الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا في حد من حدود الله) . قد قامت القرينة على أن المراد بها (الجنايات ذات العقوبات المقدرة) لأن السياق في مقام العقاب، والعقاب من الشارع.
إما مقدر فهو: على جريمة حدية، أو غير مقدر فهو على ما سواها وهو المراد بهذا الحديث والله أعلم.
ولذا فإن
المسلك الرابع
في الجواب عن هذا الحديث وهو أن عمل الصحابة على خلافه فصار الإجماع على ترك العمل به له وجه في النظر وبيانه كالآتي:
المسلك الرابع: أن إجماع الصحابة على خلاف العمل به فعزروا رضي الله عنهم بأكثر من عشر جلدات وتنوعت تعازيرهم في ذلك من غير نكير. وممن حكى إجماع الصحابة رضي الله عنهم بالعمل على خلافه من غير إنكار جماعة من المحققين. منهم الأصيلي (1) ، والنووي (2)، وحكاه عنه الحافظ ابن حجر فقال (3) :(وهو المعتمد فإنه لا يعرف القول به عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم . وحكى الإجماع أيضاً الرافعي (4) وهو مسبوق بمن ذكر وبغيرهم وكذا قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر كلام الرافعي (5) :
(وسبق إلى دعوى عمل الصحابة بخلافه الأصيلي وجماعة) .
(1) انظر: تلخيص الحبير 4/79 والأصيلي: هو عبد الله ابن إبراهيم الأموي توفي سنة 392 هـ. (انظر: الأعلام 4/ 187)
(2)
انظر: فتح الباري 12/179.
(3)
انظر: نفس المرجع.
(4)
انظر: تلخيص الحبير 4/79 والرافعي: هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القزويني من كبار الشافعية توفي سنة 623 هـ. (انظر: الأعلام 4/179) .
(5)
انظر: تلخيص الحبير 4/79
اضطراب موقف الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
من كلمات الحافظ ابن حجر المتقدمة هذه نرى أنه أقر الإجماع كما حكاه النووي رحمه الله تعالى لكنه في نفس كتابه (فتح الباري) تعقب دعوى الإجماع في معرض رده على القائلين بنسخ الحديث بالإجماع من الصحابة على خلافه (1)
بقوله:
(ورد- أي الإجماع- بأنه قال به بعض التابعين وهو قول الليث بن سعد أحد فقهاء الأمصار) .
ومعلوم أن الإجماع المذكور محكي عن الصحابة رضي الله عنهم فمخالفة الليث رحمه الله تعالى بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم فكيف ينقض الإجماع بعد انقراض عصره بمخالفة الليث رحمه الله تعالى والحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى من أهل التتبع والاستقراء التام والإحاطة بالأثر فلو كان عنده أثر مخالف عن صحابي لذكره والله أعلم.
وللحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مناقشة أخرى للإجماع ذكرها في كتابه (تلخيص الحبير) إذ نقل عن البيهقي أنه روى في مقدار التعزير آثار مختلفة ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى (3) : (فتبين بما نقله البيهقي من اختلاف الصحابة رضي الله عنهم: أن لا اتفاق على عمل في ذلك
…
) . وتعقب الحافظ ابن حجر بأن هذا غير وارد لأن الاختلاف المروي عن الصحابة رضي الله عنهم هو في المقدار لا في حكم الحديث واختلاف العمل به. ولهذا فإن العلامة المناوي رحمه الله تعالى لما ذكر أن عمل الصحابة رضي الله
(1) انظر: فتح الباري 12/178.
(2)
انظر: تلخيص الحبير 4/79.
عنهم على خلاف هذا الحديث قال (1) :
(ونوزع بما لا يجدي) .
فثبت من هذا المسلك أن عمل الصحابة رضي الله عنهم على خلاف هذا الحديث وأن الاختلاف الحاصل في الرواية عنهم هو اختلاف تنوع في مقدار التعزير في أحوال مختلفة وليس اختلافاً في مقتضى الحديث. والجواب عن هذا الحديث بهذا المسلك ليس غريباً بل هو محكي في طائفة من الأحاديث تبلغ نحو ثلاثين حديثاً جمعتها في جزء مستقل (3) والله أعلم.
اختيار ابن القيم في مقدار أكثر التعزير:
ظاهر كلام ابن القيم رحمه الله تعالى اختياره القول الثاني من هذه الأقوال لقوله في كتابه (الطرق الحكمية)(3) :
(الثاني- هو أحسنها- أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية قدر الحد فيها) . وهذا الظاهر يخالف ما قرره في موضع آخر من نفس كتابه (الطرق الحكمية) وقرر في مواضع من كتبه، من اختياره القول الأول: وهو أنه لا حد لأكثره بل بحسب المصلحة، فإنه قال في (الطرق الحكمية) (4) :
(والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم يوافق القول الأول..) .
وقال في (أعلام الموقعين)(5) :
(1) انظر: فيض القدير 6/446.
(2)
وانظر: كتاب العلل من جامع الترمذي. وشرحه لابن رجب ص/43- 52، ط بغداد سنة 1396 هـ.
(3)
انظر: ص/107.
(4)
انظر: ص/108.
(5)
انظر: 2/29
(إن التعزير لا يتقدر بقدر معلوم بل هو بحسب الجريمة في جنسها وصفتها وكبرها وصغرها) .
وفيه أيضاً بعد كلامه على حكمة الحدود قال (1) :
(ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة- وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة- جعلت عقوباتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور، بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم، فمن سوى بين الناس في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمة الشرع، واختلفت عليه أقوال الصحابة، وسير الخلفاء الراشدين وكثير من النصوص، ورأى عمر قد زاد في حد الخمر على أربعين والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جلد أربعين، وعزر بأمور لم يعزر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنفذ على الناس أشياء عفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فيظن ذلك تعارضاً وتناقضاً وإنما أتى من قصور علمه وفهمه وبالله التوفيق) .
وفي (إغاثة اللهفان) ذكر أن الأحكام على نوعين: نوع لا يتغير بحال الحدود المقدرة على الجرائم. ونوع يتغير حسب المصلحة كمقادير التعزيرات فقال فيها (2) :
(النوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له، زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة
…
) .
فهذه النقول المتعددة تؤيد اختياره القول الأول: وهو أن التعزير بحسب المصلحة وهو أظهر في الترجيح والاختيار من القول الثاني والله أعلم.
(1) انظر: 2/109.
(2)
انظر: إغاثة اللهفان 1/ 331