المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأولفي الاعتراض على عقوبة الزنى ورده - الحدود والتعزيرات عند ابن القيم

[بكر أبو زيد]

فهرس الكتاب

- ‌موضوع البحث:

- ‌دوافع البحث:

- ‌مسلك البحث الإجمالي:

- ‌خطوات العرض والدراسة في هذين المسلكين:

- ‌كتاب الحدود

- ‌توطئة

- ‌لماذا سمّيت العقوبات المقدرة (حدوداً) :

- ‌المبحث الأول:في آثار المعاصي شرعاً وقدراً

- ‌المبحث الثاني:في حكم إقامة الحد بدار الحرب

- ‌اختياره رحمه الله تعالى

- ‌سلفه في تقرير هذا الاختيار:

- ‌ استدلاله من السنة:

- ‌ استدلاله بالإجماع:

- ‌ استدلاله بقياس الأولى

- ‌مسلك الموازنة:

- ‌المبحث الثالث:في تأخير الحد لعارض

- ‌المبحث الرابع:إقامة الحد بالقرينة الظاهرة

- ‌ استدلاله بقياس الأولى:

- ‌الترجيح والاختيار:

- ‌باب حد الزنى

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأولفي الاعتراض على عقوبة الزنى ورده

- ‌المبحث السادسفي اشتراط الإسلام في الإحصان

- ‌المبحث السابع:في عقوبة الزاني المحصن

- ‌المناقشة والترجيح:

- ‌المبحث الثامن:في عقوبة من زنى بجارية امرأته

- ‌المبحث التاسع:في عقوبة من زنى بذات محرمة

- ‌المبحث الرابع عشر:في مفاسد اللوطية الصغرى

- ‌المبحث الخامس عشر:في مفاسد اللواط

- ‌بَابُ حدِّ القذْف

- ‌توطئة

- ‌ مواطن بحث القذف عند العلماء:

- ‌المبحث الخامس:عقوبات القاذف

- ‌العقوبة الأولى: جلد القاذف

- ‌العقوبة الثالثة: عدم قبول شهادته

- ‌الأولى: عدم قبول شهادته بعد حده ما لم يتب

- ‌الثانية: هل عدم قبول شهادة القاذف من تمام عقوبته أم لفسقه

- ‌الثالثة: في حكم قبول شهادته بعد توبته

- ‌الترجيح:

- ‌باب حد الخمر

- ‌توطئة

- ‌لماذا سمّيت الخمر خمراً:

- ‌حقيقة السكر بين الفقهاء وابن القيم:

- ‌أسباب السكر:

- ‌ الأولى: حكمة الشرع في تحريم الخمر

- ‌1- تحريم القطرة من الخمر

- ‌الفرع الثانيبيان مقدار العقوبة

- ‌الترجيح:

- ‌ رأي ابن حزم

- ‌ رأي ابن تيمية وابن القيم:

- ‌ التعزير: بالنفي

- ‌التعزير بالحلق للرأس:

- ‌تعزير الشارب في رمضان:

- ‌الفرع الخامس:العقوبة المالية للخمار

- ‌المبحث الخامس:إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة

- ‌باب حد السرقة

- ‌المبحث الأول:حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده

- ‌الشرط الخامس: انتفاء الشبهة

- ‌ العقوبات التعزيرية للسارق

- ‌المبحث السابع:في توبة السارق

- ‌باب الردة

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول:في ردة من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني:في ردّة قاذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

- ‌المبحث الخامس:في توبة الزنديق

- ‌باب التعزير

- ‌المبحث الأولفي مقدار التعزير

- ‌ المسلك الرابع

- ‌الترجيح:

- ‌المبحث الثاني:في أنواع العقوبات التعزيرية

- ‌الفرع الثاني: تنويعها باعتبار أثرها في المال

- ‌الخاتمةفي خلاصَة البحث ونتائجه

الفصل: ‌المبحث الأولفي الاعتراض على عقوبة الزنى ورده

‌المبحث الأول

في الاعتراض على عقوبة الزنى ورده

(1) .

تختلف عقوبة الزنى باختلاف حال الزاني، فالجلد والتغريب عقوبة الزاني البكر، والرجم عقوبة الزاني المحصن.

وعلى أي من الحالين فقد أورد نفاة المعاني والقياس اعتراضاً على عقوبة الزنى، فقالوا: هذا تفريق في الشرع بين المتماثلات، فكيف يعاقب الشارع السارق بقطع يده، ويترك معاقبة الزاني بقطع فرجه والفرج هو العضو الذي باشر فيه معصية الزنى كما أن اليد هي الآلة التي باشر فيها معصية السرقة (2) .

وقد ناقش ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الاعتراض، وأتى عليه بالنقض والرد

له من وجوه متعددة مبيناً أن هذا من أفسد القياس وأبطله، وإن عين الحكمة والكمال: هي فيما رتبه الشارع على كلّ جريمة بما يناسبها من عقاب. ونستطيع أن نستخلص وجوه الرد والتعقب لهذا الاعتراض فيما يلي:

1-

أن الفرج عضو خفي مستور لا تراه العيون فلا يحصل بقطعه مقصود الشارع بالحد من الزجر والردع للغير، وهذا بخلاف السارق بقطع يده.

2-

أن في قطع العضو التناسلي قطع للنسل وتعريض للهلاك وقضاء على النوع الإنساني وهذا بخلاف قطع يد السارق.

3-

أن لذة الزنى سرت في جميع البدن كلذة العضو المخصوص فكان الأحسن أن تعم العقوبة جميع البدن الذي نالته اللذة المحرمة.

4-

أن السارق إذا قطعت يده بقيت له يد أخرى تعوض عنها بخلاف الفرج فإنه

(1) انظر: أعلام الموقعين 1/126، 2/52، 106- 108. والداء والدواء ص/160.

(2)

انظر: أعلام الموقعين 2/52

ص: 97

إذا قطع لم يبق له ما يقوم مقامه لتتميم مصالحه بتنمية النوع الإنساني.

5-

أن قطع العضو التناسلي مفض إلى الهلاك، وغير المحصن لا تستوجب جريمته الهلاك، والمحصن يناسب جريمته أشنع القتلات، ولا يناسبها قطع

بعض أعضائه. فافترقا.

لهذه الوجوه ولغيرها من أسرار التشريع- التي أبدى ابن القيم رحمه الله تعالى الكثير منها - يتبين للمنصف أن عقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه وأقومها بالمصالح وأوفقها للعقل كما في عقوبة الزنى، وإن الشارع لم يفرق بين متماثلين قط، كما أنه لم يجمع بين ضدين أبداً، بل وضع كلّ حكم موضعه المناسب له ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.

وهذه الوجوه قد أبداها ابن القيم رحمه الله تعالى مختصرة ومبسوطة، فيحسن

بنا بعد هذا السياق ذكر كلامه الشامل في ذلك إذ يقول (1) :

(وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كلّ جان كلّ عضو عصاه به فيشرع قلع عين من نظر إلى محرم، وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدواناً، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها.

وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كف

عدوانه أقرب وأن يعتبر به غيره وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحاً، وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة.

إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.

(1) انظر: أعلام الموقعين 2/106 - 108

ص: 98

ثم إن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سراً كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون (فلان ينظر إلى فلان مسارقة) إذا كان ينظر إليه نظراً خفياً لا يريد أن يفطن له، والعازم على السرقة كاتم مختف خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء

وأما الزاني: فإنه يزني بجميع بدنه، والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن، والغالب

من فعله وقوعه برضاء المزني بها، فهو غير خائف ما يخافه السارق من الطلب، فعوقب بما يعم بدنه من الجلد مرة والقتل بالحجارة مرة.

ولما كان الزنى من أمهات الجرائم وكبائر المعاصي لما فيه من اختلاط الأنساب

الذي يبطل معه التعارف والتناصر على إحياء الدين، وفي هذا إهلاك الحرث والنسل، فشاكل معانيه أو في أكثرها القتل الذي فيه هلاك ذلك، فزجر عنه بالقصاص ليرتاع عن مثل فعله من يهم به، فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم

الموصل إلى إقامة العبادات الموصلة إلى نعيم الآخرة.

ثم إن للزاني. حالتين:

إحداهما: أن يكون محصناً قد تزوج، فعلم ما يقع به من العفاف عن الفروج المحرمة، واستغنى به عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنى، فزال عذره من

جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام.

والثانية: أن يكون بكراً، لم يعلم ما علمه المحصن ولا عمل ما عمله فحصل له

من العذر بعض ما أوجب له التخفيف، فحقن دمه، وزجر بإيلام جميع بدنه بأعلى

أنواع الجلد ردعاً عن المعاودة للاستمتاع بالحرام وعوناً له إلى القناعة بما رزقه

الله من الحلال.

وهذا في غاية الحكمة والمصلحة، جامع للتخفيف في موضعه، والتغليظ في موضعه، وأين هذا من قطع لسان الشاتم والقاذف وما فيه من الإسراف والعدوان؟.

ص: 99

ثم إن قطع فرج الزاني فيه من تعطيل النسل وقطعه عكس مقصود الرّب تعالى، من تكثير الذرية وذريتهم فيما جعل لهم من أزواجهم. وفيه من المفاسد أضعاف ما يتوهم فيه من مصلحة الزجر، وفيه إخلاء جميع البدن من العقوبة، وقد حصلت جريمة الزنى بجميع أجزائه، فكان من العدل أن تعمه العقوبة، ثم أنه غير مقصور في حق المرأة، وكلاها زان، فلا بد أن يستويا في العقوبة فكان شرع الله سبحانه أكمل من اقتراح المقترحين

) .

المبحث الثاني:

حكمة التشريع في تحريم الزنى (1)

تناول ابن القيم رحمه الله تعالى هذا المبحث بالبسط والتتبع لأسرار التشريع مجلياً له بإبراز مفاسد الزنى، وإظهار آثاره السيئة. ومضاره على مصالح العباد في معاشهم ومعادهم.

وقد لهج به في مواطن من كتبه فرأيت أن أستخلصها برقم تسلسلي يضم مفردات هذه الحكم والأسرار واحدة إثر واحدة، مع المحافظة على مقوله فيها وهي على ما يلي:

1-

مناقضة الزنى لصلاح العالم، في أنسابهم وأعراضهم.

قال رحمه الله تعالى (2) :

(مفسدة الزنى مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس.

(1) انظر: روضة المحبين ص/351- 362، والداء والدواء ص/219،220، 236- 238.

وإغاثة اللهفان 1/59 - 67، 2/142- 168.

(2)

انظر: الداء والدواء ص/236. وانظر حكمة التشريع وفلسفته للجرجاني 2/283 -

289 ط الخامسة سنة 1381 ط بالمطبعة اليوسفية في مصر.

ص: 100

وإن حملت من الزنى: فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنى والقتل وإن حملته على

الزوج أدخلت على أهله وأهلها أجنبياً ليس منهم فورثهم وليس منهم، ورآهم

وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم، إلى غير ذلك من مفاسد زناها.

وأما زنى الرجل، فانه يوجب اختلاط الأنساب أيضاً، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والمفاسد، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين

فكم في الزنى

من استحلال لحرمات وفوات حقوق. ووقوع مظالم) .

وقال أيضاً (1) :

(لما كانت مفسدة الزنى من أعظم المفاسد، وهي منافية لمصلحة نظام العالم في

حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقي ما يوقع أعظم العدواة، والبغضاء بين الناس، من إفساد كلّ منهم امرأة صاحبه وابنته وأخته

وأمه، وفي ذلك خراب العالم كانت تلي مفسدة القتل في الكبر، ولهذا قرنها الله

سبحانه بها في كتابه لرسوله صلى الله عليه وسلم في سننه.

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ولا أعلم بعد قتل النفس شيئاً أعظم من الزنى،

وقد أكّد سبحانه حرمته بقوله (2) (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون

النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، يضاعف له

العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب) الآية.

فقرن الزنى بالشرك وقتل النفس، وجعل جزاء ذلك الخلود في العذاب المضاعف، ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح وقد قال

تعالى (3)(ولا تقربوا الزنى أنه كان فاحشة وساء سبيلاً) فأخبر سبحانه عن فحشه في نفسه، وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقر فحشه في العقول

(1) انظر: الداء والدواء ص/219.

(2)

من الآية رقم 68 سورة الفرقان.

(3)

الآية رقم 32 سورة الإسراء.

ص: 101

حتى عند كثير من الحيوان كما ذكر البخاري في صحيحه (1) عن عمرو بن ميمون

الأودي (2) قال (رأيت في الجاهلية قرداً زنى بقردة، فاجتمع القرود عليها

فرجموها حتى ماتت) .

ثم أخبر عن غايته بأنه ساء سبيلاً، فإنه سبيل هلكة وبوار وافتقار في الدنيا،

وعذاب وخزي ونكال في الآخرة

) .

2-

الزنى يجمع خلال الشر كلها:

قال رحمه الله تعالى (3) :

(الزنى يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانياً معه ورع، ولا وفاء بعهد ولا صدق في حديث، ولا

محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء،

وعدم الأنفة للحرم، وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته) .

3-

الزنى يفتح على العبد أبواباً من المعاصي:

وفي بيان هذا يقول رحمه تعالى (4) :

(ومنها أن الزنى يجرئه على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق وإضاعة أهله وعياله، وربما قاده قسراً إلى سفك الدم الحرام، وربما

استعان عليه بالشرك وبالسحر، وهو يدري ولا يدري فهذه المعصية لا تتم إلا

بأنواع من المعاصي قبلها وبعدها، ويتولد عنها أنواع أخر من المعاصي بعدها.

فهي محفوفة بجند من المعاصي قبلها وجند بعدها، وهي أجلب شيء لشر الدنيا

(1) انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/156. وانظر: روضة المحبين ص/358.

(2)

هو: عمرو بن ميمون الأودي أبو عبد الله الكوفي توفي سنة 74 هـ. (انظر: التقريب 2/80) .

(3)

انظر: روضة المحبين ص/358.

(4)

انظر: روضة المحبين ص/361

ص: 102

والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة وإذا علقت بالعبد فوقع في حبائلها وأشراكها عز على الناصحين استنقاذه، وأعيى الأطباء دواؤه فأسيرها لا يفدى، وقتيلها لا يودى، وقد وكلها الله تعالى بزوال النعم فإذا ابتلى بها عبد فليودع نعم الله فإنها ضيف سريع الانتقال، وشيك الزوال، وقال الله تعالى (2)(ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) . وقال تعالى (2) وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال)

4-

الزنى يولد الأمراض النفسية والقلبية.

وفي بيانها يقول رحمه الله تعالى (3) :

(ومن خاصيته أيضاً - أي الزنى - أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته ويجلب الهم والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان) . وقال أيضاً (4) :

(ومنها ظلمة القلب وطمس نوره)

وقال أيضاً (5) :

(ومنها الوحشة التي يضعها الله سبحانه وتعالى في قلب الزاني، وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه فالعفيف على وجهه حلاوة وفي قلبه أنس، ومن جالسه استأنس به، والزاني تعلو وجهه الوحشة ومن جالسه استوحش به) .

وقال أيضاً (6) :

(1) الآية رقم 54 سورة الأنفال.

(2)

الآية رقم 12 سورة الرعد.

(3)

انظر: الداء والدواء ص/237.

(4)

انظر: روضة المحبين ص/359.

(5)

انظر: روضة المحبين ص/360.

(6)

انظر: روضة المحبين ص/360 -361

ص: 103

(ومنها ضيقة الصدر وحرجه فإن الزناة يعاملون بضد قصودهم فإن من طلب لذة العيش وطيبه بما حرمه الله عليه عاقبه الله [بنقيض] (*) قصده، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط. ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور وانشراح الصدر وطيب العيش لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف ما حصل له) .

5-

الزنى يورث الفقر والمسكنة.

وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (1) :

(ومنها أنه يورث الفقر اللازم. وفي أثر يقول الله تعالى (2)(أنا الله مهلك الطغاة ومفقر الزناة) .

6-

الزنى يورث نفرة العباد من الزناة وسقوطهم من أعينهم.

وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (3) :

(ومنها، أنه يذهب حرمة فاعله ويسقطه من عين ربّه ومن أعين عباده

ومنها: قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله وأصحابه وغيرهم له، وهو أحقر شيء

في نفوسهم وعيونهم، بخلاف العفيف فإنه يرزق المهابة والحلاوة.

ومنها: أن الناس ينظرونه بعين الخيانة ولا يأمنه أحد على حرمته ولا على ولده) .

7-

الزنى: يولد سيماء الفساد في وجه فاعله.

وفي بيان ذلك يقول رحمه الله تعالى (4) :

(1) انظر: روضة المحبين ص/359. وانظر أيضاً: الداء والدواء ص/236.

(2)

هذا الأثر لم أقف عليه.

(3)

انظر: روضة المحبين ص/359، 360.

(4)

انظر: روضة المحبين ص/358، 360. والداء والدواء ص/237.

(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوع (بتقبض)

ص: 104

(ومنها: سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو للناظرين.... فالعفيف على وجهه حلاوة وفي قلبه أنس ومن جالسه استأنس به والزاني تعلو وجهه الوحشة ومن جالسه استوحش به) .

8-

الزنى: يولد رائحة كريهة بغيضة.

قال رحمه الله تعالى (1) :

(ومنها: الرائحة التي تفوح عليه يشمها كل ذي قلب سليم، تفوح من فيه وجسده ولولا اشتراك الناس في هذه الرائحة، لفاحت من صاحبها ونادت عليه ولكن كما قيل:

كلّ به مثل ما بي غير أنهم

من غيرة بعضهم للبعض عذال) .

9-

الزنى: يورث العقاب الأليم في البرزخ وفي يوم القيامة.

وفي كشف هذا يقول رحمه الله تعالى (2) :

(سبيل الزنى أسوأ سبيل، ومقيل أهلها في الجحيم شر مقيل ومستقر أرواحهم

في البرزخ تنور من نار يأتيهم لهبها من تحتهم فإذا أتاهم اللهب ضجوا وارتفعوا، ثم يعودون إلى موضعهم فهم هكذا إلى يوم القيامة كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه (3) ورؤيا الأنبياء وحي لا شك فيها) .

هذا ما أبرزه ابن القيم رحمه الله تعالى من لطائف الحكم ودقائق الأسرار التشريعية في بيان حكمة تحريم الزنى بإظهار أضراره ومفاسده وآثاره السيئة المناقضة لصلاح العالم أفراداً وجماعات ومنه يقف الناظر على جملة من الحكم

(1) انظر روضة المحبين ص/360.

(2)

انظر: روضة المحبين ص/351.

(3)

يشير إلى حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه وقد ساقه رحمه الله تعالى بطوله من ص/351 -354.

ص: 105

التشريعية الجليلة في سبب حرمة الزنى، لا يجد الكثير منها عند كثير من الكاتبين في هذا المجال (1) . وهذا تدليل على ما لدى ابن القيم رحمه الله تعالى من السعة والشمول وفقه النفس والوقوف العميق على أسرار التشريع ومحاسنه والله المستعان.

المبحث الثالث:

في سد الذرائع (2) الموصلة إلى الزنى (3)

قاعدة التشريع التي لا تنخرم أن الله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئاً حرم الأسباب والدوافع الموصلة إليه سداً للذريعة وكفاً عن الوقوع في حمى الله ومحارمه، ليعيش في مجتمع مملوء بالإباء والشمم عن كافة الرذائل والطرائق

الموصلة إليها حتى يلقى الله تعالى وهو على هدى من الله وصراط مستقيم.

ولهذا فإن علماء الشريعة استنبطوا بطريق التتبع والاستقراء لمواطن التنزيل

قاعدة شريفة هامة تعتبر من الكليات التشريعية التي تعايش المسلم في كلّ لحظة وآن، تلك هي: قاعدة (سد الذرائع الموصلة إلى المحرمات) .

وابن القيم رحمه الله تعالى قرر هذه القاعدة، واستدل لها من وجوه الأدلة بما

(1) انظر: حكمة التشريع وفلسفته للجرجاني 2/383- 389، ومحاسن شرائع الإسلام للفقيه محمد بن عبد الرحمن البخاري الحنفي م سنة 456 هـ. - ص/59- 61 ط القدسي بمصر سنة 1357 هـ

(2)

الذرائع جمع ذريعة، وهي اللغة الوسيلة كما في لسان العرب 9/451) وفي الاصطلاح: عند الأصوليين سد الذريعة هي: منع التوسل بما هو مباح إلى ما هو مفسدة. كما في (الفروق)

للقرافي 2/32، وتنقيح الفصول ص/144.

(3)

انظر في بيان سد الذرائع الموصلة إلى الزنى: أعلام الموقعين 3/149، 151، 161، 162،163،165، 168، وإغاثة اللهفان 1/48، 49، 362،364، ومدارج السالكين 1/118، 369، وبدائع الفوائد 2/271، 272، والداء والدواء ص/ 221-

223،142، 262 والطرق الحكمية ص/324- 327.

ص: 106

يقارب مائة وجه من الكتاب والسنة (1) ، وبيّن أن قاعدة سد الذرائع، أحد أرباع التكليف، فإنه وجه ذلك فقال (2) :

(وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه والثاني: وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني: ما يكون وسيلة إلى مفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين) .

وفي خضم هذا المبحث ذكر ضروباً ووجهاً مما ورد في الكتاب والسنة من سد الذرائع الموصلة إلى فاحشة الزنا، وعرضها بأسلوبه العلمي الأخاذ الخالي من التعقيد والجفاف وبيانها على ما يلي:

1-

نهى النساء عن الضرب بالأرجل.

قال رحمه الله تعالى (3) :

(قال الله تعالى ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) . فمنعهن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائزاً في نفسه لئلا يكون سبباً إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن) .

وهذا المنهي عنه- من وسائل الإغراء والإشارة- هو نهي تحريم كما فهمه ابن القيم وهو محل اتفاق من علماء التفسير.

وابن القيم في مقام دلالة النص على قاعدة سد الذرائع، وإلا فإن الآية تفيد أيضاً النهي عن كلّ حركة من شأنها أن تثير الغريزة وتلهب داعي الشهوة، وفي ذلك يقول ابن كثير رحمه الله تعالى (8) :(وقوله تعالى (ولا يضربن بأرجلهن)

(1) انظر: في بيان هذه القاعدة أعلام الموقعين 3/147- 171 وإغاثة اللهفان 1/361 – 376

(2)

انظر: أعلام الموقعين 3/ 171.

(3)

انظر: أعلام الموقعين 3/149، وإغاثة اللهفان 1/364

(4)

انظر: تفسير القرآن العظيم 3/285 ط دار الفكر بمصر.

ص: 107

الآية كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستوراً فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى ولا يضربن بأرجلهن) إلى آخره) .

2-

وهذا الأمر بغض البصر (1) .

وهذا أمر مطلوب من الجنسين الرجال والنساء لقوله تعالى (2) (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم أن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن " الآية.

وابن القيم رحمه الله تعالى قد أبدى في هذه الذريعة عجباً فأبدى كلاماً يزع الأبصار الخائنة، والأعين الفاجرة عن غوايتها إن كان لديها بقية من إيمان واستجابة لداعي الرحمن. وقد أكثر اللهج برعاية حرمات الله، وأنا في هذا المقام أسوق للقارئ شذرة من كلامه المنثور والمنظوم إذ يقول (3) :

(أما اللحظات: فهي رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل حفظ الفرج، فمن أطلق بصره أورده موارد الهلكات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى ".

وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم (4)"النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضّ بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه " هذا معنى

(1) انظر: إغاثة اللهفان 1/48 - 49، 1/364. ومدارج السالكين 1/118، 1/369. وبدائع الفوائد 2/ 271- 272. والداء والدواء ص/ 221- 223، ص/142، ص/260. وروضة المحبين ص/90- 136 وهو مبحث جداً.

(2)

الآيتان رقم 30، 31 سورة النور.

(3)

الداء والدواء ص/ 221- 223.

(4)

تتبعته في المسند فلم أجده ولم أر من عزاه لمسند أحمد. وقد عزاه المنذري في الترغيب والترهيب 3/34 للحاكم والطبراني وكذا العجلوني في (كشف الخفاء) 2/328

ص: 108

الحديث. وقال (1)" غضّوا أبصاركم واحفظوا فروجكم " وقال (2) (وإياكم والجلوس على الطرقات قالوا يا رسول الله مجالسنا، ما لنا بدّ منها، قال: إن كنتم لا بد فاعلين، فأعطوا الطريق حقّه، قالوا: وما حقّه؟ قال: غض البصر، وكفّ الأذى، ورد السّلام".

والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فالنظرة تولد خطرة ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد، ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل " الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده ".

قال الشاعر

كلّ الحوادث مبداها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة بلغت من قلب صاحبها

كمبلغ السهم بين القوس والوتر

والعبد ما دام ذا طرف يقلبه

في أعين العين موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته

لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

ومن آفات النظر: أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه، وهذا من أعظم العذاب: أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه، ولا قدرة على بعضه (3) .

قال الشاعر:

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً

لقلبك يوماً، أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر

عليه، ولا عن بعضه أنت صابر

(1) انظر:- مسند الإمام أحمد 5/323 حيث رواه من حديث.

(2)

رواه أحمد في المسند 6/385 والبخاري وغيره (انظر المعجم المفهرس 1/185) .

(3)

كذا، وربما كان أصله " ولا قدرة لك على كله ليوافق ما بعده.

ص: 109

وهذا البيت يحتاج إلى شرح. ومراده: أنك ترى ما لا تصبر عن شيء منه ولا تقدر عليه، فإن قوله " لا كله أنت قادر عليه" نفي لقدرته على الكلّ الذي لا ينفى إلا بنفي القدرة عن كلّ واحد واحد.

وكم من أرسل لحظاته فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلاً كما قيل: يا ناظراً، ما أقلعت لحظاته

حتى تشحط بينهن قتيلاً

ولي من أبيات:

ملّ السّلامة فاغتدت لحظاته

وقفاً على طلل يظن جميلاً

ما زال يتبع إثره لحظاته

حتى تشحط بينهن قتيلاً

ومن العجب: أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه، حتى يتبوأ مكاناً من "قلب الناظر، ولي من قصيدة:

يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً

أنت القتيل بما ترمي فلا تصب

يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له

احبس رسولك، لا يأتيك بالعطب

وأعجب من ذلك: أن النظرة تجرح القلب جرحاً، فيتبعها جرحاً على جرح، ثم

لا يمنعه ألم الجراحة من استدعاء تكرارها. ولي أيضاً في هذا المعنى:

مازلت تتبع نظرة في نظرة

في إثر كلّ مليحة ومليح

وتظن ذاك دواء جرحك وهو في الـ

تحقيق تجريح على تجريح

فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا

فالقلب منك ذبيح أي ذبيح

وقد قيل: إن حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات) .

3-

النهي عن الخلوة بالأجنبية.

: وفي ذلك يقول رحمه الله تعالى (1) :

(1) انظر: أعلام الموقعين 3/ 151. وانظر أيضاً: إغاثة اللهفان 1/362

ص: 110

(أنه صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن) .

وقال أيضاً (1) :

(نهى صلى الله عليه وسلم الرجال عن الدخول على النساء لأنه ذريعة ظاهرة) .

وهذا محل إجماع ولو في باب من أبواب الخير والرشاد كإقراء القرآن وتعليم العلم، وقد حكى الإجماع على ذلك الحافظان ابن حجر والشوكاني (2) .

4-

النهي عن سفر المرأة بلا محرم.

قال رحمه الله تعالى (3) :

ونهى صلى الله عليه وسلم عن السفر بلا محرم وما ذاك إلا أن سفرها بغير محرم قد يكون ذريعة إلى الطمع فيها والفجور بها) .

5-

النهي عن خروج المرأة متطيبة.

وفي ذلك يقول (4) :

(ونهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخوراً وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوقهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها، فأمرها أن تخرج تفلة ولا تتطيب

كلّ ذلك سداً للذريعة وحماية عن المفسدة) .

6-

النهي من أن تصف المرأة المرأة لزوجها.

وفي هذا يقول (5) :

(1) انظر: أعلام الموقعين 3/163

21) انظر: نيل الأوطار 3/324.

(3)

انظر: أعلام الموقعين 3/163، 151. وانظر: نيل الأوطار 3/324، 3/425.

(4)

انظر: أعلام الموقعين 3/161. وانظر: تفسير بن كثير 3/285-286.

(5)

انظر: أعلام الموقعين 3/ 161

ص: 111

(نهى صلى الله عليه وسلم أن تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها، ولا يخفى أن ذلك سداً للذريعة، وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها

في نفسه، وكم ممن أحب غيره بالوصف قبل الرؤية) .

7-

الأمر بالتفريق بين الأولاد في المضاجع.

وفي هذا يقول رحمه الله تعالى (1) :

(أمر صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين الأولاد في المضاجع، وإن لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فراش واحد، لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما: المواصلة المحرمة بواسطة اتحاد الفراش ولا سيما مع الطول. والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا يشعر، وهذا أيضاً من ألطف سد

الذرائع) .

8-

النص من الشياع

قال رحمه الله تعالى في ذلك (2) :

(أنه صلى الله عليه وسلم حرّم الشياع: وهو المفاخرة بالجماع، لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس والتشهي، وقد لا يكون عند الرجل من يغنيه عن الحلال فيتخطى إلى الحرام. ومن هذا كان المجاهرون خارجين من عافية الله وهم المتحدثون بما فعلوه من المعاصي، فإن السامع تتحرك نفسه إلى التشبه، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما

لا يعلمه إلا الله) .

9-

إبطال أنواع من الأنكحة التي يتراضاها. الزوجان.

وفي بيانها وبيان وجه الإبطال يقول (3) :

(1) انظر: أعلام الموقعين 3/162.

(2)

انظر: أعلام الموقعين 3/165.

(3)

انظر: أعلام الموقعين 3/168

ص: 112

(أنه صلى الله عليه وسلم أبطل أنواعاً من النكاح الذي يتراضى به الزوجان سداً لذريعة الزنى: فمنها: النكاح بلا ولي، فانه أبطله سداً لذريعة الزنى، فإن الزاني لا يعجز أن يقول للمرأة: انكيني أنكحيني نفسك بعشرة دراهم) ويشهد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم، فمنعها من ذلك سداً لذريعة الزنى.

ومن هذا تحريم نكاح التحليل الذي لا رغبة للنفس فيه في إمساك المرأة واتخاذها زوجة بل وطر فيما يفضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة وإن اختلفت الصورة.

ومن ذلك تحريم نكاح المتعة، الذي يعقد فيه المتمتع على المرأة مدة يقضي وطره منها فيها.

فحرم هذه الأنواع كلها سداً لذريعة السفاح، ولم يبح إلا عقداً مؤبداً يقصد

فيه كلّ من الزوجيين المقام مع صاحبه، ويكون بأذن الولي وحضور الشاهدين، أو ما يقوم مقامهما من الإعلان.

فإذا تدبرت حكمة الشريعة وتأملتها حق التأمل رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سد الذرائع، وهي من محاسن الشريعة وكمالها) .

10-

النهي عن اختلاط الجنسين.

وقد ورد بذلك جملة الأحاديث الصحيحة منها قوله صلى الله عليه وسلم (باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء)

وفي بيان الذريعة يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) :

(لا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال: أصل كل بلية وشر، وهو

من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنى، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة

فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنى

(1) انظر الطرق الحكمية ص/312

ص: 113

بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات

ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية - قبل الدين - لكانوا أشد شيء منعاً لذلك..) .

هذه جملة من المناهي التي وردت في الشريعة الإسلامية سداً لإثارة الغرائز وتهييج الشهوات حماية للمجتمع وصيانة له من الوقوع في جريمة الزنا وهذا باب في الشريعة مطرد: إذا حرّم الله شيئاً سد الأبواب الموصلة إليه والله أعلم.

المبحث الرابع:

خصائص حد الزنى (1)

ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن الله سبحانه خص حد الزنى من بين الحدود بثلاث خصائص وهي على ما يلي (3) :

الأولى: تغليظ العقوبة

قال رحمه الله تعالى في بيانها:

(أحدهما: أن القتل فيه بأشنع القتلات، وحيث خففه جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة) . وهذه الخصيصة قد تضافرت النصوص على بيانها: فالقتل عقاب مشترك بين عدد من الجرائم: كالبغاة، والمحاربين، والقاتل المتعمد، لكن كونه رجماً بالحجارة حتى تزهق النفس لا يكون هذا عقاباً مرضياً لأي جريمة سوى جريمة الزناة المحصنين كما دلت عليه النصوص الشرعية. والجلد أيضاً عقوبة مشتركة بين جملة من الحدود: فالقاذف عقوبته الجلد والسكير عقوبته الجلد، لكن الزاني البكر وإن كانت عقوبته الجلد

(1) انظر: الداء والدواء ص/238- 240.

(2)

انظر: الداء والدواء ص/238.

ص: 114

إلا أنها تخالف غيرها من ناحيتين:

أولاهما، أن الجلد مائة جلدة وليس في الحدود ما يبلغ ذاك حداً.

الثانية: أن من تمام الحد التغريب، ولا يكون التغريب عقوبة حدية في غير: حد الزاني البكر والله أعلم.

الثانية: التنصيص على نهي العباد عن أن تأخذهم رأفة بالزناة.

قال رحمه الله تعالى في بيانها (1) :

(الثاني أنه نهى عباده أن تأخذهم رأفة في دينه، بحيث تمنعهم من إقامة الحد

عليهم، فإنه سبحانه من رأفته ورحمته بهم شرع هذه العقوبة فهو أرحم بكم، ولم

تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة، فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من

إقامة أمره) .

وهذه الخصيصة قد نبه الله تعالى عليها في محكم تنزيله إذ يقول (2)(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله أن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) .

حكمة التشريع في هذه الخاصية:

ثّم يبيّن ابن القيم رحمه الله تعالى أن النهي للعباد عن أن تأخذهم رأفة بالجرمين عام في حق كلّ مجرم أو بغيره لكنه ذكر في حد الزنى خاصة لأسرار تشريعية

نوه عنها بقوله (3) :

وهذا - وإن كان عاماً في سائر الحدود- لكن ذكر في حد الزنى خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره، فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما

(1) الداء والدواء ص/238.

(2)

الآية رقم 2 سورة النور.

(3)

انظر: الداء والدواء ص/239

ص: 115

يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر، فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم والواقع شاهد بذلك: فنهى أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله) .

سبب هذه الرحمة

ثم يستطرد ابن القيم رحمه الله في أسباب وجدان هذه الرحمة في نفوس العباد-

في حق المحدودين في هذه الفاحشة فيقول (1) :

وسبب هذه الرحمة: أن هذا ذنب يقع من الأشراف والأوساط والأرذال، وفي النفوس أقوى الدواعي إليه، والمشارك فيه كثير، وأكثر أسبابه العشق والقلوب

مجبولة على رحمة العاشق وكثير من الناس يعد مساعدته، طاعة وقربة، وإن كانت

الصورة المعشوقة محرمة عليه، ولا يستنكر هذا الأمر فإنه مستقر عند ما شاء الله

من أشباه الأنعام، ولقد حكى لنا من ذلك شيئاً كثيراً- نقاص العقول كالخدم والنساء.

وأيضاً، فإن هذا ذنب غالب ما يقع مع التراضي من الجانبين ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه.

وفي النفوس شهوة غالبة له فيصور ذلك لها فتقوم بها رحمة تمنع إقامة الحد، وهذا كله من ضعف الإيمان.

وكمال الإيمان أن تقوم به قوّة يقيم بها أمر الله ورحمة يرحم بها المحدود فيكون موافقاً لربه تعالى في أمره ورحمته) .

الثالثة

ثم ذكر الخصيصة الثالثة. فقال (2) :

(1) انظر: الداء والدواء ص/239.

(2)

انظر: الداء والدواء ص/239.

ص: 116

(أنه سبحانه أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين فلا يكون في خلو بحيث

لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر) .

وهذا هو ما عرف عند العلماء باسم: التشهير (1) .

وهذه الخصيصة والتي قبلها قد انتظمهما قوله تعالى (2)(الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) .

المبحث الخامس:

في حكمة تحصين الرجل بالحرة دون الأمة (3)

من شروط الإحصان الموجب لحد الرجم في الزنى: أن يطأ الرجل الحر العاقل

امرأة عاقلة حرة في نكاح صحيح. فلو كان الزوج مثلا غير حر ثم زنى لم يكن

محصناً في قول جهور أهل العلم (4) وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن نفاة

المعاني والقياس ذكروا في اعتراضهم المشهور على نفي القياس أن الشرع قد فرّق

بين المتماثلين حيث جعل الحرة الشوهاء تحصن الرجل دون الأمة الجميلة.

وقد تعقب ابن القيم رحمه الله تعالى ذلك مبرزاً حكمة التشريع في هذا التفريق فقال (5) :

(وأما قولهم: وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن الرجل، والأمة البارعة

(1) انظر: في بيان التشهير والتعزير به ص/387- 193 من كتاب: التعزير في الشريعة الإسلامية لعبد العزيز عامر ط الأولى سنة 1374 هـ. بمطابع دار الكتاب العربي بمصر.

(2)

الآية رقم 2 سورة النور.

(3)

انظر: أعلام الموقعين2/ 53، 82.

(4)

انظر: المغني مع الشرح الكبير 10/127- 128- 129.

(5)

انظر: أعلام الموقعين2/ 82

ص: 117