الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
في خلاصَة البحث ونتائجه
الحمد لله أولا وآخراً وظاهراً وباطناً وبعد:
فهذه خاتمة تضم خلاصة معتصرة للبحث ونتائجه المنثورة بين دفتي هذه الرسالة لنضع الرسالة أمام القارئ على طرف الثمام.
في هذا المضمار جمعت ما تناثر في كتب ابن القيم من مباحثه في ذلك التي بلغت
ما يقرب من خمسين مبحثاً، يدخل في تضاعيفها مباحث أخرى تقارب عشرين مبحثاً فيها تجليته لحكمة التشريع ودفع إيرادات المعترضين على الكثير من هذه العقوبات، وفيها معرفة مدى وقوفه على مذاهب الناس واختلافهم، وما يستدل لهم به ومناقشتها، وفيها كيفية تخليصه الاختيار في المبحث عن قناعة ودراية ودربة في منهجه اللطيف المنبئ عن شفوف النظر ودقة الفهم.
ومن وراء هذه الاختيارات فقد تحصل لي نتيجة هامة وهي أنه ليس في اختياراته رحمه الله تعالى مسألة خرق فيها الإجماع، وأن هذه دعوى عريضة طالما شغب عليه بها خصومه- ويتكشف زيفها في أمثال هذه الدراسات. وعليه فإن اختياراته رحمه الله تعالى في ذلك يمكن تصنيفها على ما يلي:
1-
اختيارات وافق فيها الجماهير بما فيهم الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى. ب- اختيارات خالف فيها الأئمة الأربعة لكن الخلف فيها محكي عن بعض الصحابة أو التابعين.
ج- اختيارات وافق فيها الجمهور لكن خالف فيها مذهب الإمام أحمد.
د- اختيارات وافق فيها المذهب أو المشهور منه وخالف الجمهور.
هـ- مباحث حكى الخلاف فيها ولم يجزم برأي له فيها.
ومواقع مباحثه من هذه الفقرات على ما يلي:
أ- الاختيارات التي وافق فيها الجمهور بما فيهم الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى وهي على ما يلي:
اختياره أن الزاني المحصن لا يجمع له بين الجلد والرجم بل حده الرجم فقط. وهذا مذهب الجمهور منهم الأئمة الأربعة والرواية الثانية عن الإمام أحمد: الجمع.
اختياره: أن عقوبة الخمر حدية لا تعزيرية.
اختياره: اشتراط الحرز في السرقة. اختياره: شرط انتفاء الشبهة في حد السرقة.
اختياره: أن من سرق من شيء له فيه حق درئ عنه الحد.
تقريره: ردة ساب النبي صلى الله عليه وسلم وقتله كفراً.
تقريره: كفر من قذف عائشة رضي الله عنها وردته.
تقريره: أن التوبة بعد القدرة لا تسقط الحد اتفاقا.
تقريره: أن توبة المحارب قبل القدرة تسقط عنه الحد اتفاقاً.
ب- اختيارات خالف فيها الأئمة الأربعة لكن الخلف فيها محكي وهذه على ما يلي:
1-
إنكاره قصر معنى لفظ " الحد " على العقوبات المقدرة كما هو مدون لدى أرباب المذاهب الأربعة وغيرهم. وبيانه أن لفظ " الحد" في لسان الشارع
أعم: فيفيد ذا تارة ويفيد لفظ "حدود الله" بمعنى حقوق الله، والله أعلم.
2-
اختياره: قتل الشارب في الرابعة بالنص تعزيراً. وأن هذا قول جماعة من السلف وهو اختيار ابن تيمية، بل قال ابن حزم: يقتل حداً. وروى قتله
عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، والأئمة الأربعة على خلافه فلا يقتل، والله أعلم.
وهذا منشأ الغلط على ابن القيم وغيره من أهل العلم إذا خالف المحقق في مسألة
ما هو مدون في المذاهب الأربعة قالوا: خرق الإجماع: بينما المسألة قد تجاذبتها النصوص والخلاف.
ج- اختيارات خالف فيها مذهب الإمام أحمد أو المشهور من مذهبه ووافق فيها الجمهور، وهي على ما يلي:
1-
اختياره: وجوب حد القذف بالتعريض، وهذا مذهب مالك والثلاثة على خلافه.
2-
اختياره: إقامة حد الزنى بالحبل، وهذا مذهب مالك وأحمد في الرواية الثانية عنه، والجمهور على خلافه.
3-
اختياره: أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان: وهذا مذهب الشافعي وهو الرواية الثانية عن أحمد، والجمهور على خلافه.
4-
اختياره: أن عقوبة الشارب أربعون حداً والأربعون الزائدة عليها تعزيراً وهذا مذهب الشافعي والرواية الثانية عن أحمد.
5-
اختياره: إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة: وهذا مذهب مالك والرواية الثانية عن الإمام أحمد، والجمهور على خلافه.
6-
اختياره: أن من تمام توبة السارق ضمان قيمة المسروق إن كان قادراً، وهذا مذهب المالكية، والخلاف للجمهور.
7-
اختياره: مشروعية التعزيرات المالية. وهذا مذهب المالكية، وعن الشافعية والحنابلة في مواضع، والخلاف للحنفية.
د- اختيارات وافق فيها المذهب أو المشهور منه وخالف الجمهور، وهي على ما يلي:
اختياره: قبول توبة مرتكب الجريمة الحدية قبل القدرة عليه. وهذا مذهب الشافعي وأحمد، والخلاف للجمهور.
اختياره: أن من وطئ جارية امرأته فيعزر بمائة جلدة إن كانت أحلتها له. وهذا مذهب أحمد، والجمهور على خلافه.
اختياره: أن نكح ذات محرمه فحده القتل. وهو الرواية عن أحمد والجمهور على خلافه.
اختياره: أن عقوبة اللواط القتل بكل حال محصناً أو غير محصن. وهذا مشهور المذهب وأحد القولين عند الشافعي.
اختياره: قتل من وطئ بهيمة فحكمه حكم اللوطي، على ما يظهر من سياق كلامه. وهذا هو الرواية عن أحمد، والجمهور على خلافه.
اختياره: أن الإقرار في السرقة لا بد من تكراره مرتين. وهذا مذهب الحنابلة خلافاً للثلاثة.
اختياره: قطع جاحد العارية. وهو الرواية المقدمة في المذهب، والثلاثة على خلافه.
هـ- مباحث حكى الخلاف فيها ولم يجزم باختيار له فيها، وهي:
1-
القاذف المحدود إذا تاب هل تقبل شهادته: حكى الخلاف ولم يجزم فيه بشيء.
2-
الإتيان على أطراف السارق: تكلم على هذا المبحث ولم يفصح عن اختيار له فيه، والله أعلم.
هذه إلماعة موجزة عن اختيارات ابن القيم في الحدود والتعازير يقف القارئ من خلالها على نتيجتين:
الأولى: أنه ليس له فيها اختيار خرق فيه الإجماع.
الثانية: أنه لم يكن متعصباً لمذهب الإمام أحمد، بل قبلة مقصده وجهة جهده: نحو الدليل وما دل عليه، والله أعلم.
(2)
هذا وإن محبتي للشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى وإعجابي بشخصه وعلومه وملازمتي الدائبة لكتبه لم يمنعني ذلك من إبداء التنبيه على ما ينبغي التنبيه عليه من تقييد رأي أطلقه، أو أثر سكت عن درجته. كما لم يمنعني ذلك من إبداء ما يخالف اختياره أو التوقف حيث لم يظهر لي الوقف بجلاء وهذه المواقف أبينها على ما يلي:
1-
تقييد ما أطلقه:
في معرض بحثه لإقامة حد الزنى بالحبل: ذكر أن هذا هو قول عمر رضي الله عنه وهو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه.. وبينت أن هذا ليس على إطلاقه عند من ذكر بل هو مقيد عندهم بأمرين على ما أوضحتهما.
وفي معرض بحثه للحد بالتعريض: رأى رحمه الله تعالى وجوب الحد بالتعريض،
ولم يقيده فيما إذا احتف بقرائن تدخل التعريض بالقذف أو لا. وقد استظهرت أن رأيه وإن لم يقيده صراحة لكن يستفاد من عموم بحثه تقييده بذلك.
وفي مبحث النهي عن الانتباذ في بعض الأوعية: قررت أن رأيه هو نسخ النهي، وأن ما ذكره في بعض المواضع من النهي عن ذلك إنما ذكره للتدليل على قاعدة سد الذرائع، وهذا سائغ حين كان وقت النهي- فلا عتب على ابن القيم في هذا والله أعلم..
وفي مبحث تأخير الحدود في الغزو: ضعف الحديث في ذلك في موضع، واستدل به على التأخير للحد في موضع آخر وساقه بصيغة الجزم. وبينت أنه لا تضارب في هذا لأن الحديث ضعيف ضعفاً محتملا وعليه يحمل قوله بالتضعيف.
ب- وفي مجال التعقب والمناقشة:
في معرض بحثه رحمه الله تعالى لتأخير الحد في الغزو: استدل له من الأثر بأثر عمر رضي الله عنه من رواية سعيد بن منصور في سننه فقط. وهو ضعيف بهذا الإسناد. فبينت أن الأثر ضعيف بهذا الإسناد، وأنه أثر حسن الإسناد لكن من طريق آخر لم يسقها ابن القيم رحمه الله تعالى فذكرتها. وفي مبحث ذكره لحيلة جائزة لإبطال الشهادة على الزنى: ذكر الحيلة في مواضع مقرراً جوازها، وفي أخرى مقرراً لمنعها وإبطالها. فنبهت على ذلك، ورجحت جانب المنع على الجواز.
وفي معرض بحثه لحكم قبول شهادة القاذف بعد توبته: بين استدلال الحنفية على منع قبولها من أن هذا هو مقتضى حكمة الشرع في التغليظ والزجر. ثم ذكر رد هذا ومناقشة الحنفية فيه من الجمهور.
وأوضحت أنه لا منافاة بين الاستدلال وما نوقش به وخرجت ذلك على وجه يحسن الوقوف عليه.
وفي هذا المبحث أيضاً: أورد ابن القيم دليلا قياسياً للجمهور على شهادة القاذف بعد توبته وتعقب الحنفية له. وأوضحت أنه لا منافاة بين التعقب وما استدل به الجمهور في ذلك.
وفي مبحث حكمة الشرع في تحريم الخمر: ذكر أن مقر العقل الدماغ، فبينت
أن هذا على خلاف اختياره للقول الذي يدل عليه الكتاب والسنة من أن مقر العقل القلب، وقد ذكره ابن القيم ودلل عليه.
وكلام ابن القيم العارض في أن مقر العقل الدماغ سياق له في غير مساقه، وقد تقرر من القاعدة لدى أهل العلم: أن السياق للشيء في غير مساق له لا يعتبر رأياً لصاحبه.
وفي مبحث أن المسجد حرز لما يعتاد وضعه فيه: استدل ابن القيم عليه بحديث الترس، وناقشت ابن القيم في هذا لأن الترس ليس من آلات المسجد المعتاد وضعها فيه، وبينت وجه الحديث في ذلك.
وفي مبحث أنه لا قطع على من سرق شيئاً له فيه حق: استدل بحديث ابن عباس عند ابن ماجه ولم يبين درجته. فبينت أن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة وأقمت الأدلة من وجوه أخر.
وفي مبحث اختياره لقطع جاحد العارية: استدل عليه بقياس جاحد العارية على السارق فهو أولى بالقطع منه. فأوضحت أن هذا القياس متعقب بعدة أمور فصلت القول فيها.
وفي مبحث توبة السارق: هل من لازم توبته ضمان المسروق: ذكر استدلال
الحنفية على نفي ذلك بحديث " أنه قضى في السارق إذا أقيم عليه الحد: أنه لا غرم عليه ". وذكر تعقب الجمهور لهذا الاستدلال. فتعقب هذه المناقشة من وجهين يتضح منهما عدم تسليم التعقب عنه والله أعلم.
ج- وفي مجال الترجيح والاختيار:
بعد الوقوف على الخلاف وأدلته واختيارات ابن القيم في ذلك فإن الأمانة تقضي ألا أرجح إلا ما أعتقده، وأن أقف حيث يقف علمي وإدراكي. وإن موقفي من اختيارات ابن القيم رحمه الله تعالى يتمثل في ثلاث نقاط:
الأولى: موافقتي له في الكثير الغالب من اختياراته.
الثانية: مخالفتي له في بعضها.
الثالثة: التوقف في البعض الآخر.
وأن خلاصة البحث تقتضي بيان النقطتين الأخيرتين ومنهما يتضح بيان ما حصلت موافقته فيه، وذلك على ما يلي:
1-
ابن القيم رحمه الله تعالى يرى إقامة حد الزنى بالحبل. وقد ظهر لي عدم إقامة الحد بالحبل وفصلت وجهة نظري في ذلك.
2-
ابن القيم رحمه الله تعالى اختار قتل الشارب في الرابعة تعزيراً بالنص من السنة. وقد ظهر لي ثبوت نسخ دليل القتل في الرابعة، وأن الصحيح قتله تعزيراً بالرجوع إلى قاعدة: القتل سياسة لمن لا يندفع فساده إلا بقتله لا بموجب النص.
3-
ابن القيم رحمه الله تعالى يختار إقامة الحد على الشارب بالرائحة. وقد ظهر لي عدم إقامته في تحليل مسهب.
4-
ابن القيم رحمه الله تعالى اختار في توبة السارق ضمان المسروق إن كان له مال وقد ظهر لي ضمانه بكل حال وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة.
5-
ابن القيم رحمه الله تعالى اختار القطع بسرقة ما اعتيد وضعه في المسجد فهو حرز لذلك واستدل بحديث الترس. وقد ظهر لي عدم دلالة الحديث ولم أر
في المسألة ما يفيد الجزم بأحد القولين، وهذا مما أستخير الله فيه.
6-
ابن القيم رحمه الله تعالى اختار القطع بوجود المسروق في حوزة السارق ودلل عليه بقوله:" لم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المسروق مع المتهم.. ". ولم أزل متطلعاً إلى الوقوف على هذه الأقضية ولم يحصل الوقوف على شيء منها فسبيلي الوقف حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين..
وأختتم هذه الخلاصة المختصرة لمباحث الرسالة بما بدأت به رسالتي هذه من دعاء أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فأقول داعياً:
(اللهم أجعل عملنا كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً. ولا تجعل لأحد فيه شيئاً) .
واللهم ارحم ابن القيم رحمة واسعة تبل بها ثراه وترحم بها وحدته وتؤنس بها وحشته، وتدخله بها جنتك، وتجمعنا به فيها: آمين. والله الموفق.