المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ رأي ابن تيمية وابن القيم: - الحدود والتعزيرات عند ابن القيم

[بكر أبو زيد]

فهرس الكتاب

- ‌موضوع البحث:

- ‌دوافع البحث:

- ‌مسلك البحث الإجمالي:

- ‌خطوات العرض والدراسة في هذين المسلكين:

- ‌كتاب الحدود

- ‌توطئة

- ‌لماذا سمّيت العقوبات المقدرة (حدوداً) :

- ‌المبحث الأول:في آثار المعاصي شرعاً وقدراً

- ‌المبحث الثاني:في حكم إقامة الحد بدار الحرب

- ‌اختياره رحمه الله تعالى

- ‌سلفه في تقرير هذا الاختيار:

- ‌ استدلاله من السنة:

- ‌ استدلاله بالإجماع:

- ‌ استدلاله بقياس الأولى

- ‌مسلك الموازنة:

- ‌المبحث الثالث:في تأخير الحد لعارض

- ‌المبحث الرابع:إقامة الحد بالقرينة الظاهرة

- ‌ استدلاله بقياس الأولى:

- ‌الترجيح والاختيار:

- ‌باب حد الزنى

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأولفي الاعتراض على عقوبة الزنى ورده

- ‌المبحث السادسفي اشتراط الإسلام في الإحصان

- ‌المبحث السابع:في عقوبة الزاني المحصن

- ‌المناقشة والترجيح:

- ‌المبحث الثامن:في عقوبة من زنى بجارية امرأته

- ‌المبحث التاسع:في عقوبة من زنى بذات محرمة

- ‌المبحث الرابع عشر:في مفاسد اللوطية الصغرى

- ‌المبحث الخامس عشر:في مفاسد اللواط

- ‌بَابُ حدِّ القذْف

- ‌توطئة

- ‌ مواطن بحث القذف عند العلماء:

- ‌المبحث الخامس:عقوبات القاذف

- ‌العقوبة الأولى: جلد القاذف

- ‌العقوبة الثالثة: عدم قبول شهادته

- ‌الأولى: عدم قبول شهادته بعد حده ما لم يتب

- ‌الثانية: هل عدم قبول شهادة القاذف من تمام عقوبته أم لفسقه

- ‌الثالثة: في حكم قبول شهادته بعد توبته

- ‌الترجيح:

- ‌باب حد الخمر

- ‌توطئة

- ‌لماذا سمّيت الخمر خمراً:

- ‌حقيقة السكر بين الفقهاء وابن القيم:

- ‌أسباب السكر:

- ‌ الأولى: حكمة الشرع في تحريم الخمر

- ‌1- تحريم القطرة من الخمر

- ‌الفرع الثانيبيان مقدار العقوبة

- ‌الترجيح:

- ‌ رأي ابن حزم

- ‌ رأي ابن تيمية وابن القيم:

- ‌ التعزير: بالنفي

- ‌التعزير بالحلق للرأس:

- ‌تعزير الشارب في رمضان:

- ‌الفرع الخامس:العقوبة المالية للخمار

- ‌المبحث الخامس:إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة

- ‌باب حد السرقة

- ‌المبحث الأول:حكمة التشريع في جعل عقوبة السارق قطع يده

- ‌الشرط الخامس: انتفاء الشبهة

- ‌ العقوبات التعزيرية للسارق

- ‌المبحث السابع:في توبة السارق

- ‌باب الردة

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول:في ردة من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني:في ردّة قاذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

- ‌المبحث الخامس:في توبة الزنديق

- ‌باب التعزير

- ‌المبحث الأولفي مقدار التعزير

- ‌ المسلك الرابع

- ‌الترجيح:

- ‌المبحث الثاني:في أنواع العقوبات التعزيرية

- ‌الفرع الثاني: تنويعها باعتبار أثرها في المال

- ‌الخاتمةفي خلاصَة البحث ونتائجه

الفصل: ‌ رأي ابن تيمية وابن القيم:

ويمكن أن يستدل بمفهومه عند القائلين بالمفهوم فيقال إن هذا حديث صحيح صريح في حصر القتل في واحد من أمور ثلاثة. وقتل شارب الخمر في الرابعة ليس منها فيكون إذا منسوخاً والله أعلم.

3-

كما احتجوا أيضاً على النسخ بدعوى الإجماع على خلاف حكمه. كما هو ظاهر من كلام الترمذي المتقدم والنووي (1) .

ثانياً:‌

‌ رأي ابن حزم

الظاهري (2) :

استمر القول الأول مسطراً في كتب المذاهب الأربعة لا يكاد يحكي

خلافه حتى جاء ابن حزم الظاهري رحمه الله تعالى فأورد هذا البحث وقرر

فيه أن قتل الشارب في الرابعة حد شرعي محكم غير منسوخ. ورد على القائلين بالنسخ وأبرز سلفاً له في هذا الرأي وهو: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

ثالثاً:‌

‌ رأي ابن تيمية وابن القيم:

جاء ابن تيمية وإمامه قولان للعلماء فلم يرتض واحداً منهما وسلك

مسلكاً وسطاً بين القولين فقرر أن قتل شارب الَخمر في الرابعة يجوز

تعزيراً حسب المصلحة إذا رآها الإمام (3) .

فصار بذلك إمام مترجمنا ابن القيم ثلاثة أقوال لأهل العلم وناقش

الجمهور في مذهبهم (4) وانتهى من البحث بقتله تعزيراً حسب المصلحة

لكنه في هذه المسألة أكثر إيضاحاً من شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى.

وقد أكثر من تقرير هذا الرأي في جملة من المناسبات كما في (زاد

(1) انظر: شرح مسلم 6/88.

(2)

انظر: المحلى 11/442.

(3)

انظر: مجموع الفتاوى 7/482 - 483، 28/347، 21/ 9- 10، 34/ 217- 219

(4)

انظر: تهذيب السنن 6/ 237- 238.

ص: 308

المعاد) (1) و (الطرق الحكمية)(2) و (أعلام الموقعين)(3) .

بيان ابن القيم للخلاف:

أشار ابن القيم إلى أن أهل العلم اختلفوا في حكم قتل شارب الخمر في

الرابعة على ثلاثة أقوال مبيناً مآخذها فقال (4) :

(صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتله في الرابعة أو الخامسة واختلف

الناس في ذلك:

1-

فقيل هو منسوخ: وناسخه لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث (5) . 2- وقيل هو محكم: ولا تعارض بين الخاص والعام لا سيما إذا لم يعلم تأخر العام (6) .

3-

وقيل قتله تعزير حسب المصلحة: فإذا أكثر منه ولم ينهه الحد واستهان به فللإمام قتله تعزيراً لا حداً.

وقد صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال (ائتوني به في الرابعة فعلي قتله لم) وهو أحد رواة الأمر بالقتل.

مناقشات ابن القيم للقائلين برفع القتل:

ناقش ابن القيم أدلة القائلين برفع القتل بنقض دعوى الإجماع ونقض القول بالنسخ وذلك على ما يلي:

(1) انظر: 2/66، 3/310.

(2)

انظر: ص/12، 307.

(3)

انظر: 2/97.

(4)

انظر: زاد المعاد 3/211.

(5)

تقدم تخريجه ص/307.

يريد بالخاص حديث قتل الشارب في الرابعة أو الخامسة ويريد بالعام حديث لا يحل دم امرئ مسلم

الخ.

ص: 309

1-

مناقشته لدعوى الإجماع:

قال رحمه الله تعالى (1) :

(أما دعوى الإجماع على خلافه فلا إجماع، فإن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو قال كل منهما (ائتوني به في الرابعة فعلي أن أقتله) - وهذا مذهب بعض السلف) .

قال الأستاذ أحمد شاكر (2) :

(ويكفي هذا في نقض الإجماع أو نفي ادعائه) .

وابن القيم في نقضه دعوى الإجماع يلتقي مع ابن حزم (3) رحمه الله تعالى. تعقب هذه المناقشة:

من المعلوم أن ثبوت دعوى النقض فرع عن ثبوت الدليل الناقض وابن القيم رحمه الله تعالى نقض دعوى الإجماع هذه بما يلي:

أ- قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه (ائتوني به في الرابعة فعلي أن أقتله) .

ب- قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مثله.

ج- أنه مذهب بعض السلف.

فهل ثبتت هذه الأدلة؟

إن ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر هذه الأدلة مجردة من تتبع أسانيدها وتفحص

ثبوتها. وبيانها على ما يلي:

1-

قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:

(1) انظر: تهذيب السنن 6/ 237.

(2)

انظر: حاشية على المسند 9/88.

(3)

انظر: المحلي 11/442 وما بعدها. وكتابه الأحكام 4/ 120

ص: 310

أما قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فقد رواه الإمام أحمد (1) بإسناده عن الحسن قال:

(والله لقد زعموا أن عبد الله بن عمرو شهد بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، فإذا كان عند الرابعة ضربوا عنقه. قال فكان ابن عمرو يقول: ائتوني برجل قد جلد في الخمر أربع مرات فإن لكم عليّ أن أضرب عنقه) .

رواه الطحاوي في (معاني الآثار)(2) وابن حزم في (المحلي)(3) وعزاه الهيثمي في (مجمع الزوائد)(4) للطبراني كلهم من رواية الحسن البصري عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنه.

واللفظ المرفوع من هذا الحديث قد جاء عن عبد الله بن عمرو من غير رواية الحسن منه كما أوضح ذلك الحافظ بن حجر) والعلاّمة أحمد شاكر (6) .

أما اللفظ الموقوف من قول ابن عمرو رضي الله عنه وهو قوله (ائتوني به في الرابعة

) فمدار جميع أسانيده على رواية الحسن البصري عن ابن عمرو وهذه رواية منقطعة لأن الحسن لم يسمع من ابن عمرو على الصحيح وأنه وإن اختلف في سماعه منه فقد صرح في رواية أحمد المذكورة أنه لم يسمعه منه فكفى بهذا حجة على انقطاع هذه الرواية بصرف النظر عن الاختلاف في سماعه منه من عدمه. وهذه الرواية بهذه الزيادة الموقوفة من قول ابن عمرو لم أرَ لها شاهداً ولا متابعاً في روايته فهي إذا رواية منقطعة والانقطاع ضعف في الرواية لا تقوم معه الحجة. فلا تتم دعوى نقض الإجماع إذا بهذه الرواية المنقطعة (7) والله أعلم.

(1) انظر: مسند أحمد بتحقيق شاكر 11/186، 11/57.

(2)

انظر:2/91.

(3)

انظر: 11/366.

(4)

انظر: 6/378.

(5)

انظر: فتح الباري 12/80.

(6)

انظر: المسند بحاشيته 9/ 51- 52.

(7)

انظر: نيل الأوطار للشوكاني 7/ 156

ص: 311

ب- قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:

أما قول ابن عمر رضي الله عنهما فإن ابن القيم رحمه الله تعالى تابع ابن حزم في نسبتها إلى ابن عمر رضي الله عنهما إذ قال في رد دعوى الإجماع (1) :

(قال أبو محمد- يعني ابن حزم- وهذه دعوى كاذبة لأن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو يقولان بقتله. ويقولان (جيئونا به فإن لم نقتله فنحن كاذبان) .

وابن حزم لم يشر إلى هذه الرواية عن ابن عمر في كتابه (المحلى)(2) وقد ذكر رواية ابن عمرو وهي منقطعة كما تقدم.

وقد تتبعت هذا الأثر في مواطنه من كتب السنة فلم أرَ لذكره من أثر والإسناد

من الدين والاحتجاج به متوقف على ثبوته. ولعل ذلك دونه خرط القتاد؟.

فكيف تتم دعوى نقض الإجماع بأثر لم نعلم سلامة ثبوته؟.

على أنه في حالة ثبوته عنه رضي الله عنه (لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ وعد ذلك من ندرة المخالف)(4) والله أعلم.

ج- قول بعض السلف:

بعد أن ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن هذا هو قول ابن عمرو وابن عمر وقال (وهو قول بعض السلف)(5) .

وقد تتبعت جهدي عمن قاله من السلف فلم أرَ سوى عزو القول به إلى الحسن

(1) انظر: الأحكام لابن حزم 4/ 120

(2)

انظر: 11/ 356 وما بعدها.

(3)

القتاد: شجر صلب له شوك كالإبر. يضرب المثل بذلك للأمر الذي يصعب الحصول أو الوصول إليه (انظر: القاموس 1/ 337) .

(4)

انظر: فتح الباري لابن حجر 12/ 80.

(5)

انظر: تهذيب السنن 6/ 237

ص: 312

البصري رحمه الله تعالى. والقول في هذا كسابقه: لا بد من العلم بسنده ولم يذكر له الحافظ سنداً (1) .

على أنه في حالة ثبوته يحمل خلافه على أنه حدث بعد الإجماع والله أعلم. والخلاصة: أن دعوى نقض الإجماع غير ثابتة بدليل، وأدلة النقض لا تقوى عليه والله أعلم.

2-

مناقشته لدعوى النسخ:

ناقش ابن القيم القول بالنسخ من دليليه على ما يلي:

أ- مناقشته دعوى النسخ بالحديث العام:

قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :

(قال الإمام أحمد وقد قيل له: لم تركته؟ - فقال: لحديث عثمان لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)(3) .

ثم قال ابن القيم:

(دعوى نسخه بحديث (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) لا تصح، لأنه عام وحديث القتل خاص) .

وهذا دفع صحيح سليم من ابن القيم ودعوى النسخ بهذا الحديث كثر إيرادها

في التجاذب المذهبي مع أنه كل مذهب قد خص هذا العموم في عدد من الأحكام (4) والله أعلم.

(1) انظر: فتح الباري لابن حجر 12/73.

(2)

انظر: تهذيب السنن 6/ 237- 238.

(3)

تمام الحديث (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث (الثيب الزاني. والنفس بالنفس.

والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه الجماعة

(انظر: نيل الأوطار 7/ 7) .

(4)

انظر: المحلى لابن حزم 11/446

ص: 313

ب- مناقشة دعوى النسخ بالحديث الخاص:

قال رحمه الله تعالى (1) :

(وقيل: هو منسوخ بحديث عبد الله بن حمار: فإنما يتم بثبوت تأخره، والإتيان به بعد الرابعة. ومنافاته للأمر بقتله) .

تعقب هذه المناقشة:

يلتقي ابن القيم مع ابن حزم في هذه المناقشة في رفض دعوى النسخ هذه لكن ابن القيم أسلم منهجا وألطف مسلكاً. إذ لم يقدح في صحة حديث مدعي النسخ. أما ابن حزم فقد أضاف إلى ذلك تعليل الرواية بالضعف والانقطاع. وهذا لا شك مسلك مرفوض لصحة الإسناد بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق عدّة

كما بسط الحديث عنها الحافظ ابن حجر (3) ، والعلامة أحمد شاكر (4) في تحقيق لهما نفيس ومبسوط أشد البسط في بيان ألفاظ الرواة ومخارج الروايات وتحريرها وإبراز النتيجة بصحة أسانيدها وسلامتها.

فإذ سلمنا صحة أسانيدها فهل تثبت دعوى المناقشة بالنسخ بها دراية على ما قرره ابن القيم أم لا:

نرى ابن القيم رحمه الله تعالى يطالب فقط بتوفر شرائط النسخ على ما يلي: 1- مطالبته بثبوت التعارض بين الدليلين: دليل الأمر بالقتل، ودليل ترك القتل.

2-

مطالبته بثبوت تأخره الدليل الناسخ وهو ترك القتل عن المنسوخ وهو الأمر بالقتل.

(1) انظر: تهذيب السنن 6/ 236.

(2)

هذا خطأ صوابه (عبد الله الملقب حماراً)(انظر: حاشية المسند لأحمد شاكر 9/ 76) .

(3)

انظر: فتح الباري 12/73، 12/ 78- 81.

(4)

انظر: المسند 9/ 77- 81.

ص: 314

3-

مطالبته أن يكون الذي ترك قتله إنما أتى به بعد الرابعة. أي عدم إمكان الجمع بين الدليلين.

وهذه المطالبات عند تأمل ألفاظ الروايات نجدها متوفرة بيان ذلك كما يأتي: ثبوت التعارض بين الدليلين:

فالتعارض بين أحاديث الأمر بالقتل وبين أحاديث ترك القتل- ثابت لأن أحاديث الأمر بالقتل جاءت موجبة له بعد الرابعة على سبيل الحدية فيكون القتل بعد الرابعة حداً للشارب لا يجوز تركه ولا تجاوزه وقد جاء في بعض ألفاظ الرواة ما يفيد تسمية ذلك حداً كما في رواية النسائي من حديث جابر وفيه (فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وإن القتل قد رفع)(1) .

فكيف لا يثبت التعارض بين أحاديث توجب القتل (ثم إن شرب في الرابعة فاقتلوه) وبين أحاديث ترك القتل) ؟

ثبوت أن الشارب الذي ترك قتله إنما أتى به بعد الرابعة:

وهذا أمر واضح في جلّ الروايات بل في جميعها ومنها رواية ابن حزم (2)(ثم أتى به في الرابعة فجلد ووضع القتل عن الناس) ورواية البيهقي (3)(ثم أتى به في الرابعة فجلده، فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة فثبتت) . إلى غيرهما من الروايات.

ثبوت تأخر الدليل الناسخ:

أما الدليل الناسخ فقد ثبت تأخره عن الدليل المنسوخ من حديث جابر رضي الله عنه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم. فإنهم نقلوا حديث الأمر بالقتل ثم

(1) انظر: المحلى 11/368.

(2)

انظر: المحلى 11/368.

(3)

انظر: سنن البيهقي 8/ 314

ص: 315

أعقبوه بترك النبي صلى الله عليه وسلم للقتل وفهموا من هذا أن القتل قد رفع ونسخ وثبت الحد بالجلد. وهذا ما رآه المسلمون وتتابع عليه الرواة في مروياتهم لهذا الحديث. وأسوق هنا جملة من ألفاظ الرواة في إعقاب الحديث المنسوخ بالحديث الناسخ لترك النبي صلى الله عليه وسلم للقتل. وما فهمه الرواة والمسلمون من هذا (أنه نسخ للقتل

وإثبات للحد بالجلد) .

فمنها ما يلي:

1-

حديث جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من شرب الخمر

فاضربوه، فإن عاد فاضربوه، فإن عاد فاضربوه، فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيمان أربع مرات (فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وإن القتل قد رفع) رواه ابن حزم في (المحلي)(1) من طريق النسائي في (السن الكبرى) .

ففي هذا الحديث ترك القتل في الرابعة من النبي صلى الله عليه وسلم. وفهم المسلمون أن هذا

رفع للقتل أي نسخ له وإثبات للجلد وهذا من باب نسخ الأثقل بالأخف. وقد جاء هذا الحديث بعدة ألفاظ منها:

رواية ابن حزم في (الحلي) وفيها (.... فإن عاد الرابعة فاقتلوه فأتى رسول

الله صلى الله عليه وسلم برجل منا فلم يقتله) (2) .

فهذا من أصرح ما يكون دلالة على ترك النبي صلى الله عليه وسلم للقتل في الرابعة بعد أمره

صلى الله عليه وسلم بقتله.

وفي رواية للطحاوي (فثبت الجلد ودرئ القتل)(3) .

(1) انظر: 11/368.

(2)

انظر: 11/368.

(3)

انظر: معاني الآثار 2/92

ص: 316

وفي رواية للبيهقي (فرأى المسلمون أن الحد قد وقع حين ضرب رسول الله

صلى الله عليه وسلم أربع مرات) (1) .

وفي رواية للنسائي (ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر في الرابعة فجلده

ولم يقتله) (2) .

وزاد في لفظ (فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وإن الحد قد رفع)(3) .

قال العلاّمة أحمد شاكر أن صواب هذه اللفظة (وأن القتل قد رفع)(4) .

وفي رواية البزار (فلما كان في الرابعة أمر به فجلد الحد فكان نسخاً)(5) . وجه الدلالة من حديث جابر رضي الله عنه:

ووجه الدلالة من الحديث بمجموع رواياته ظاهرة في أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القتل

في الرابعة وقد تركه صلى الله عليه وسلم للقتل بعد أمره به فإن لم يكن هذا نسخاً فما هو معنى

النسخ؟؟

وجابر رضي الله عنه الذي روى حديث الأمر بالقتل يقول (فأتى برجل منّا

فلم يقتله) فشاهد الواقعة وبين أن هذا هو ما فهمه المسلمون فقال (فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وإن القتل قد رفع) . ولهذا قال الشافعي (هذا ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم علمته)(6) .

وقد ذكر ابن عبد البر أنه أتى به أكثر من خمسين مرة كما ذكره الحافظ ابن

حجر (7) .

(1) انظر: السنن الكبرى 8/314.

(2)

انظر: نصب الراية للزيلعي 3/373. حيث عزاه للنسائي في (السنن الكبرى) .

(3)

انظر: نصب الراية للزيلعي 3/373. حيث عزاه للنسائي في (السنن الكبرى) .

(4)

انظر: حاشيته على المسند 9/68.

(5)

انظر: نصب الراية 3/373. وانظر أيضاً حاشية أحمد شاكر على المسند 9/68.

(6)

انظر: فتح الباري 12/ 80.

(7)

انظر: فتح الباري 12/78.

ص: 317

2-

حديث قبيصة ابن ذؤيب رضي الله عنه (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(إن شرب الخمر فاجلدوه. ثم أن شرب فاجلدوه ثم أن شرب فاجلدوه، ثم

إن شرب فاقتلوه. لا يدري الزهري أبعد الثالثة أم الرابعة. فأتى برجل قد شرب فجلدوه. ثم أتى به قد شرب فجلدوه، ثم أتى به قد شرب فجلدوه. ووضع القتل. فصارت رخصة) رواه أبو داود (2) والشافعي (3) وقد صححه ابن حجر وقيل بل هو مرسل لأن قبيصة من كبار التابعين (4) .

وفي لفظ عند البيهقي (فرفع القتل عن الناس، وكانت رخصة فثبتت)(5) . وفي لفظ للترمذي معلقاً (فرفع القتل وكانت رخصة)(6) .

وفي لفظ عند البيهقي أيضاً (فرأى المسلمون أن القتل قد تأخر وإن الضرب قد وجب)(7) .

وفي لفظ رواية ابن حزم (

ثم أتى به في الرابعة فجلده ووضع القتل عن الناس (8) .

وجه الدلالة من الحديث:

ووجه الاستدلال منه كحديث جابر سواء وفي مجموع هذه الروايات أن النبي

(1) هو: قبيصة بن ذؤيب الخزاعي المدني المتوفى سنة بضع وثمانين من الهجرة كان من أولاد الصحابة رضي الله عنهم وله رؤية (انظر التقريب لابن حجر 2/122) .

(2)

انظر: سنن أبي داود 4/627.

(3)

انظر: الأم 6/177.

(4)

انظر: فتح الباري 12/ 80

(5)

انظر: 8/314 من السنن الكبرى.

(6)

انظر: جامع الترمذي 4/

(7)

انظر: السنن الكبرى 8/314

(8)

انظر: المحلي 11/368.

_________

ص: 318

صلى الله عليه وسلم حده بالجلد ولم يقتله وفهم النقلة من هذا وضع القتل عن الناس وإيجاب الجلد بدلاً من الأثقل إلى الأخف.

قال الله تعالى (1)(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) . فلا

كلام لأحد بعد كلام الله تعالى (2)(أأنتم أعلم أم الله) . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الشارب بعد الرابعة وأمره من أمر الله تعالى ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل عن الناس (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) . فجيء إليه صلى الله عليه وسلم بشارب قد شرب مراراً فلم يحده في المرة التي كان حدها القتل إلا بالجلد

فكان الأمر كما رآه المسلمون وفهموه (أن الحد بالقتل قد وضع وإن الجلد قد وجب) تخفيفاً من الله ورحمة بعباده (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً) . نهاية المطاف عند ابن القيم:

ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً اختياره (3) :

(والذي يقتضيه الدليل: أن الأمر بقتله ليس حتما، ولكنه تعزير بحسب

المصلحة فإذا أكثر الناس من الخمر، ولم ينزجروا بالحد فرأى الإمام أن يقتل فيه قتل. ولهذا كان عمر رضي الله عنه ينفي فيه مرة. ويحلق فيه الرأس مرة. ويجلد فيه ثمانين. وقد جلد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أربعين. فقتله

في الرابعة: ليس حداً. وإنما هو تعزير بحسب المصلحة) .

الترجيح:

مما تقدم من سياق الخلاف وأدلته ومناقشتها نرى أن ابن القيم وابن حزم يتفقان في مناقشة الإجماع والنسخ من أدلة القائلين بالنسخ لكن يختلفان في النتيجة

(1) الآية رقم 106 سورة البقرة.

(2)

الآية رقم 40 سورة البقرة.

(3)

انظر: تهذيب السنن 6/238

ص: 319

فابن حزم يقرر أن الحد بالقتل بعد الرابعة محكم غير منسوخ. وابن القيم يرى أنه تعزير لا حد.

وإنني بعد التأمل والنظر أوافق ابن القيم في النتيجة وأخالفه في المأخذ. فالأحاديث بقتله حداً منسوخة والإجماع على نسخ الحد بالقتل لم ينخرم في عصره والذي وقع فيه الإجماع على ترك الحد بالقتل للشارب بعد الرابعة.

ولكن إذا أدمن الناس شربها وانهمكوا فيها وتهالكوا في شربها ولم يكن الحد بالجلد زاجراً لهم فإن للإمام أن يعزر الشارب المتهالك بالقتل صيانة للعباد وردعاً للفساد.

وذلك تطبيقاً لمبدأ سياسة الراعي للرعية سياسة شرعية فيما ظهرت فيه المصلحة

كما قرر ذلك أهل العلم في مدوناتهم وذكروا له الأمثلة والنظائر كما في قتل الداعية إلى البدعة إذا افتتن به الناس ونحو ذلك (1) والله أعلم.

الفرع الرابع:

بيان أنواع من العقوبات التعزيرية لشارب الخمر.

نجد أن ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض الأبحاث المتقدمة يقرر أن للإمام

أن يزيد في الحد للخمر تعزيراً بحسب تهالك الناس فيها واستهانتهم بحدها. وقد بيّن أنواعاً من هذه العقوبات التعزيرية على ما يلي:

1-

التعزير بمضاعفة الحد من أربعين إلى ثمانين (2) .

2-

التعزير بالقتل للمدمن. وقد تقدم تفصيل القول عن هذين النوعين من التعزير (3) .

(1) هذا البحث مفصلاً في كتاب (التعزير في الشريعة الإسلامية) لعبد العزيز عامر ص/ 250- 266 ط دار الكتاب العربي بمصر سنة 1374 هـ.) .

(2)

انظر: ص/565 وما بعدها.

(3)

انظر: الفرعين الثاني والثالث.

ص: 320