لغة هو: ما تحلب من الشيء عند عصره كعصير البرتقال ونحوه (انظر: المعجم الوسيط 2/610-611) .
ابن القيم رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شرب العصير بعد ثلاث: حسما لمادة قربان المسكر، وسداً لذريعة الوصول إليه (1) .
اختلاف العلماء (2) :
وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في النهي عن العصير بعد ثلاث على قولين:
القول الأول: وهو قول الجمهور أن العصير مباح ما لم يغل فإذا غلى وأسكر حرم قبل الثلاث وبعدها.
التدليل:
وقد دللوا على هذا القول بأن مدار التحريم على الشدة المطربة، وهي إنما تكون في المسكر خاصة فلا يحرم العصير إذا إلا إذا اشتد وصار مسكرا.
القول الثاني: وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن العصير إذا أتت
عليه ثلاثة أيام فقد حرم إلا أن يغلي قبل ذلك فيحرم.
أدلته:
وقد دل لمذهب أحمد رحمه الله تعالى عدة أدلة منها ما يلي:
1-
عموم أحاديث النهي عن النبيذ بعد ثلاث (3)
وجه الاستدلال:
هو أن العلة مشتركة بين النبيذ والعصير في النهي عن كل منهما بعد ثلاث إذ
كل منهما مظنة ظناً غالباً للإسكار، فيحرم العصير إذا بعد ثلاث.
(1) انظر: المغني مع الشرح الكبير 1/340، ونيل الأوطار 8/195 - 198. (2) انظر: فيما تقدم ص/537
ولهذا فإن المجد ابن تيمية ترجم على أحاديث النهي عن النبيذ بذلك فقال (1) : (باب شرب العصير ما لم يغل أو يأت عليه ثلاث) .
2-
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (اشربوا العصير ثلاثاً ما لم يغل)(2) .
3-
إن الحكم يثبت بغلبة الظن، والعصير بعد ثلاث يصير مظنة للتغيير ظناً غالباً، وأما قبل الثلاث فالظن فيه ضعيف
الترجيح:
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم هو النهي عن العصير بعد ثلاث مطلقاً
لقوة أدلة المذهب الحنبلي. من النص والتعليل. أما إذا غلي واشتد قبل ثلاث فإنه يحرم بالإجماع كما حكاه ابن قدامة رحمه الله تعالى.
النتيجة:
وعليه فقد سلم لابن القيم رحمه الله تعالى الاستدلال بالنهي عن العصير
بعد ثلاث على سد الذرائع الموصلة للمسكر والله أعلم.
خامساً: النهي عن الخليطين (3) :
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة (النهي عن الخليطين) .
منها حديث جابر (4) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يخلط الزبيب والتمر
(1) انظر: المنتقى مع شرحه نيل الأوطار 8/195.
(2)
انظر: المغني مع الشرح الكبير 1/340. وقد ذكره عن الشالنجي وقد بحثت عنه فلم أقف عليه.
(3)
هما: ما ينبذ من البسر والتمر معاً أو من العنب والزبيب، ونحو ذلك مما ينبذ مختلطاً (انظر: النهاية لابن الأثير 2/63 ونيل الأوطار 8/193) .
(4)
هو: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنه توفي بعد السبعين من الهجرة (انظر: التقريب 1/122) .
والبسر والتمر) متفق عليه (1) . وهذا مما نهى عنه سدا لذريعة الوصول إلى الخمر
وفي بيان ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :
(وبالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين)
وكون النهي عن شرب الخليطين: هو سدا لذريعة الوصول إلى المسكر، مما
اتفقت عليه كلمة العلماء (3) ، لأن الأنواع إذا اختلفت في الانتباذ كانت أسرع إلى
المسكر الحرم فنهى صلى الله عليه وسلم عن الخلط حتى لا تكون وسيلة إلى المسكر والله أعلم
اختلاف العلماء:
وقد اختلفت أقوال العلماء في حكم الخليطين بين النهي والإباحة، فما هي
أصح الأقوال في هذه المسأله حتى نعرف: هل يتم لابن القيم رحمه الله تعالى التدليل
بالنهي عنهما على سد الذرائع الموصلة إلى المسكر؟
فإلى بيان الخلاف وأدلته
القول الأول: تحريم الخليطين
وهو قول جماعة منهم: مالك وأحمد وإسحاق وظاهر مذهب وظاهر مذهب الشافعي
فقالوا: من شربه قبل حدوث الشدة فيه فهو آثم من جهة واحدة (وهي شربه
الخليطين) ، ومن شربه بعد حدوثها فهو آثم من جهتين (وهما: شرب الخليطين،
وشرب المسكر (4) .
أدلتهم:
استدلوا بأحاديث النهي عن الخليطين الواردة في الكتب الستة وغيرها من
(1) انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري. 1/67، وصحيح مسلم مع شرح النووي 13/173.
(2)
انظر: أعلام الموقعين 3/151، وانظر أيضاً: إغاثة اللهفان 1/362.
(3)
انظر: المغني مع الشرح الكبير1/342، والنهاية 2/63، وفتح الباري 1/67- 68.
(4)
انظر: معالم السنن للخطابي 5/267، وفتح الباري، 1/66- 67، والنهاية لابن الأثير
2/63، ونيل الأوطار 7/192- 193.
حديث جابر رضي الله عنه وأبي سعيد (1) رضي الله عنه وأبي قتادة (2) رضي الله
عنه وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. وهي بألفاظ متقاربة وجميعها يتضمن النهي عن الخليطين ومنها ما يلي:
أ- عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينبذ التمر والزبيب
جميعاً، ونهى أن ينبذ الرطب، والبسر جميعاً) رواه الجماعة (3) ، واللفظ لمسلم.
ب- عن أبي قتادة رضي الله عنه قال (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدته) . رواه الشيخان (4) واللفظ للبخاري.
وجه الاستدلال:
ووجه الاستدلال من هذين الحديثين أنهما نصان في محل النزاع: إذ جاء كل منهما بصيغة النهي، والنهي يدل على التحريم فيحرم الخليطان والله أعلم.
ج- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شرب
النبيذ منكم فليشربه زبيبا فرداً، أو تمراً فرداً، أو بسراً فرداً) . رواه مسلم (5)
والترمذي (6) والنسائي (7) . واللفظ لمسلم.
(1) هو: سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخدري رضي الله عنه توفي سنة 74 هـ. (انظر: التقريب 1/289، والإصابة 2/32- 33) .
(2)
هو: أبو قتادة بن ربعي الأنصاري الخدري رضي الله عنه، اختلف في اسمه والمشهور أنه: الحارث. مات بين الخمسين والستين من الهجرة رضي الله عنه (انظر: الإصابة 4/157- 158) .
(3)
انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 1/67، وصحيح مسلم مع شرح النووي 13/154 - 155، وسنن أبي داود 4/100، وسنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 3/109، ط الهندية وسنن النسائي 8/258، وسنن ابن ماجه 2/1125.
(4)
انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 1/67، وصحيح مسلم مع شرح النووي 13/154.
(5)
انظر: صحيح مسلم 13/154.
(6)
انظر: سنن الترمذي 3/107.
(7)
انظر: سنن النسائي 8/ 260.
وجه الاستدلال:
ودلالة هذا الحديث ظاهرة بطريق مفهوم المخالفة، فإن تقييد الشرب بالانفراد يدل على عدم جوازه مختلطاً، إذ تقييد الحكم بالوصف يدل على انتفائه عند انتفاء الوصف، والله أعلم.
القول الثاني: الكراهة.
وهو مذهب الشافعي (1) وحكي عن مالك (2) وذكر النووي الشافعي: أنه قول الجمهور. فقال (3) :
(مذهبنا، ومذهب الجمهور، أن هذا النهي لكراهة التنزيه، ولا يحرم ذلك ما
لم يصر مسكراً، وبهذا قال جماهير العلماء) .
دليلهم:
هو حمل أحاديث النهي عن الخليطين على الكراهة لا على التحريم، لأن الخلط
في ذاته حلال، ولا يكون مسكراً بمجرد الخلط،. لكن لما كان الخلط مظنة التغير سريعاً نهى عنه الشارع خشية أن يشربه الشارب ظاناً أنه ليس بمسكر، ويكون مسكراً.
وقد ذكر النووي سبب الكراهة فقال (4) :
(قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: سبب الكراهة فيه أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه، فيظن الشارب أنه ليس مسكراً ويكون مسكراً) .
(1) انظر: فتح الباري 10/68، وشرح مسلم 13/154، والمغني10/342.
(2)
انظر: المراجع السابقة.
(3)
انظر: شرح مسلم 13/154.
(4)
انظر: المرجع السابق.
القول الثالث: الإباحة:
وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى (1) وحكاه الخطابي: له ولسفيان (2) رحمه
الله تعالى
أدلته:
استدل لمذهب أبي حنيفة بالأثر والقياس، وبيانهما على ما يلي:
1-
الأثر: روي عن ابن زياد أنه قال: سقاني ابن عمر رضي الله عنهما، شربة ما كدت أهتدي إلى منزلي، فغدوت إليه من الغد، فأخبرته بذلك فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب (3) .
وجه الاستدلال:
هو أن يقال: إن هذا نوع من الخليطين أجاز شربه الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ولو كان منهياً عنه لما سقاه ابن زياد.
مناقشة هذا الدليل
وهذا الأثر مناقش رواية ودراية على ما يلي:
مناقشته رواية:
وهي أن هذا الأثر فيه ابن زياد وقد قال الحافظ ابن حجر في هذا الأثر (4) : (أخرجه محمد بن الحسن
…
وابن زياد لا أعرفه ولم أرَ من سماه) . فأثر في سنده مجهول ولم يعلم له شاهد ولا متابع لا يكون حجة بحال.
(1) انظر: شرح فتح القدير 9/33، ومعالم السنن للخطابي 5/276، وشرح النووي لمسلم 13/154، وفتح الباري، 10/69.
(2)
انظر: معالم السنن 5/276.
(3)
انظر: الهداية مع شرح فتح القدير 9/33.
(4)
انظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/248
مناقشته دراية:
وهي أن قول ابن زياد (ما كنت لأهتدي لأهلي) يشعر بإسكار الشربة التي سقاه ابن عمر رضي الله عنهما، والسكر من كل شراب حرام بالاتفاق فكيف يستدل بذلك على الحل للخليطين.
على أنا نجل الفقيه الورع الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يسقي شخصاً شراباً فيه إسكار والله أعلم.
ب- القياس: وهو قياس الخليطين في الحل على المفرد في الحل أيضاً وفي هذا يقول النووي رحمه الله تعالى في معرض الاستدلال لهذا القول (1) : (قالوا:
لا بأس به لأن ما حل بمفرده حل مخلوطاً) .
مناقشة هذا القياس:
وهذا الدليل مناقش من وجهتين:
الأولى أنه قياس في مقابلة النص والقاعدة أنه لا قياس مع النص (2) .
الثانية: أن القياس غير سليم لأنه قياس مع الفارق.
ووجه الفرق: أن العلة في حل المفرد هي عدم إفضائه غالباً إلى المسكر، أما المخلوِط فيفضي إلى السكر غالباً، لأن الخلط يقوي أحد النوعين على الآخر فيسرع إليه الإسكار.
وعليه: فإن هذا القياس لا يتم الاستدلال به والله أعلم.
موقف الحنفية من أحاديث النهي:
يرى الحنفية أن أحاديثه النهي كانت في أول الإسلام حين الحاجة والشدة فلما
(1) انظر: شرح مسلم للنووي 13/154.
(2)
انظر: فتح الباري 10/69. ونيل الأوطار 8/194
فتح الله على عباده النعم أباح الجمع بين الخليطين. وفي هذا يقوِل البابرتي (1) :
(النهي عن الجمع بين التمر والزبيب، كان في الابتداء في وقت كان بين المسلمين ضيق وشدة في أمر الطعام لئلا يجمع بين الطعامين، ويترك جاره جائعاً بل يأكل أحدهما، ويؤثر الآخر على جاره، ثم لما وسع الله على عباده النعم أباح الجمع بين النعمتين) .
حديث عائشة رضي الله عنها:
وقد تتبعت كثيراً من المطولات لدى الحنفية فلم أرهم يذكرون حديث عائشة رضي الله عنها للدلالة على النسخ وهو أنها قالت:
(كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء، فنأخذ قبضة من تمر، وقبضة من زبيب
فنطرحهما، ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة فيشربه عشية، وننبذه عشية فيشربه غدوة) رواه ابن ماجه (2) . ولعله لعدم معرفة تأخره عن أحاديث النهي عن الخليطين عدل الحنفية رحمهم الله تعالى عن ذكره ناسخاً والله أعلم.
مناقشة جواب الحنفية:
جواب الحنفية هذا يتضمن القول بنسخ أحاديث النهي، وهم لا يذكرون دليلاً عليه ناسخاً، والنسخ لا بد فيه من معرفة الدليل الناسخ، المكتمل لشروطه
من ثبوت التأخر للناسخ، وقيام التعارض بين الدليلين مع عدم إمكان الجمع وهذا ما لم يثبت هنا.
فظهر إذا أن قول الحنفية بإباحة الخليطين مطلقاً، لا تنهض أدلته على مقاومة
أحاديث. النهي.
(1) انظر: العناية شرح الهداية 9/33 - بحاشية شرح فتح القدير لابن الهمام. (2) انظر: سنن ابن ماجه 2/1126. وانظر: نيل الأوطار 8/193.
ولهذا اشتد نكير الأئمة على مذهب الحنفية فقال النووي (1) :
(وأنكر عليه- أي على أبي حنيفة- الجمهور، وقالو منابذة لصاحب الشرع فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في النهي عنه، فإن لم يكن حراماً كان مكروهاً) . وقال ابن حجر (2) :
(وشذ من قال: لا بأس به) .
الترجيح:
هذه هي أقوال العلماء في هذه المسألة. وهذه عمدتهم في الأدلة لها. والمناظر
يرى تجاذباً شديداً بين النهي والإباحة. ذلك أن أحاديث النهي صحيحة صريحة في النهي عن الخليطين. وحديث عائشة صحيح صريح في شرب النبي صلى الله عليه وسلم للخليطين وأنه كان يصنع له في بيته صلى الله عليه وسلم. وهما في المنزلة كما ترى وإن كانت أحاديث النهي أكثر وأشهر وقد اتفق على روايتها الشيخان البخاري ومسلم. إلا أن حديث عائشة رضي الله عنها خارج مخرج الصحيح وهو صريح في الإباحة لفعله صلى الله عليه وسلم فما بقي إذا من وجوه دفع التعارض في الظاهر إلا اللجوء إلى الجمع أو النسخ. والنسخ هنا غير وارد للجهل بتاريخ المتقدم من المتأخر فيهما. فما هو المسلك السليم إذا في الجمع بين أدلة النهي والإباحة؟.
وللانفصال بالجواب عن هذا أقول:
ليعم أولاً أن مناط التحريم هو السكر باتفاق الأئمة (3) . فإذا صار الشراب من الخليطين فيه إسكار فإنه حرام باتفاق الأئمة كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (4) .
(1) انظر: شرح مسلم 13/154.
(2)
انظر: فتح الباري 10/69.
(3)
انظر: مجموع فتاوى بن تيمية 34/201.
(4)
انظر: المرجع السابق.
وعلى هذا فإن نصوص المسألة هذه تتنزل على ما يلي:
أولاً: ما كانت مدة الانتباذ فيه قريبة وهي يوم وليلة، لا يتوهم الإسكار فيها. فهو مباح إذا وعلى هذا يتنزل حديث عائشة رضي الله عنها.
ثانياً: ما كانت مدة الانتباذ فيه للخليطين محتملة للإفضاء إلى الإسكار وهي
ما كان فوق يوم وليلة وما دون ثلاث ليال. فهذا مكروه ما لم يتغير. لتخلف مناط التحريم عنه.
ثالثاً: ما كانت مدة الانتباذ فيه للخليطين قد مضى عليها ثلاث ليال وتغير بغليان ونحوه. فهذا حكمه التحريم.
هذا هو ما ظهر لي في هذه المسألة وبه إن شاء الله تعالى تجتمع الأدلة وينتفي التعارض الظاهر. وهذا هو ما جنح إليه الشيخ أبو محمد بن قدامة في كتابه المغني إذ قال بعد سياقه لحديث عائشة رضي الله عنها (1) :
(لما كانت مدة الانتباذ قريبة وهي يوم وليلة لا يتوهم الإسكار فيها لم يكره.
فلو كان مكروهاً لما فعل هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم له. فعلى هذا: لا يكره ما كان
في المدة اليسيرة. ويكره ما كان في مدة يحتمل إفضاؤه إلى المسكر. ولا يثبت التحريم ما لم يغل أو تمضِ عليه ثلاثة أيام) .
ولعله بهذا يظهر لنا جلياً أنه قد تمّ لابن القيم الاستدلال بالنهي عن الخليطين على سد الذرائع الموصلة للخمر ولكن على التنزيل المذكور والله أعلم.
سادساً: النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية (2) :
روى مسلم (3) بسنده عن زاذان (4) قال: قلت لابن عمر حدثني بما نهى عنه النبي
(1) انظر: المغني 10/ 342.
(2)
انظر: أعلام الموقعين 3/151، وإغاثة اللهفان 1/161 وزاد المعاد3/30.
(3)
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 13/165.
(4)
هو: زاذان الكندي البزار ويكنى أبا عبد الله وأبا عمر مات سنة 282 هـ. روى له مسلم والأربعة (انظر: التقريب 1/256) .
صلى الله عليه وسلم من الأشربة بلغتك وفسره لي بلغتنا، فإن لكم لغة، سوى لغتنا فقال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتم (وهي الجرة) وعن الدباء (وهي القرعة) وعن المزفت
(وهو المقير) وعن النقير (وهي النخلة تنسخ نسخاً، وتنقر نقراً،) وأمر أن ينبذ
في الأسقية) .
وقد روي بمعناه أحاديث كثيرة في النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية كما في حديث وفد عبد القيس (1) وغيره.
وفي ذكر النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :
(ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به) .
ويزيد ابن القيم رحمه الله تعالى هذا المعنى إيضاحاً مبيناً علة النهي فيقول (3) : (وسر المسألة أن النهي عن الأوعية المذكورة من باب سد الذرائع إذ الشراب يسرع إليه الإسكار فيها.
وقيل: بل النهي عنها لصلابتها، وإن الشراب يسكر فيها ولا يعلم به، بخلاف الظروف غير المزفتة، فإن الشراب متى غلا فيها وأسكر انشقت فيعلم أنه مسكر.
وعلى كلا العلتين فهو من باب سد الذريعة، كالنهي أولاً عن زيارة القبور سداً لذريعة الشرك، فلما استقر التوحيد في نفوسهم وقوي عندهم أباح لهم في زيارتها غير أن لا يقولوا هجراً.
وهكذا قد يقال في الانتباذ في هذه الأوعية: أنه فطمهم عن المسكر وأوعيته وسد الذريعة إليه، إذ كانوا حديثي عهد بشربه فلما استقر تحريمه عندهم واطمأنت
(1) هم: قبيلة عدنانية قدم وفدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانوا أربعة عشر راكباً رئيسهم الأشج
العصري (انظر: شرح مسلم 1/181) . وقد ساق مسلم حديثهم وفيه النهي عن الانتباذ في
بعض الأوعية وشرحها النووي شرحاً وافياً.
(2)
انظر: أعلام الموقعين 3/ 151.
(3)
انظر: زاد المعاد 3/30.
إليه نفوسهم، أباح لهم الأوعية كلها غير ألا يشربوا مسكراً، فهذا فقه المسألة وسرها) .
رأي ابن القيم. في استمرار النهي:
في هذه المسألة وأمثالها يحصل الغلط من كثير من أهل العلم في الإفصاح عن اختيارات العلماء وآرائهم في مسائل العلم. فمثلاً ابن القيم في هذه المسألة. ذكر في معرض بحثه لقاعدة سد الذرائع وجوهاً كثيرة مما ورد النهي عنه سداً للذريعة. كما في كتابيه (الأعلام)(1) و (الإغاثة)(2) فقال في الكتابين:
(ونهى- عن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به) . فيظن الناظر لكلامه هذا أن اختيار ابن القيم أو رأيه هو النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية. بينما الأمر على خلافه فإنه يرى أن هذا من الأحكام المنسوخة وإن الشارع نهى عن الانتباذ في هذه الأوعية في أول الأمر سداً لذريعة الوصول إلى الخمر وقربانها (3)(إذ كانوا حديثي عهد بشربه فلما استقر تحريمه عندهم، واطمأنت إليه نفوسهم أباح لهم الأوعية كلها غير ألا يشربوا مسكراً) ثم قال: (وهذا فقه المسألة وسرها)(4) .
فتبين أن رأي ابن القيم هو عدم بقاء النهي وإن الأمر عاد إلى الإباحة. وإن ما ذكره في كتابيه (الأعلام) و (الإغاثة) في معرض الذرائع لا حرج عليه فيه، ولا يفهم منه أن هذا رأيه، لأن النهي عن الانتباذ في الأوعية المذكورة
لما كانوا حديثي عهد بشرب الخمر. فسد كل باب موصل إليه فلما استقر في نفوسهم حرمة الخمر أباح الانتباذ في الأوعية كلها غير ألا يشربوا مسكراً والله أعلم.
(1) انظر: 3/147- 171.
(2)
انظر: 1/360- 376.
(3)
انظر: زاد المعاد 3/ 30.
انظر: زاد المعاد 3/ 30
الدليل الناسخ:
ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن الدليل الناسخ هو حديث بريدة رضي الله عنه فقال (2) :
(عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نهيتم عن الظروف، وإن
ظرفا لا يحل شيئاً ولا يحرمه وكل مسكر حرام) رواه مسلم) (3) .
وحديث بريدة رضي الله عنه قد ورد بنحوه عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم أنس رضي الله عنه (4) وجابر رضي الله عنه (5) وغسان التيمي (6) رضي
الله عنه وغيرهم كما رواها الإمام أحمد رحمه الله تعالى (7) .
والقول بالنسخ هو مذهب الجماهير من أهل العلم منهم الحنفية (8) والشافعية (9) ورواية عن أحمد (10) وهو اختيار البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه (11) وابن قدامة (12) والخطابي (13) وابن حجر (14) وغيرهم من المحققين والله أعلم.
(1) هو: بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه مات سنة 63 هـ. (انظر: التقريب 1/96 والإصابة 1/150) .
(2)
انظر: زاد المعاد 3/30.
(3)
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 13/158- 160.
(4)
انظر: مسند أحمد بترتيب الساعاتي: الفتح الرباني 17/128.
(5)
انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 10/57.
(6)
انظر: المسند بترتيب الساعاتي 17/127. والتيمي: هو غسان التيمي رضي الله عنه كان في وفد عبد القيس (انظر: تعجيل المنفعة ص/216) .
(7)
انظر: الفتح الرباني 17/126 - 129.
(8)
انظر: شرح فتح القدير 9/38.
(9)
انظر: معالم السنن 5/273.
(10)
انظر: زاد المعاد 3/30.
(11)
انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري. 10/58.
(12)
انظر: المغني مع الشرح الكبير: 10/341 - 343.
(13)
انظر: معالم السنن 5/273.
(14)
انظر: فتح الباري 10/58
القول المخالف:
وبعد أن قرر ابن القيم رحمه الله تعالى القول بنسخ أحاديث النهي وأنه قول الجمهور، ذكر القول الثاني: وهو أن أحاديث النهي محكمة غير منسوخة وذكره رواية عن الإمام أحمد (1) .
وهو أيضاً مذهب مالك رحمه الله تعالى (2) .
موقفهم من أحاديث النسخ:
وقد بيّن ابن القيم رحمه الله تعالى وجهة نظر من قال بأن أحاديث النهي محكمة
- نحو الأحاديث المفيدة لنسخها فقال (3) : (ومن قال بإحكام أحاديث النهي وأنها غير منسوخة قال: هي أحاديث تكاد تبلغ التواتر في تعددها، وكثرة طرقها، وحديث الإجازة فرد فلا يبلغ مقاومتها) .
مناقشتهم:
هكذا ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى وجهة المخالف ولم يتعقبها بشيء، والجواب عنها من وجهين:
الأول: أن حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه قد كثرت مخارجه وعدلت نقلته ويكفي أنه في صحيح الإمام مسلم مسنداً من وجوه عدة إلى بريدة رضي الله
عنه (4) . وليس من شرط الحديث الناسخ ألا يكون فردا بل شرطه الصحة والسلامة والثبوت. وحديث بريدة صحيح ثابت وسالم من شذوذ أو علة ولهذا فإن القائلين بعدم النسخ، لم يؤثر عنهم إبداء قوادح في إسناده. ودونها خرط القتاد. فتبيّن إذاً
أنه يصلح أن يكون بمفرده ناسخاً لأحاديث النهي.
(1) انظر: زاد المعاد 3/30.
(2)
انظر: معالم السنن 5/273
(3)
انظر: زاد المعاد 3/ 30
(4)
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 13/167 -168.
الثاني: أن بريدة رضي الله عنه لم ينفرد بنقل النص الناسخ بل رواه غيره من الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث جابر رضي الله عنه عند البخاري. وأحاديث أنس، وعلي، وأبي هريرة، وعبد الله المزني (1) وغيرهم كما عند الإمام أحمد في مسنده. فكيف يقال إنه فرد لا يبلغ قوة المقاومة لأحاديث النهي. ويضيف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عذراً آخر لن قال باستمرار النهي فيذكر أن (منهم من لم يبلغه النسخ)(2) وإذ قد بلغ فليكن حجة على من بلغه والله أعلم.
الخلاصة والترجيح:
يتضح مما تقدم أن القول بالنسخ هو مذهب الجماهير من العلماء منهم الحنفية والشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد واختيار جماعة من محققي العلماء منهم البخاري، والخطابي، وابن قدامة وغيرهم وإن حجتهم في هذا حجة أحاديث النسخ لأحاديث النهي من حديث بريدة رضي الله عنه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم. وهذا هو ما اختاره ابن القيم رحمه الله تعالى.
وإن القول ببقاء الحظر هو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وإن هذا القول لا يثبت أمام النقد لعدم سلامة الدفع لأحاديث النسخ.
وعليه فإن ما ذهب إليه الجمهور من عود الحكم إلى الإباحة واختاره ابن القيم رحمه الله تعالى هو أرجح القولين وأولاهما بالقبول والله أعلم.
(1) هو: عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه مات سنة 57 هـ. انظر تقريب التهذيب لابن حجر 1/453) .
(2)
انظر مجموع الفتاوى 28/338
المبحث الرابع
في عقوبة شارب الخمر (1)
تناول ابن القيم رحمه الله تعالى الحديث عن عقوبة شارب الخمر في عدة فروع:
الفرع الأول: أن عقوبة الشارب حدية لا تعزيرية.
الفرع الثاني: في بيان مقدار العقوبة.
الفرع الثالث: في بيان أن قتل الشارب في الرابعة تعزيراً.
الفرع الرابع: في بيان أنواع من العقوبات التعزيرية لشارب الخمر.
الفرع الخامس: في العقوبة المالية للخمار.
وإلى بيانها على هذا الترتيب:
الفرع الأول: أن عقوبة الشارب حدية مقدرة لا تعزيرية:
يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى اختياره من أن عقوبة الشارب حدية مقدرة لا تعزيرية مبيناً أن هذا هو خلاصة ما تدل عليه الأحاديث فيقول (2) :
(ومن تأمل الأحاديث رآها تدل على أن الأربعين حد والأربعون الزائدة عليها تعزير، وقد اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم .
ولعل ابن القيم رحمه الله تعالى اكتفى بهذه الخلاصة، ولم يورد النقاش على
(1) انظر في هذا المبحث وفروعه: أعلام الموقعين 2/97، 3/117، 3/152 وما بعدها،
وزاد المعاد 2/66، 98، 3/210،211 وإغاثة اللهفان 1/331 وما بعدها في مبحث العقوبات المالية والطرق الحكمية ص/10- 20، 308، 312، وتهذيب السنن 6/237- 238.
(2)
انظر: زاد المعاد 3/211
عادته لتكاثر النصوص على دلالته حتى حكى فيه الإجماع.
ولكن قد أثير الخلاف في هذه القضية، فلا بد إذا من تحرير الكلام فيها، لأنها من باب التأصيل في أحكام الخمر.
فإلى إيراد الإجماع ومناقشته من المخالف ثم مناقشة المخالف فما أورده.
حكاية الإجماع:
حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم على أن عقوبة شارب الخمر حدية مقدرة والخلاف إنما حصل في التقدير. وممن حكى الإجماع في هذا:
ابن حزم، والقاضي عياض (2) ، وابن هبيرة (3) ، وابن قدامة (4) ، والحافظ ابن حجر (5) ، والمرتضى في (البحر الزخار)(6) .
منزلة هذا الإجماع:
تعاقب على هذا الإجماع عالمان: الحافظ ابن حجر يدافع عنه ويؤيده (7) والعلاّمة الشوكاني (8) يرفض هذا الدفاع وينقض هذا الإجماع. وإليك البيان:
(1) انظر: مراتب الإجماع ص/133.
(2)
انظر: فتح الباري لابن حجر 12/72.
(3)
انظر: الإفصاح عن معاني الصحاح 2/426.
(4)
انظر: المغني 10/333.
(5)
انظر: فتح الباري 12/ 72.
(6)
انظر: البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأنصار 5/193 ط مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة 368 هـ. مؤلفه: أحمد بن يحيى بن المرتضى الزبيدي المتوفى سنة 840 هـ. (انظر في ترجمته الأعلام 1/255) .
(7)
انظر: فتح الباري 12/72.
(8)
انظر: نيل الأوطار 7/150- 151.
تعقب الإجماع:
حكى الحافظ ابن حجر (1) : أن الطبري، وابن المنذر (2) ، وغيرهما حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير.
أدلتهم:
استدلوا بجملة من الأحاديث الواردة (3) في الصحيحين وغيرهما التي تفيد عدم تعيين عدد الضرب ومنها:
1-
حديث علي رضي الله عنه قال: (ما كنت لأقيم الحد على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن (رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه) رواه الشيخان) (4) .
2-
عن أنس رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد
والنعال وجلد أبو بكر أربعين) رواه البخاري (5) .
3-
عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقف في الخمر
حداً) رواه أبو داود. (6) .
قال الحافظ ابن حجر (إسناده قوي)(7) .
وجه الدلالة:
قالوا فهذه الأحاديث وأمثالها صريحة من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد في الخمر حداً
(1) انظر: فتح الباري 12/72.
(2)
محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري مات بمكة سنة 309 هـ. وقيل غيرها، (انظر: شذرات الذهب لابن العماد 2/280) .
(3)
انظر: في جمعها، فتح الباري 12/70- 72.
(4)
انظر: البخاري مع فتح الباري 12/66. وصحيح مسلم مع النووي 11/220.
(5)
انظر: البخاري مع فتح الباري 12/63، 66.
(6)
انظر: سنن أبي داود 4/619.
(7)
انظر: فتح الباري 12/ 72.
مقدراً فما دام لم يقدر فهو ليس بحد فيكون إذاً: تعزيراً.
الجواب عن هذه الأدلة: من وجهين:
الوجه الأول: النصوص الحديثية: وتعقبت هذه الأدلة بأنه قد وردت نصوص تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد فيها أربعين جلدة. وقد اعتمدها أبو بكر رضي الله عنه
في خلافته، وعمر رضي الله عنه في خلافته، وعمر رضي الله عنه في صدر خلافته حتى تتابع الناس فيها فزادها أربعين. ومنها ما يلي:
1-
حديث علي رضي الله عنه قال: (جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين. وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة) . رواه أبو داود (1) .
2-
ما أخرجه مسلم في صحيحه (2) : (أن عثمان رضي الله عنه أمر علياً بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر (3) اجلده فجلده فلما بلغ الأربعين قال امسك: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي) . ورواه أيضاً أبو
داود (4) ، وابن ماجه (5) .
قال الحافظ ابن حجر (في هذا الحديث: الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين)(6) .
3-
حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر
بالنعال والجريد أربعين) رواه مسلم (7) .
(1) انظر: سنن أبي داود 4/623.
(2)
انظر: صحيح مسلم مع النووي 11/216.
(3)
هو: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي مات سنة 80 هـ. وله صحبة (انظر تقريب التهذيب لابن حجر 1/406) .
(4)
انظر: سنن أبي داود 4/622- 623.
(5)
انظر: سنن ابن ماجه 2/858.
(6)
انظر: فتح الباري 12/72.
(7)
انظر: صحيح مسلم مع شرح النووي 11/216.
وجه الاستدلال:
يقال فهذه الأحاديث وما ورد في معناها تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب في الخمر عقوبة مقدرة، فجلد أربعين. فهي إذا عقوبة حدية مقدرة من الشارع صلى الله عليه وسلم. ومن
رواة هذه الأحاديث علي وأنس رضي الله عنهما اللذين هما من رواة الأحاديث التي استدل بها على عدم الحدية.
الجمع بين الأحاديث:
يبقى أن يقال ما هو الجمع بين أحاديث الفريقين
والجواب: إن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن تعارضها ولا تضاربها بل يجب أن تنزل السنن منازلها تأليفاً لها ونفياً لتعارضها في الظاهر فالنصوص بمجموعها تفيد: أن الحد استقر من النبي صلى الله عليه وسلم على أربعين جلدة لشارب الخمر، بدلالة أن هذا هو ما استقر في مفهوم الصحابة رضي الله عنهم. واعتماد أبي بكر رضي الله عنه هو حجة في ذلك كما قاله الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى (1) .
وقال أيضاً (2) :
(وقد وقع التصريح بالحد المعلوم فوجب المصير إليه ورجح القول بأن الذي اجتهد فيه زيادة على الحد إنما هو تعزير) .
وأحاديث المعارض المتقدمة يجاب عنها بما يلي:
جواب ابن القيم عن حديث علي رضي الله عنه:
تقدم قول علي رضي الله عنه (أن رسول الله لم يسنه)(2) وقد أجاب عنه ابن القيم فقال (3) :
(1) انظر: فتح الباري 12/ 70.
(2)
انظر: فتح الباري 12/ 71.
(3)
انظر: زاد المعاد 3/ 211
(المراد بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقدر فيه بقوله تقديراً لا يزاد عليه. ولا ينقص كسائر الحدود، وإلا فعلي رضي الله عنه قد شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ضرب فيها أربعين وقوله (إنما هو شيء قلناه) يعني التقدير بثمانين فإن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم فأشاروا بثمانين فأمضاها. ثم جلد علي في خلافته أربعين وقال هذا أحب إلي) .
وهذا الجواب من ابن القيم هو ما أجاب به جمع من الأئمة رحمهم الله تعالى منهم الحافظ ابن حجر وقال (1) : (وبه جزم البيهقي وابن حزم) .
الجواب عن حديث أنس رضي الله عنه:
أما قول أنس رضي الله عنه (إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال
وجلد أبو بكر أربعين) (2) .
فيقال هذا حق لكن سنة أبي بكر هذه من الجلد بأربعين هي سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر وأنس رضي الله عنه راوي الحديثين فإنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين)(3) .
وحديث المعارض أيضاً ليس فيه نفي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلد أربعين فالتأمت بذلك السنن والحمد لله.
الجواب عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
أما حديث ابن عباس المتقدم أنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر
حداً) (4) فالجواب عنه أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يبلغه التعيين المذكور وقد
وقع التعيين بأربعين، وخفاء بعض السنن على بعض أجلاء الصحابة أمر منتشر في
(1) انظر: فتح الباري 12/72.
(2)
انظر: فيما تقدم ص/290.
(3)
انظر: فيما تقدم ص/291.
(4)
انظر: ص/290
كتب السنة. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت فيه كما تقدم والله أعلم. الجواب الثاني: من الجواب عن أدلة المعارض: الإجماع، فالإجماع منعقد على
أن عقوبة شارب الخمر عقوبة حدية مقدرة من الشارع صلى الله عليه وسلم كما حكاه غير واحد
من أهل العلم منهم: ابن حزم، والقاضي عياض، وابن هبيرة، وابن قدامة، والمرتضى، وابن حجر، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في صدر هذه المسألة، والله أعلم.
اعتراض الشوكاني ومناقشته:
انتصر الشوكاني للقول بأن عقوبة الخمر غير مقدرة. وادعى عدم التسليم بالإجماع، وأنه لم يأتِ رواية بالتقدير فقال (1) : (والحاصل أن دعوى إجماع الصحابة رضي الله عنهم غير مسلمة. فإن اختلافهم في ذلك قبل إمارة عمر وبعدها وردت به الروايات الصحيحة. ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاقتصار على
مقدار معين
…
فالأولى الاقتصار على ما ورد عن الشارع من الأفعال وتكون جميعها جائزة) .
مناقشة:
يقدح الشوكاني في الإجماع المذكور بوجود الاختلاف المذكور: وهذا قدح غير وارد لأن الاختلاف الحاصل إنما هو فيما زاد على الأربعين، أما الأربعين فلا خلاف فيها بدلالة فعل أبي بكر رضي الله عنه كما تقدم.
وأما قوله (إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاقتصار على مقدار معيّن) فقد تقدم طرف من الأحاديث التي تنص على أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على أربعين ومنها حديث أنس عن مسلم في صحيحه.
(1) انظر: نيل الأوطار 7/150- 151