الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
في مقدار التعزير
(1)
يتكون البحث عن مقدار التعزير في فرعين:
الفرع الأول: في أقل التعزير.
الفرع الثاني: في أكثر التعزير.
وقد تكلم ابن القيم عن مقدار التعزير في فرعيه المذكورين وبيان ذلك على ما يلي:
الفرع الأول: في أقل التعزير.
يقرر ابن القيم رحمه الله تعالى أنه ليس لأقل التعزير حداً مقدراً ولم يحك في ذلك خلافاً وفي هذا يقول (2) :
(ليس لأقله- أي التعزير- حد مقدر) .
وابن القيم رحمه الله تعالى قد تابع الإمام ابن قدامة في هذا إذ ذكر ذلك ولم يحك خلافاً وعلله بقوله (3) :
(لأنه لو تقدر لكان حداً) .
انظر: الطرق الحكمية ص/106- 109، 306- 308، وأعلام الموقعين 2/29 - 109. وإغاثة اللهفان 1/331.
(2)
انظر: الطرق الحكمية ص/306.
(3)
انظر: المغني مع الشرح الكبير 12/348
خلاف القدوري (1) من الحنفية:
لكن قد وجد خلاف في ذلك للقدوري من الحنفية إذ قدر أدنى التعزير بثلاث جلدات. كما ذكر ذلك صاحب (الهداية) معللاً له فيقول (2) :
(ثم قدر الأدنى- في الكتاب (3) - بثلاث جلدات، لأن ما دونها لا يقع به الزجر) .
الترجيح:
والذي يظهر والله أعلم- هو عدم التقدير لأقل التعزير كما حكاه الحافظ ابن القيم من غير خلاف لأن التقدير لا يكون إلا بنص من الشارع يجب المصير إليه، ولا نص على التعزير لأقله، فيبقى على التفويض بحسب ما يراه الحاكم زاجراً ورادعاً والله أعلم.
الفرع الثاني: في أكثر التعزير.
حكى ابن القيم رحمه الله تعالى الخلاف في أكثر التعزير على أربعة أقوال ودلل على قولين منها، واختلف اختياره رحمه الله تعالى. وبيان ذلك على ما يلي: القول الأول: أنه لا حد لأكثر التعزير بل هو مفوض إلى رأي الحاكم حسب المصلحة.
(1) هو: أحمد بن محمد أبو الحسن فقيه حنفي صنف المختصر المعروف باسمه في فقه الحنفية توفي سنة 428 هـ. (انظر: وفيات الأعيان 1/21 والأعلام 1/206) .
(2)
انظر: الهداية مع فتح القدير 5/116.
(3)
يريد بالكتاب: كتاب القدوري، وهو المراد عند الإطلاق. وانظر: شرح فتح القدير 5/116، والتعزير في الشريعة الإسلامية ص/282- 283.
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) :
(أحدهما - أي أحد الأقوال- أنه بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة فيجتهد فيه ولي الأمر) .
وابن القيم رحمه الله تعالى لم يذكر القائلين لهذا: وهو المعتمد من مذهب مالك (2) والوجه المقدم من مذهب الشافعي (3) . واختاره أبو يوسف من الحنفية (4) . وشيخ الإسلام ابن تيمية من الحنابلة (5) .
أدلته:
استدل ابن القيم رحمه الله تعالى لهذا القول بما وسعه من ذكر جملة وافرة من أقضية النبي صلى الله عليه وسلم في التعزير، ثم أقضية الصحابة رضي الله عنهم حيث تنوعوا في التعازير حسب المصلحة فقال رحمه الله تعالى (6) :
(إن الشارع ينوع فيها - أي في التعزيرات- بحسب المصلحة) :
فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة (7) .
وعزم صلى الله عليه وسلم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا
(1) انظر: الطرق الحكمية ص/107. وانظر أيضاً: أعلام الموقعين 2/29، 3/109 وإغاثة 1/331.
(2)
انظر: جواهر الإكليل 296/2.
(3)
انظر: نهاية المحتاج 8/22.
(4)
انظر: شرح فتح القدير 5/115، ونيل الأوطار 7/159.
(5)
انظر: السياسة الشرعية ص/107 ط الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(6)
انظر: إغاثة اللهفان 1/331- 333، وانظر أيضاً أعلام الموقعين 2/29.
(7)
انظر: تخريج الحديث وبيان الخلاف في هذه المسألة فيما تقدم ص/573 - 586.
ما منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية (1) .
وعزر صلى الله عليه وسلم بحرمان النصيب المستحق من السلب (2) .
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله (3) .
وعزر صلى الله عليه وسلم بالعقوبات المالية في عدة مواضع (4) :
وعزر صلى الله عليه وسلم من مثل بعبده، بإخراجه عنه وعتقه عليه (5) .
وعزر صلى الله عليه وسلم بتضعيف الغرم على السارق لما لا قطع فيه (6) .
وكاتم الضالة (7) .
وعزر صلى الله عليه وسلم بالهجر ومنع قربان النساء (8) .
وكذلك أصحابه تنوعوا في التعزيرات بعده:
فكان عمر رضي الله عنه يحلق الرأس (9) ، وينفي (10) ، ويضرب (11) ، ويحرق حوانيت الخمارين (12) ، والقرية التي يباع فيها الخمر.
وحرق قصر سعد بالكوفة لما احتجب فيه عن الرعية) .
وجه الاستدلال من هذه الأدلة:
ودلالة هذه الأدلة واضحة على ما استدل بها عليه من أن التعزير لا يتحدد أكثره بقدر معين بل حسبما يراه الإمام أدعى لتحقيق المصلحة، ونفي المفسدة فإن
(1) انظر: نيل الأوطار 4/139.
(2)
انظر: المرجع السابق.
(3)
انظر: المرجع السابق 4/138.
(4)
انظر: فيما يأتي ص/489
(5)
انظر: نيل الأوطار 4/139.
(6)
انظر: فيما تقدم ص/418.
(7)
انظر: نيل الأوطار 4/139.
(8)
كما في سورة التحرم (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) الآيات
(9)
انظر: تخريجه فيما تقدم ص/318.
(10)
انظر: تخريجه فيما تقدم ص/317.
(11)
انظر: تخريجه فيما تقدم ص/300.
(12)
انظر: تخريجه فيما تقدم ص/321.
فيها ما جاوز الحد كالقتل للشارب في الرابعة، وفيها ما ليس من جنس الحد كالنفي للشارب، وحلق رأسه، وفي هذا التنوع دلالة ظاهرة على هذا القول والله أعلم.
القول الثاني: أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية قدر الحد المقدر فيها.
وابن القيم رحمه الله تعالى يحكي هذا القول مبيناً القائل به مقرراً اختياره فيقول (1) :
(الثاني- وهو أحسنها- أنه لا يبلغ في التعزير في معصية قدر الحد فيها فلا يبلغ بالتعزير على النظر والمباشرة: حد الزنى، ولا على السرقة من غير حرز: حد القطع، ولا على الشتم بدون القذف: حد القذف.
وهذا قول طائفة من أصحاب الشافعي (2) وأحمد) .
وابن القيم يعزو هذا القول لطائفة من أصحابه أحمد، وهو في الواقع: رواية عن الإمام أحمد رحمه- الله تعالى كما حكاها: ابن هبيرة (3) وابن قدامة (4) وابن الهمام (5) والله أعلم.
دليله:
ساق ابن القيم رحمه الله تعالى هذا القول واستحسنه ولكنه لم يذكر أدلته وعمدة استدلال أرباب هذا القول ما يلي:
(1) انظر: الطرق الحكمية ص/107.
(2)
انظر: نهاية المحتاج 8/22.
(3)
أنظر: الإفصاح 2/ 412.
(4)
انظر: المغنى مع الشرح الكبير 10/347.
(5)
انظر: شرح فتح القدير 5/116
هو: حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه في الرجل الذي رفع إليه وقد وقع على جارية امرأته فقال: لأقضين فيك بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة جلدة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة، فوجدوه أحلتها له فجلدوه مائة (1) .
وجه الاستدلال:
استدل ابن قدامة رحمه الله تعالى بهذا الحديث لهذا القول ثم قال في وجه
الاستدلال (2) :
(وهذا تعزير، لأنه في حق المحصن وحده إنما هو الرجم) .
فهذا المواقع للجارية كان محصناً وحد المحصن الرجم فلما وجدت الشبهة الدارئة للحد جلده النعمان رضي الله عنه مائة جلدة تعزيراً، فلم يبلغ بالتعزير قدر الحد في المحصن وقد ذكر أن هذا هو قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان في هذا دلالة على أن التعزير في عقوبة في جنسها حد مقدر لا يبلغ بها الحد المقدر والله أعلم.
مناقشة هذا الدليل:
وقد تقدمت (3) مناقشة هذا الحديث من ناحية إسناده، وأن الحفاظ قد حكموا باضطرابه فما لم يصح سنده لا يسلم الاستدلال به.
وعلى فرض ثبوته: فإن هذه واقعة عين يختص حكمها بمن وقع على جارية امرأته فلا تفيد العموم كما قرره القاضي أبو يعلى من الحنابلة واستحسنه العلامة ابن قدامة رحمه الله تعالى (4) .
(1) تقدم سياق هذا الحديث وذكر مخرجيه وبيان منزلته ص/380- 393. (2) انظر: المغني مع الشرح الكبير 10/347.
(3)
انظر: ص/ 380- 393.
(4)
انظر: المغني 10/347
القول الثالث: أنه لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود.
وفي بيانه يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (1) :
(والقول الثالث: أنه لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود، إما أربعين وإما ثمانين وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة) .
التفصيل في هذا القول:
يختلف القائلون به لاختلاف أدنى الحدود بين الأحرار والعبيد، وهل الاعتبار بأدنى الحدود في الأحرار أم العبيد، وتفصيل مذاهبهم في هذا على ما يلي:
أ- فعند أبي حنيفة ومحمد، أن أكثره تسعة وثلاثون سوطاً، لأن أدنى الحدود حد الرقيق، وحده أربعون جلدة في القذف وأربعون في الخمر على النصف من الحر فيهما (2) .
ب- وعند أبي يوسف من الحنفية: أن أكثره خمسة وسبعون سوطاً، لأن أقل الحد في الأحرار ثمانون، والحرية هي الأصل فصار الاعتبار به (3) .
ج- وعند زفر من الحنفية وهو رواية عن أبي يوسف أيضاً وحكى مذهباً لمالك: أن أكثره تسعة وسبعون سوطاً، لأن أقل الحد في الأحرار ثمانون والحرية هي الأصل (4) .
د- وعند بعض الشافعية يجب النقص في أكثره عن عشرين جلدة، لأن حد
(1) انظر: الطرق الحكمية ص/107- 108.
(2)
انظر: شرح فتح القدير 5/115، والإفصاح 2/412، والتعزير في الشريعة الإسلامية ص/274.
(3)
انظر: شرح فتح القدير 5/115، والتعزير في الشريعة الإسلامية ص/274- 275.
(4)
انظر: شرح فتح القدير 5/115، والمغنى10/347 ونيل الأوطار 7/159
الحر في الخمر، أربعون، والعبد على النصف، وما فيه التعزير لا يبلغ به
الحد، والعشرون حد فلا يبلغ بالتعزير عشرين جلدة (1) .
هـ- وعند بعض الشافعية أيضاً: يجب النقص في أكثره عن عشرين في حق عبد وعن أربعين جلدة في حق حر (2) والله أعلم.
دليله (3) :
استدل أصحاب هذا القول على اختلاف وجهات نظرهم في أدنى الحدود بحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين) . رواه البيهقي (4) .
وجه الاستدلال:
هو أن الوعيد في هذا الحديث يفيد المنع من الزيادة على الحد المقدر، فلا يبلغ بالتعزير حداً مقدراً. وقد جاء لفظ (حد) منكراً فيتناول أي حد من الحدود ولهذا صار اختلاف القائلين بهذا على الوجوه المتقدمة والله أعلم.
مناقشة هذا الدليل:
وهذا الدليل مناقش بالمطالبة بثبوته إذ الاستدلال فرع الثبوت وقد حصل بالتتبع أن المحفوظ من هذا الحديث إرساله وأما رفعه فلا يثبت كما نص على ذلك الحافظ البيهقي فانه قال بعد روايته (5) :
(1) انظر: نهاية المحتاج8/ 22.
(2)
انظر: المرجع السابق أيضاً.
(3)
انظر: فتح القدير 5/115، ونهاية المحتاج8/ 22، والمغنى10/348.
(4)
انظر: السنن الكبرى 8/327. وعزاه المناوي لأبي نعيم كما في فيض القدير6/ 95.
(5)
انظر: السنن الكبرى 8/327.
(والمحفوظ في هذا الحديث أنه مرسل) .
ثم ذكر إرساله من الضحاك (1) إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قرر المحدثون ضعفه: منهم السيوطي (2) ، والمناوي (3) ، والألباني (4) وعليه فلا يتم الاستدلال به لضعفه والله أعلم.
القول الرابع: أنه لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط.
وفي بيانه يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (5) :
(والقول الرابع: أنه لا يزاد في التعزير على عشرة أسواط، وهو أحد الأقوال
في مذهب أحمد وغيره) .
وهو المختار لدى جماعة من الشافعية (6) ، واختاره الشوكاني (7) ، والصنعاني (8) .
دليله
عمدة الاستدلال لهذا القول: حديث أبي بردة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) رواه
(1) هو: الضحاك بن مزاحم الهلالي مات بعد المائة قال ابن حجر (صدوق كثير الإرسال) انظر (التقريب 1/373) .
(2)
انظر: الجامع الصغير مع شرحه فيض القدير6/ 95.
(3)
انظر: فيض القدير6/ 95.
(4)
انظر: ضعيف الجامع الصغير 5/181.
(5)
انظر: الطرق الحكمية ص/108.
(6)
انظر: السنن الكبرى 8/327- 328، وفتح الباري12/178، والمغني10/347. وشرح فتح القدير 5/116، وشرح مسلم للنووي 11/221.
(7)
انظر: نيل الأوطار 7/160.
(8)
انظر: سبل السلام 4/37
البخاري (1) ، ومسلم (2) ، وغيرهما (3) .
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث ورد بصيغة الحصر التي يمثلها النفي والاستثناء وهذه من أبلغ صيغ الحصر، فهو نص في محل النزاع: على أنه لا عقوبة فوق عشر جلدات إلا فيما ورد فيه من الشارع عقوبة مقدرة كالخمر والقذف ونحوهما لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (إلا في حد من حدود الله) ، أما ما لم يرد فيه من الشارع عقوبة مقدرة فإن العقوبة تكون فيه تعزيراً وهذا التعزير لا يتجاوز عشر جلدات والله أعلم.
مسالك العلماء في الجواب عن هذا الحديث:
إن شدة الخلاف في هذا المبحث تدور على دلالة هذا الحديث على هذا القول سلباً أو إيجاباً، وقد تنوعت مواقف العلماء المخالفين لهذا القول- للجواب عن هذا الحديث على عدة وجوه، وقد سلك ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب عن هذا الحديث مسلكاً جديداً تابع فيه شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى وجرت حوله أبحاث ومناقشات. وإلى بيان أبرز هذه المسالك في الجواب عن هذا الحديث على ما يلي:
المسلك الأول: دعوى النسخ (4) .
ذهب جماعة من الحنفية والشافعية إلى أن هذا الحديث منسوخ.
(1) انظر: البخاري مع فتح الباري 12/176.
(2)
انظر: صحيح مسلم 3/1332 بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
(3)
انظر: نيل الأوطار 7/158- 159.
(4)
انظر: شرح فتح القدير 5/116، وفتح الباري 12/178، وتلخيص الحبير4/ 79، ونيل الأوطار 7/159، وشرح مسلم11/222.
دليل النسخ:
ودليل النسخ عندهم: هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل على خلافه من غير نكير.
تعقب هذا المسلك:
وهو نقضه من حيث دعوى النسخ بالإجماع فإن الإجماع لا ينسخ السنة، لكن الإجماع إذا ثبت صار دليلاً على نص ناسخ قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) :(ومحال أن ينسخ الإجماع السنة، ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلاً على نص ناسخ) .
وقال الحافظ ابن حجر معقباً لدعوى نسخه بالإجماع (2) :
(نعم لو ثبت الإجماع لدل على أن هناك ناسخاً) .
المسلك الثاني: قصر الحديث على التعزير بالجلد، وأما الضرب بالعصا مثلاً فتجوز الزيادة لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا مسلك الإصطخري من الشافعية (3) كما حكاه الحافظ ابن حجر (4) .
تعقب هذا المسلك:
وتعقب الحافظ ابن حجر بالرواية الواردة في الضرب بلفظ (لا يضرب.... الحديث)(5) فقال (وكأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب) .
(1) انظر الطرق الحكمية ص/309.
(2)
انظر: تلخيص الحبير4/ 79.
(3)
هو: الحسن بن أحمد أبو سعيد فقيه شافعي مشهور توفي سنة 328 هـ. (انظر: وفيات الأعيان 1/129) .
(4)
انظر: فتح الباري 12/178.
(5)
انظر: نفس المرجع السابق.
وهذه الرواية في صحيح البخاري عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله)(1) .
المسلك الثالث: مسلك ابن القيم رحمه الله تعالى.
وهو حمل الحديث على التأديب الصادر من غير الولاة في غير معصية كتأديب
الأب ولده ونحو ذلك، إذ المراد بحدود الله في الحديث (حقوق الله) كما تقدم هذا مبسوطاً (2) .
وابن القيم في هذا قد تابع شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى.
تعقب ابن دقيق العيد (3) لهذا المسلك:
والإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى قد تعقب عصريه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا التأويل للحديث، بأن هذا التأويل فيه خروج عن الظاهر ويحتاج إلى نقل، والأصل عدمه وأورد عليه بقوله (4) :(ويرد عليه أنا إذا أجزنا في كل حق من حقوق الله أن يزاد على العشر لم يبق لنا شيء يختص المنع به، لأن ما عدا الحرمات التي لا يجوز فيها الزيادة هو ما ليس بمحرم، وأصل التعزير أنه لا يشرع فيما ليس بمحرم فلا يبقى لخصوص الزيادة معنى) .
موقف الحافظ ابن حجر:
والحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد ذكره لإيراد ابن دقيق العيد على رأى
(1) انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري 12/176.
(2)
انظر: ص/272- 273. وانظر أيضاً: فتح الباري12/178، ونيل الأوطار 7/159 - 160، وتلخيص الحبير4/79.
(3)
هو: محمد بن علي بن وهب القشير المشهور بابن دقيق العيد شافعي كبير توفي سنة 702 هـ. (انظر: شذرات الذهب 6/ 5، والأعلام 7/173 -174) .
(4)
انظر: فتح الباري 12/178
ابن تيمية ذكر أن هذا هو مسلك تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى. ثم دفع إيراد ابن دقيق العيد بأن المعاصي على ثلاث مراتب هي:
1-
معصية فيها عقوبة مقدرة فهذه لا يزاد على المقدر فيها.
2-
معصية من الكبائر ليس فيها عقوبة مقدرة، فتجوز الزيادة فيها على عشر جلدات لدخولها في حقوق الله.
3-
معصية صغيرة ليس فيها عقوبة مقدرة فهذه لا تجوز الزيادة فيها على عشر جلدات وهي المقصودة في الحديث.
فقال رحمه الله تعالى في بيانه (1) .
(قلت: ويحتمل أن يفرق بين مراتب المعاصي مما ورد فيه تقدير لا يزاد عليه وهو المستثنى في الأصل، وما لم يرد فيه تقدير فإن كان كبيرة جازت الزيادة فيه وأطلق عليه اسم الحد كما في الآيات المشار إليها (2) ، والتحق بالمستثنى، وإن كان صغيرة فهو المقصود بمنع الزيادة، فهذا يدفع إيراد الشيخ تقي الدين على العصري المذكور إن كان ذلك مراده) .
تأمل:
إن الذي ينظر إلى كلام هؤلاء الأجلة من العلماء يجد أن الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر الأدلة القرآنية على أن المراد بحدود الله في لسان الشارع (حقوق الله) وما فيه حق لله تعالى، وأنه يطالب بنص يفيد القصر للفظ حدود الله على معنى (ما فيه عقوبة مقدرة) ، وهذا في نظري ما لم يتحصل الجواب عليه من كلام الحافظ ابن دقيق العيد.
(1) انظر: فتح الباري 12/178.
(2)
يشير إلى الآيات التي ساقها ابن القيم في كلامه وانظره فيما تقدم ص/272- 273.
تعقب الشوكاني لهذا المسلك:
لهذا فإن العلامة الشوكاني اعترض على هذا المسلك بالجواب على مساءلة ابن القيم هذه فقرر أنه قد ظهر في لسان الشارع إطلاق لفظ الحدود على العقوبات المقدرة فقال (1) :
(واعترض على ذلك بأنه قد ظهر أن الشارع يطلق الحدود على العقوبات المخصوصة ويؤيد ذلك قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: إن أخف الحدود ثمانون)(2) .
وهذا الاعتراض من الشوكاني أيده بقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأقوى منه للتأييد اللفظ المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله إلا تقام الحدود في المساجد) (3) .
فإن الحدود هنا يراد بها العقوبات المقدرة لا مطلق حقوق الله تعالى.
الترجيح:
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم- أن حدود الله يراد بها عند الإطلاق (حقوق الله تعالى) وعليه تحمل الآيات التي أوردها ابن القيم رحمه الله تعالى. وأنها لا تنصرف إلى جنس (الجنايات التي قدر عليها عقوبات مخصوصة) إلا بقرينة صارفة كما في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وفي حديث (لا تقام الحدود في المساجد) .
وعليه: فإن لفظ (حدود الله) في هذا الحديث (لا يجلد فوق عشرة أسواط
(1) انظر: نيل الأوطار 7/ 160.
(2)
انظر: تخريجه في نيل الأوطار 7/146 في كتاب حد شارب الخمر.
(3)
انظر: في تخريجه المعجم المفهرس 2/432، عزاه لأبي داوود والترمذي وغيرهما.